الكاتب:
معتصم الحارث الضوّي
توطئة
بدعوة كريمة من الدكتور رمضان بنزير، السفير والأستاذ الجامعي، رئيس المنتدى الثقافي العربي البريطاني، حظي كاتب السطور بشرف المشاركة في اللقاء الذي عقده المنتدى إسفيريا يوم 13 مايو 2023 للحديث عن تطورات المشهد السوداني، وفيما يلي استعادة لأهم الأفكار التي تطرقتُ إليها، مع شيء من الإضافة والشرح يستلزمهما تيسير الفهم على القارئ غير المتابع لتعقيدات الحالة السودانية.
أخطاء كارثية
قلتُ استهلالا إن الحرب بدأت في الواقع يوم 30 يونيو 1989 الذي شهد انقلاب الجبهة الإسلامية القومية (المسمى القديم للكيزان)، والذي استمر لتسع وعشرين سنة كالحة من عمر الشعب، وبعد أن تنفست البلاد الصعداء بعد سقوط النظام تكالبت عناصر تترى من الأخطاء السياسية القاتلة، وشملت: تسنم قوى الحرية والتغيير (يُختصر اسمها عادة ب "قحت") سُدة الحكم بتحايل على الشعب، ومحاولة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك إدخال البلاد في الفصل السابع لولا أن تدخل الجنرال البرهان واضطر حمدوك حينها إلى التراجع والاكتفاء بالفصل السادس، والسماح لقوات الدعم السريع بالتوسع والتنامي السرطاني، وتلاعب السياسيين على وتر الموازنات بين الجيش والدعم السريع، واتفاقية جوبا التي أدخلت أعدادا غفيرة من عناصر الحركات المسلحة إلى العاصمة مما أدى إلى تغيير الواقع العسكري في حاضرة البلاد، والتقزيم المريع لجهاز الأمن لأسباب انتقامية تتصل بالأداء الإجرامي للوحدة السياسية فحسب، وتفكيك هيئة العمليات إرضاء لمخاوف/ طموحات قائد الدعم السريع، ونصوص الاحتيال السياسي، وأعني بها الاتفاق الإطاري ومسودة الدستور المنسوبة إلى نقابة المحامين.
عناصر المشهد السياسي السوداني
يتألف من القوى التالية:
1. الجيش.
2. الدعم السريع.
3. الحركات المسلحة.
4. قوى الحرية والتغيير.
5. لجان المقاومة والتي يعدُها الكثيرون الصوت الناطق باسم الشعب.
6. بقية الأحزاب السياسية.
7. الكيزان (المسمى المحلي لتيار الإخوان المسلمين).
أشرتُ إلى أن الدعم السريع قد يغيب سريعا عن المشهد إذ يتعرض لضربات قاتلة في الأيام الحالية، وسيتبع ذلك سقوط مروع لحليفه السياسي "قحت"، مما سيحصر المعادلة السياسية على العناصر الخمس المتبقية، علما بأن السواد الأعظم من الشعب يرفض عودة الكيزان إلى المشهد السياسي بأي شكل، ويرى كذلك عودة الجيش إلى ثكناته ليمارس مهمته الرئيسة في حماية الوطن والمواطن.
القوى الإقليمية والدولية
القوى المؤثرة من دول الإقليم وبقية العالم في المعادلة السودانية الشائكة:
- دول الجوار.
- السعودية.
- الإمارات.
- قطر.
- تركيا.
- إيران.
- العدو الصهيوني.
أما القوى الدولية ذات المصالح المباشرة في السودان:
- أمريكا.
- بريطانيا.
- فرنسا.
- ألمانيا.
- روسيا.
- الصين.
أشرتُ إلى أن حرب المصالح وتقاطع النزاعات قد صنع من السودان –على النسق السوري- ساحة جديدة لتصفية بعض الخلافات الجيوسياسية الطاحنة بين دول مؤثرة في المشهد السياسي الدولي.
