الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
من منا لا يعرف كم يعشق اليهود أوروبا ؟ كم يتمنون العودة الى بيوتهم ومنازلهم التي طردوا منها في الحرب العالمية الثانية ؟ كم يتحدثون لغات أوروبا وكم يسافرون اليها ؟ وهذا سلوك اجتماعي طبيعي ، لان الانسان حين ينتزع عنوة من وطنه يتمنى ان يعود اليه وجدانيا وماديا ولكن ولظروف قاهرة يقوم بقمع أفكاره والتعبير عنها بأشكال مشوّهة احيانا.
كم منهم يحملون جوازات السفر الأوروبية والروسية ؟ كم يعشقون هناك ؟ كم يكتبون الاشعار لعواصم أوروبا ومصارفها وانهارها ؟
اذا ما هو تفسير رغبتهم الجارفة في رفع الاعلام بباب العامود في القدس العربية ؟ وكيف يمكن ان نقرأ هذا التناقض الصارخ ؟
بالفعل هو تناقض صارخ بين أوامر العقل بنسيان الماضي والتوجيهات بعدم الحنين الى أوروبا من جهة . وبين عدم قدرة الافراد على الانكار والادعاء بالانتماء لمكان اخر لا يشبههم ولا يتحدث لغتهم ولا ينسجم مع تكوينهم السوسيولوجي والسيكولجي .
في علم النفس يفسرون هذه السلوك ( سلوك السائح الأجنبي ) على انه محاولة للاحتفاظ بشيء ليس لك . فحين يسافر المرء الى مصر يقوم بالتقاط مئات الصور لنفسه مع الاهرامات ليحتفظ اكثر فترة ممكنة بهذه الاهرامات في خياله ووجدانه وتاريخه . ومثل ذلك مع برج ايفيل في باريس ومع سور الصين ومع سهول افريقيا .
حين ادّعى الامريكان انهم صعدوا على سطح القمر نشروا صورة للعلم الأمريكي هناك وهو يرفرف ( رغم ان الرياح غير موجودة على سطح القمر ليرفرف العلم ) . وكان الهدف الادعاء بامتلاك القمر . وهكذا فوق قمة جبال الهملايا حين يصعد فرق فوقه يرفع علمه ولكن هذا لا يعني ان جبال الهمالايا صارت له . ومثلها القطبين الشمالي والجنوبي .. الخ .
وفي حقيقة الامر، انهم لا يرغبون في رفع الاعلام بباب العامود في القدس بل يرغبون في التقاط صورهم وهم يرفعون الاعلام بباب العامود في القدس. لان الصورة هي محاولة للاحتفاظ بالواقع أو الحدث أو الشخص وهي شكل ظاهر وخفي من أشكال محاولة التملك، وحين يعجز الإنسان عن اقتلاع الأهرامات واخذها الى بيته يقوم بتصويرها، أو يلتقط لنفسه صورة أمام الأهرامات، وكذلك مع صديقه او صديقته أو إفراد أسرته، ومن خلال العدسة يحاول أن يمتلك البحر أو جزء منه أو صورة تذكره بجماله أو ألمه.
كنت نشرت في العام 2012 مقالة بعنوان (السيميائية) فمن الناحية السيكولوجية، كلما زاد استخدام الصورة ازدادت الرغبة في التملك، لذلك وفي حال التقاط صورة لشخص ما أو مدينة ما ، فإن هذا يعني ازدياد تعلقك بهذا الشيء، العلاقة طردية بين الذي يلتقط الصورة أو يستخدمها وبين الشيء أو الشخص المراد تصويره.
الحبيب يستخدم صورة حبيبته، وأفراد الأسرة يحتفظون بصورهم، والسجين تعلق صورة لمنزله أو أفراد أسرته فوق رأسه، ولكن اشتداد ذلك وارتفاع وتيرته يعني سيطرة الفكرة ذاتها على سلوكنا، ولذلك وفي كثير من حوادث الاعتداءات وحوادث الاغتصاب يجد المحققون الجاني يحتفظ بصورة الضحية.
وبذلك يكون الجاني قد أحرق مراحل كبيرة في الانتقال من الإعجاب إلى الحب إلى الرغبة في الامتلاك إلى العجز عن الامتلاك إلى محاولة الامتلاك بالقوة أو تحطيم الشيء وقتله.
