الكاتب: د. وليد القططي
انتهت معركة "ثأر الأحرار" ولم تنتهِ الحرب ولن تنتهي حتى تشرق شمس فلسطين، وتوقفت جولة من صراع الأحرار مع الطغاة، ولم يتوقف الصراع ولن يتوقف مع الكيان الصهيوني حتى تغيب شمسه الحارقة.
ذهب القادة الكبار الشهداء: جهاد غنام وخليل البهتيني وطارق عز الدين وإياد الحسني وعلي غالي وأحمد أبو دقة وغيرهم إلى ربهم، ولم تذهب أرواحهم وستبقى حاضرةً في قلوب الأحرار وبندقيات الثوار حتى اندثار الأشرار، وخاضت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ومعها حركات المقاومة، ملحمةً بطولية جديدة، مقدمةً فيها "الواجب فوق الإمكان"؛ المبدأ الذي انطلق منه مشروعها الجهادي المقاوم، مستندةً إلى الجانب المشرق من تاريخ الأمة وتراثها الإنساني ومخزونها الثوري.
من هذا المخزون الثوري ما صوره المفكر والأديب المصري عبد الرحمن الشرقاوي في كتاب "الحسين ثائراً والحسين شهيداً" المليء بالقيم الثورية والمضامين الإنسانية، وأهمها الصراع بين الواجب والإمكان، وتقديم الواجب على الإمكان؛ واجب الثورة على الباطل رغم قلة الإمكان.
وقد مثل صوت الواجب في الرواية الإمام الشهيد الحسين بن علي بقوله وفعله في كل مشاهد الرواية وحواراتها، ومنها قوله لأنصاره: "أنا مدعو لتلك الشهادة. إن موتاً في سبيل الله أزكى عند رب العرش من كل عبادة. سيروا بنا لننقذ الدنيا من الفوضى ومن هذا الخراب. سيروا لنعيد إلى العصر رونقه القديم وننتصر للحق العظيم".
ومثّل صوت الإمكان المبرِر لعدم القيام بالواجب في الرواية عبد الله بن جعفر، ناصحاً ابن عمه الحسين بقوله: "فلنهادنه قليلاً يا ابن عمي، فالسياسات حيل، وأنا أدعوك إلى شيء من الحكمة والتريث لتدبير الأمور، لِنْ قليلاً يا أخي كي لا ننكسر، انحنِ الآن لإعصار النذير، واستقم ما شئت بعده. هكذا تنجو بنفسك. هكذا تسلم رأسك. هكذا تحفظ ما تنهض له".
هذا هو المنطق نفسه الذي رفضه الشاعر المصري الثائر أمل دنقل في قصيدته "لا تصالح"، عندما نقل على لسان فلاسفة الهزيمة والإمكان قولهم: "سيقولون.. ها أنت تطلب ثأراً يطول.. فخذ الآن ما تستطيع.. قليلاً من الحق.. في هذه السنوات القليلة".
فكرة الواجب فوق الإمكان ناقشها الباحث والأكاديمي الفلسطيني الراحل سميح حمودة، أحد خريجي جامعة المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، في كتابه "الوعي والثورة" الذي وثق فيه ثورة الشيخ الشهيد عز الدين القسام ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني.
كتب حمودة تعزيزاً لهذه الفكرة: "إن القسام استطاع أن يكرس الحق كقيمة خالدة في الفكر والممارسة الإسلامية، وهو يتجاوز بالواجب حدود الإمكان، وجوب الثورة في أشد الظروف صعوبة وحرجاً"، فرأى أن القسام بتجربته وثورته يمثل الثلة المؤمنة القليلة في مواجهة جيش الباطل البريطاني الكبير من دون أمل في انتصار الفئة القليلة، ولكن هؤلاء قدموا الواجب المقدس على قلة الإمكانيات، فخرجوا من صراع الواجب والإمكان إلى طمأنينة الخيار والمصير.
التقاء ثورتي الحسين والقسام على فكرة الواجب فوق الإمكان التقطه المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، فكتب: "ما أعجب هذا اللقاء بين القسام والحسين! قلة مؤمنة قليلة في مواجهة جيوش جرارة، ولكنه انتصار الواجب المقدس في صراع الواجب والإمكان، روح واعية مسؤولة في وسط بحر من اللامبالاة والتقاعس. وكما كان الحسين في فجر الحركة الأول، كان القسام في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن رمزاً للإيمان والوعي والثورة والإصرار على عدم المساومة ورفض رشوة المستقبل الآمن".
فكرة الواجب فوق الإمكان التي التقطها الشقاقي من ثورتي الحسين والقسام وكل ثورات المستضعفين ضد المستكبرين هي التي دفعته إلى إبداع مشروع "الجهاد الإسلامي" من الصفر إلى معركة "ثأر الأحرار"، مروراً بكل مراحل المشروع الثوري المقاتل، مؤكداً "أن الثورة عملٌ غير مؤجل، وأن الوجوب فوق الإمكان، وأن مهادنة العدو والهروب من مواجهته حتى تكتمل ما تسمى بالقدرة المكافئة هما وهم يشل الحركة ويقتلها ويسمح للعدو بالنمو والتعاظم ويجعله في الوضع الأفضل للانقضاض".
قدم "الجهاد الإسلامي" الواجب فوق الإمكان، فرفض فكرة تأجيل الثورة على الاحتلال تحت مبرر محدودية الإمكانيات، واستبدل فقه الانتظار بفقه الثورة، فقدم أطروحة "التربية من خلال المواجهة" تجاوزاً لنظرية التربية في مرحلة الاستضعاف، وقدم إستراتيجية "مشاغلة العدو" تجاوزاً لنظرية انتظار التوازن الإستراتيجي أو التكافؤ العسكري أو مراكمة القوة، وقدم رؤية إنجاز وعد الآخرة بأيدي المؤمنين المقاومين: {عِبَادًا لَنَا أولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} تجاوزاً لرؤية المنتظرين على هامش التاريخ حتى يتحقق وعد الآخرة من دون فعل بشري، وقدم فكرة العلاقة التبادلية بين تحرير فلسطين ونهضة الأمة تجاوزاً لفكرة انتظار الخلافة أو الوحدة.
بهذا الفكر الجهادي التحرري والفقه الإسلامي الثوري والرؤية الوطنية المقاومة، استطاعت حركة الجهاد الإسلامي والمقاومة الفلسطينية جمعاء بعد عقودٍ من الثورة والمقاومة تثبيت حالة الاشتباك المسلح مع الاحتلال، وترسيخ إستراتيجية مشاغلة العدو بالنار، والوصول إلى نوع من توازن الرعب مع العدو (وليس توازن القوة)، والتفوق في صراع الإرادة ضد الكيان الصهيوني (وليس صراع السلاح).
وبهذا الفكر والفقه، تجاوز "الجهاد الإسلامي" فكرة الواجب فوق الإمكان إلى فكرة الواجب يبدع الإمكان، فأبدعت سلاحها من الحجر والسكين إلى القنبلة والصاروخ، وأبدعت نهجها الجهادي والثوري المقاوم المتميز الذي قادها إلى هذا التاريخ الطويل على درب المقاومة في كل مرة يتطلب الواجب الديني والوطني منها ذلك، وهذا ما كرسته في معركة "ثأر الأحرار" كنموذج تطبيقي لفكرة الواجب فوق الإمكان على طريق المقاومة حتى تحرير فلسطين كل فلسطين.