العوامل التاريخية
ثمة عوامل تاريخية تلقي بظلالها القاتمة على المشهد السياسي السوداني، ومن أهمها:
- الحلم القديم لدى عرب الصحراء الكبرى بميلاد قائد عظيم سيخلصهم من الشتات والتيه، لتبزغ شمس مملكتهم الظافرة. هذا الحلم القديم تداولته الأزمان، وتعاقبت على اعتناقه الأجيال، بل وظهرت شذرات منه في أدبيات بعض الحركات الصوفية في المنطقة المذكورة، ولذا تسارع القادمون من عمق الصحراء زرافات ووحدانا للالتحاق بابن القبيلة الذي سيتحقق الحلم على يديه.
- مشروع بن غوريون لتقسيم السودان، والذي تطور عبر الزمن، متمظهرا في وثيقة كيفونيم لتقسيم العالم العربي الصادرة عام 1982، وكذلك مخططات المفكر الاستراتيجي الراحل برنارد لويس، وانعكاساتها اللاحقة في مشروعيّ الشرق الأوسط الكبير والجديد.
من المعلوم أن أحد الأركان الرئيسة لعقيدة الأمن الصهيوني (أقرها في مطلع الخمسينيات ديفيد بن غوريون أول رئيس للوزراء، وموردخاي ماكليف أول رئيس لأركان الجيش الصهيوني) تعزيز الفوضى وإنشاء دويلات متحاربة في دول الحلقة الخارجية لتضغط كالكماشة على دول المواجهة، وكان للسودان نصيب من تلك المخططات منذ مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، وتجدر الإشارة إلى وصية بن غوريون التي ما زالت مبدأ جوهريا في عقيدة الأمن الصهيوني "إن إسرائيل لن تكون بأمان، ولن تكون قوة إقليمية عظمى ما لم تكن محاطة بفسيفساء من الدويلات الطائفية والعرقية".
ثمة تساؤل مؤرق في هذا الصعيد: هل اللقاء بين مشروعيّ بن غوريون وحميدتي صدفة، أم أن التقارب الحميم بين الجهتين خلال الأعوام الماضية كان –على الأقل جزئيا- للإعداد لما يحدث الآن؟!
العوامل الجيوسياسية
رسمت الأهمية الجيوسياسية للسودان: الموقع الفذ بوابةً لإفريقيا من الجانب الشرقي، والساحل الطويل في وسط البحر الأحمر، ورابطا بين مصر شمالا ومنطقة القرن الإفريقي جنوبا، علاوة على توفر موارد هائلة من المعادن (الذهب والنحاس والحديد واليورانيوم والكوبالت والمنغنيز.. إلخ)، ورصيد بشري ضخم كما ونوعا، وثروات مائية ورعوية كبيرة- مكانة فذة تدفع الحالمين والطامعين في تناول شطيرة من الكعكة المغرية إلى التسابق والتنافس الحاد، ولعل أهم التقاطعات الجيوسياسية ذات الصلة بالسودان ما يلي:
أ. القوى الدولية
- العودة الأمريكية إلى القارة الإفريقية على ظهر القضية السودانية، ورغم أن الاستراتيجية الأمريكية للسودان لا ترغب بوجود دولة قوية، إلا أن التطورات مؤخرا تدفع أمريكا إلى اتخاذ موقف الحادب الأمين للعبور باتجاه القارة مرة أخرى بعد إهمال كامل استمر لعقدين من الزمان تقريبا.
- النزاع الأمريكي الروسي، والسودان مرشح لأن يكون إحدى الساحات لممارسة الحرب بالوكالة.
- النظرة الروسية إلى البحر الأحمر بأنه بُحيرة روسية، وانتشار ميليشيا فاغنر واضطلاعها بأدوار مهمة في عدة دول إفريقية، وبشكل خاص في السودان حيث تتبادل المنافع مع قوات الدعم السريع: الحماية في مقابل الحصول على الذهب وغيره من المعادن النفيسة.
- حرب الطاقة الدولية، وللسودان موقع منها باعتباره زاخرا بالعديد من المعادن النفيسة علاوة على مخزونات ضخمة من معادن الأرض النادرة.