والأمر كذلك مع الشخص ذاته أي بينه وبين نفسه، فهناك أشخاص يملئون منزلهم بصورهم، أو بصور شخص يحبونه وبشكل مبالغ فيه ويتعمدون تضخيم حجم الصورة بشكل لافت للانتباه.
وهي في ابسط حالاتها " الوقوف عند مرحلة الإنكار" فالشخص يريد ان ينكر ان والده قد مات، فيلجأ إلى الإكثار من صوره على جدار البيت، أو يخاف الفناء فيوزع صوره بكثرة على أصدقائه وعلى جداريات مواقع التواصل الاجتماعي وكأنه يريد ان يؤكد للآخرين ولنفسه انه موجود بكثرة في الذاكرة الحاضرة ، بل يطلب البعض من أولادهم غالباً إطلاق اسماءهم على مواليدهم ويشعرون براحة كبيرة جراء ذلك، وقد يصل الأمر إلى الابتزاز الاجتماعي داخل الأسرة من اجل هذه القضية ثم تتحول الى نفاق ومن ثم الى عادة مستمرة .والصدمة عند هؤلاء تكون أكبر، حيث يكتشفون أن كل محاولاتهم لم تنجح، وأن الحياة لا تعترف إلا بالمقاييس الاعتيادية.
والصورة أيضاً الذات الأخرى، فأحياناً نمزق صور مرشح للانتخابات أو نضع علامة قبيحة لشخص ظهرت صورته على المجلة او نرسم اشارة لا احب على موقع التواصل الاجتماعي لشخص ما ، مما يرتقي بصورة الشخص في مخيلتنا إلى درجة جديرة بالدراسة.. فالصورة هي المكان من جهة والزمان من جهة أخرى و " أنا" و "أنت" و "هو" أنها ما نريده نحن من الواقع ولا نريد غيره.
اذا ومن اجل ان نفهم الصورة بشكل أدق علينا ان نفهم صورة الصورة في داخلنا ...فماذا يعني أن الفلسطينيين يكثرون في صحافتهم من نشر صور النساء الباكيات الشاكيات، وماذا يعني أن الإسرائيليين يكثرون من نشر صور الجنود باللباس العسكري والمجندات وهم يضحكون؟؟
هل علق الفلسطينيون عند مرحلة اللجوء وعقدة الاضطهاد!!! هل يتلذذ الإسرائيليون وبكل سادية بانتصار جنودهم وباحتلالهم لقرى فقيرة عزلاء!!
قد يكون ذلك صحيح لكن الأمر أعمق من هذا بكثير، فإسرائيل قد تخطت الصورة النمطية لتأثير الصورة، ووصلت حد " تصميم" الصورة المراد الاحتفاظ بها، ولذلك تستخدم وسائل الإعلام الإسرائيلية الصورة "الثابتة أو المتحركة أو الكاريكاتورية" بشكل باطني وتستخدم الإيحاء تارة والتورية أحياناً قي تكريس وترسيخ مفاهيم محددة منع أية مفاهيم أخرى من التسلل والوصول إلى عقل المستهلك من الجبهة الداخلية.
فهناك "طريقة إسرائيلية" في طريقة التقاط الصورة التي سيحتفظ بها الجمهور في مخيلته وهو امر درسه الاحتلال بشكل منظم من اجل منع الجمهور الاحتفاظ بالصور الحقيقية البشعة للاحتلال واستبدالها بصور اخرى جرى العمل على ابتكارها وترتيبها ، وهناك ألوان محددة وأبعاد محددة، وشروط معقدة للصورة التي يستخدمها الإعلام الأمريكي، مما يجعل من الأمر في غاية الخطورة، ويشبه " مسح الذاكرة" من جهة "وتحكم في خيال الجمهور" من جهة أخرى. وقد رأينا كيف اختارت وسائل الاعلام الامريكي - ليس بالصدفة - صورة لمجندة تجرّ حقيبة سفر على عجلات للدلالة على الانسحاب الامريكي من العراق وهو امر مخالف للواقع ، فالاحتلال الامريكي للعراق لم يكن رحلة سياحة كما يبدو .
وكما أسلفنا من قبل فإن الصورة هي انعكاس للواقع من جهة وهي جزء من الواقع وليس كله، وهي انطباع مشروط بزمان محدد كما أنها تتأثر بالتكرار... فتكرارها يحولها الى صورة نمطية.
مثال "جندي إسرائيلي يحمل بندقيته ويطلق النار على تظاهرة"، ومثال " مجاعة إفريقيا تعني ناس ذو بشرة سوداء يعانون الجفاف" ، ومثال " البرازيل يعني راقصات السامبا" ، وأن فرنسا تعني الموضة والعطور ، وأن انجلترا تعني الساعة الدقيقة، وأن سويسرا تعني بحيرة خلابة وأناس لطفاء. وأن العرب يعني النفط ورجل يلبس دشداشة ويجرّ وراءه 4 نساء يلبسن النقاب.. وهكذا عملت وكالات الانباء على ترسيخ صور نمطية في عقولنا للشعوب الاخرى والقضايا الاخرى .
إن الصورة التي تتناقلها وسائل الاعلام تساهم بشكل كبير في خلق التصور المطلوب، ومن يتحكم بالصورة يتحكم بالخيال والتصوّر. ومقارنة واحدة بين عدد الصور في صحيفة عربية وصحيفة إسرائيلية ستظهر أن النسبة ستكون 1 – 10، أي أن الصحافة الإسرائيلية تستخدم الصورة عشرة أضعاف ما تستخدمه الصحافة الفلسطينية وبالتالي فإن قوة وقدرة تحكم إسرائيل بالصورة تفوق الفلسطينيين عشر مرات.
وهنا نسأل، ما هي الصور ؟ ومن اين مصادر الصور التي يشاهدها الإسرائيلي ؟
سنجد أن غالبية الجمهور الإسرائيلي يثق بوسائل الإعلام الإسرائيلية، أو يتعرض لوسائل الإعلام الإسرائيلية بكثافة وبشكل يومي، وبالتالي فإن معظم تأثره سيكون بالصورة التي تستخدمها وسائل الإعلام العبرية، وصولاً الى نتيجة مفادها أن تصوّر الجبهة الداخلية الإسرائيلية معروف سلفاً، فهو لا يتعرض لوسائل الإعلام الكورية أو السويدية أو الفنلندية أو الهولندية أو الايرلندية أو الإفريقية أو اليابانية أو العربية.
والصحف العبرية مليئة بالألوان، ومجرد مقارنة بسيطة بينها وبين الصحف العربية – الفلسطينية مثلا – سنجد فارقا شاسعا في قوة التأثير على القارئ ، وسنجد ان اللون الاحمر هو اللون الغالب على الصحف العبرية ، ويستخدم اللون الأحمر حتى يساعد في معالجة الشعور، وكذلك الشخص الذي يرتدي اللون الأحمر في أحد الأيام فاعلم أن خلاياه تحتاج لموجة اللون الأحمر حتى تدعم شعوره بالانتماء، فهو يعاني من عدم الانتماء، والأحمر يكون علاج حالته وهذا يفسر سر السجادة الحمراء التي تفرش لأي دبلوماسي يزور بلداً ما غير بلده، فهم يقومون بفرشها حتى يرفعوا من روح الانتماء للبلد التي يزورها .
اما اللون المفضل لدى اسرائيل فهو الازرق والازرق حسب ويكيبيديا: يمثل اللون الأزرق لون الذكورة بالنسبة لملابس الأطفال فهو يستخدم للأولاد بعكس الأحمر أو الزهري فهو لون الأنوثة ويستخدم للبنات. ويستخدم اللون الازرق الفيروزي كتعويذة من الحسد. ولا شك ان علماء النفس يعتبرون من يلبس او يفضل اللون الازرق بكثرة يعاني من مشكلة ويبحث عن حقيقة ضائعة او شيء مفقود كما انه لون روحاني لدى البعض الاخر .
ونحن نعيش اليوم في عالم تشغله المؤثرات البصرية بكامل تطورها التكنولوجي وابعادها الثلاثة حيث الاشارات الدالّة والتنميط الواعي وهو ما يمكن ان نقول انه الذاكرة البصرية ، واحيانا انت تنسى رقم هاتف ولكنك اذا امسكت بالأرقام وبدأت تنظر اليها تتذكر ذلك الرقم فورا .
ان الجماعات اليهودية التي تدعو لرفع الاعلام الزرقاء في القدس ، تعاني من عقدة الفناء وهي بحاجة ان تثبت لنفسها انها موجودة وتواصل البحث عن شيء مفقود منها في المكان الخاطئ .
ان ما يبحثون عنه موجود في أوروبا ، ولكن جرى تضليلهم وتنويمهم مغناطيسيا ليبحثوا عنه في القدس .