- الحضور الاقتصادي الصيني في إفريقيا عامة، والعسكري في القرن الإفريقي خاصة، وحرصها البالغ على الانتصار في حربها الاقتصادية ضد أمريكا، علاوة على تأمين وجودها الاقتصادي في القارة، مما يدفعها إلى استقدام المزيد من القوات إلى المنطقة لتأمين مصالحها الآنية، وأيضا مصالحها المستقبلية المتمثلة في مبادرة الحزام والطريق والتي تُعد المنطقة جزءا فائق الحيوية منها.
- مصالح ألمانيا وفرنسا في استغلال المعادن في إقليم دارفور، وحرص فرنسا على تأمين المنطقة الغربية من السودان لأنها تتاخم تشاد، والتي تُعد دولة ذات أهمية ملحوظة في الأجندة الفرنسية لإدارة العلاقة مع الدول الإفريقية.
ب. دول الجوار والمحيط الإقليمي
- سد النهضة؛ البعبع الذي يهدد الأمن المائي للسودان ومصر، وما قد يشهده السودان من إعادة صياغة جيوستراتيجية تؤثر على ذلك المشروع الضخم الذي تعدُه إثيوبيا محور سياستها الخارجية وعماد اقتصادها المستقبلي.
- التحالف الاستراتيجي بين الجنرال حفتر وحمديتي، حيث يجمعهما التنقيب عن الذهب، والتجارة البينية وتشمل السلاح، علاوة على تزويد حميدتي (وبعض الحركات المسلحة السودانية الأخرى أيضا) للجنرال حفتر بالمرتزقة للمشاركة في قتاله ضد حكومة الوحدة الوطنية ومقرها طرابلس، وللأسف فإن وجود أولئك المرتزقة ساهم بشكل ملحوظ في تأجيج الصراع الليبي الداخلي والعصف بالاستقرار في البلاد.
- الأمن الوطني المصري وإحدى متطلبات تأمينه هو استقرار الأوضاع في السودان.
- تنامي القلق من سيطرة الجماعات الإرهابية على الصحراء الكبرى، علاوة على خطر الإرهاب القادم من الصومال، ومؤخرا من موزمبيق متجها إلى الشمال بصورة حثيثة.
- حرص إثيوبيا على بقاء السودان في حالة ضعف وخور مما سيضعف المطالبات السودانية بإيجاد حل مستدام لقضية سد النهضة، ويخمد السعي السوداني لاستعادة منطقة الفشقة.
- عداء النظام الإريتري للحكومة السودانية، وتحالفه مع الدعم السريع، علاوة على مساعيه المعلومة للضرب باستقرار وأمن السودان.
- علاقة الحب/ الكراهية التي تربط الخرطوم وجوبا، واستمرار حكومة جنوب السودان في تعليق المسائل الخلافية بين البلدين، وعلى رأسها مسألة أبيّ.
- مخاوف الحكومة التشادية من تغوّل الدعم السريع في بلادها، خاصة إذا اقترن ذلك بدعم واسع من المجموعات العربية في تشاد والدول الإفريقية الأخرى مما قد يُضعف سلطة الدولة المركزية في انجمينا، ويُعيد حالة عدم الاستقرار التي سادت في البلاد خلال العقود الماضية.
- سحب الغطاء الأمريكي العسكري من دول الخليج العربي، مما خلق حالة من القلق لديها وسعيا في ذات الوقت للتنويع في مصادر السلاح وإعادة ترتيب الأوراق السياسية بتوثيق عُرى التعاون مع روسيا والصين، علاوة على التقارب مع إيران في محاولة جادة لتصفير عداد المشكلات الكبرى.
- السعي التركي للحصول على موطئ قدم في البحر الأحمر، وقد تضاءل ذلك الدور بعد صعود أثناء الأعوام الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع عمر البشير.
- أوكازيون القواعد الأجنبية في منطقة القرن الإفريقي، وما يسببه من إشعال التوتر في المنطقة وما يرتبط بذلك من أصداء جيوسياسية تتردد في الدائرة الجغرافية الأوسع التي تصل إلى باكستان وأفغانستان شرقا، وحتى تركيا وروسيا شمالا.
- المصالح السعودية في ضمان الأمن والاستقرار في شرق السودان خاصة، والوضع في البلاد بشكل عام، خاصة وأن المنطقة الغربية من السعودية تضم الحرمين الشريفين، ومدينة ينبع الصناعية، وخطوط الأنابيب والمنشآت الخاصة بصناعة النفط، والعديد من الصناعات، علاوة على مشروع نيوم العملاق، والذي يعد إحدى الركائز الجوهرية للمستقبل الاقتصادي للدولة.
- المصالح الإماراتية والقطرية، وربما يصح جمعهما في سلة واحدة بسبب تشابه الأهداف، والتي تتمثل في الحصول على حصة دسمة من المنطقة المطلة على البحر الأحمر لأغراض جيوسياسية واقتصادية، علاوة على الاهتمام بالمشروعات الزراعية الضخمة التي تكفل الأمن الغذائي.
- الاصبع الصهيوني الذي يحرص على عدم استقرار السودان واستمراره مكبلا بقيود الحرب الأهلية واستلاب الإرادة الوطنية.. إلخ.
مما سبق يتضح مدى تعقيد العوامل الجيوسياسية ذات الصلة بالسودان، وما تحمله القوى المختلفة؛ إقليمية ودولية، من مخاوف وأطماع، تختلف درجاتها كثيرا، وتتباين إمكانيات تطبيقها أيما تباين.
سيرورة الحرب
إحدى التعريفات الشائعة للحرب أنها تعبير عن الفشل الذريع للسياسة، ولكن بخلاف المظاهر المعهودة من قتل ودمار.. إلخ، فإن النزاع الحالي يشي بالسمات الرئيسة للعقلية التي تخطط للدعم السريع:
أ. جرائم اُرتكبت ضد المؤسسات الحكومية
- سرقة/ تدمير السجلات في مصلحة الأراضي.
- سرقة سجلات المحاكم والهيئة القضائية.
والهدف كما يتضح هو محو الذاكرة المؤسسية الحكومية تمهيدا للإحلال الديموغرافي لتوطين عرب الصحراء الكبرى في السودان، وإنشاء مملكة يخططون لامتدادها من البحر الأحمر وحتى موريتانيا عبر شريط الساحل والصحراء.
ب. جرائم التجريف الثقافي والتاريخي والعلمي
- نهب متحف الهيئة القضائية.
- تدمير المتحف العسكري.
- تهديم المتحف القومي.
- تدمير متحف التاريخ الطبيعي.
- تخريب جامعة أم درمان الأهلية والاحفاد وجامعات أخرى.
- تدمير بعض الآثار التاريخية في أم درمان.
- تدمير مركز البحوث و الاستشارات الصناعية- شمبات
والهدف هو محو الذاكرة الجمعية للشعب تمهيدا للتغيير المذكور أعلاه، وتُعد ممارسات الدعم السريع في هذا الصعيد تطورا غير مسبوق في تاريخ السودان على الإطلاق.
مآلات النزاع
تتعدد السيناريوهات لما قد يُسفر عنه النزاع الحالي من نتائج:
أولا: انتصار الجيش على قوات الدعم السريع
هذا هو الخيار الأقرب إلى الواقع باعتبار الأوضاع الميدانية، كما أنه الخيار الأحب للمزاج الشعبي، خاصة وأن قوات الدعم السريع قد اتخذت من التدمير الممنهج للمؤسسات العامة والخاصة واغتصاب الحرائر.. إلخ ممارسة يومية، مما أثار الغضب العارم حتى لدى أتباع بعض الأحزاب التي تميل إلى الدعم السريع، ولكنها لا تصرّح من باب الحياد الجبان واتقاءً للغضب الشعبي.
تكلفة هذا الخيار ما زالت تُدفع، ولذا من العسير التكهن بمستوى الخسائر البشرية والمادية التي ستلحق بالاقتصاد الوطني، ولكنه بلا شك خيار باهظ رغم أن يحظى بمساندة شعبية واسعة ترغب في الانتقام من الدعم السريع، وترى ضرورة سحقه بالكامل.
في حال انتصار الجيش على الدعم السريع فإن الشارع السوداني يتوقع، بل وأنه سيطالب بحزم، بإحداث تغيرات جذرية تنال من المعادلة الفاشلة التي سادت منذ سقوط الإنقاذ، وأولى المتطلبات هو عودة الجيش إلى دوره الأصلي حاميا للبلاد والعباد، ورقيبا محايدا يضمن صحة ونقاء العملية الديمقراطية من بُعد، وقبل ذلك فإن الشارع سيطالبه بإنهاء صيغة التحالف المُربكة بينه والكيزان، وفي حال تغافُل الجيش أو رفضه لتلبية هذين المطلبين فإنه سيفقد المساندة الشعبية الجارفة التي يجدها حاليا، مما قد يخلق عداء مع قطاعات عريضة مع الشعب؛ تمُجُ الدعم السريع، وفي ذات الوقت ترى عودة الكيزان بأي شكل أو مقدار خطا شديد الاحمرار.
ثانيا: هزيمة الدعم السريع للجيش
رغم تقدم الجيش في العديد من المحاور داخل العاصمة (معظم الولايات تشهد هدوءا حذرا)، إلا أن الحرب كان طابعها السجال وتبادل المواقع بشكل دوري، مما يدفع للتساؤل عن احتمال هزيمة الدعم السريع للجيش، وسيطرته النهائية على الدولة.
ميدانيا، هذا السيناريو بعيد عن الواقع، خاصة وأن الجيش استعاد عافيته خلال الأسابيع المنصرمة، واستطاع توجيه ضربات جذرية لقوات الدعم السريع، علاوة على أن المساندة الخارجية التي كان الدعم السريع يتوقعها لم تأتِ في الغالب.
هذا الخيار مثير للذعر الشعبي، ونرى تمظهراته في المساندة الواسعة للجيش رغم أصابع الاتهام التي توجّه إليه بضلوعه في ارتكاب جرائم سابقة، وتكالبه على منازعة المدنيين السلطة منذ سقوط نظام الإنقاذ.
علاوة على ما تقدم، فإن هذا الخيار كارثي بالنظر إلى مستقبل السودان باعتبار الدعم السريع لا يحمل أي مشروع فكري أو إيديولوجي. كما أنه لم يطرح أي رؤية لإدارة الدولة، بل لم يتجاوز محطة التفكير الميليشيوي البحت، وثقافة التمجيد الأعمى للأشخاص والقبائل دون تقديم خطاب وطني جامع ذو سمات واضحة.
ثالثا: انسحاب الدعم السريع إلى دارفور
في لحظة الكتابة (20 مايو 2023)، ثمة دلائل ظرفية تشير إلى أن الدعم السريع قد يلجأ لخيار الهروب إلى دارفور بغرض التقليل من الخسائر الباهظة التي تكبدها مؤخرا؛ بغرض التقاط الأنفاس وإعادة ترتيب القوات تمهيدا:
أ. إما للسيطرة على دارفور وتأمينها منطقةً لإنشاء النواة للمملكة الحُلم، ثم الانطلاق باتجاه العاصمة وإعادة المحاولة، أو
ب. الاكتفاء بدارفور غنيمة، وتحصينها ضد الحركات المسلحة والأهالي باستقدام عرب الصحراء الكبرى بأعداد ضخمة مما يغيّر التركيبة الديموغرافية وخريطة الهيمنة العسكرية في دارفور على حد سواء.
كلا الخيارين سيلقى معارضة واسعة من الحركات المسلحة والأهالي في دارفور على حد سواء، خاصة وأنهم ذاقوا الأمرّين من الدعم السريع أثناء العقدين الماضيين، وما زالت في النفوس جروح لم تبرأ. كما أن أيا من السيناريوهين سيثير فزع الرئيس التشادي، والذي بدت عنه بالفعل تحركات تشير إلى مخاوفه بهذا الخصوص، وشملت استعانته بفرنسا لتأمين حدوده الغربية (لمنع عرب الصحراء الكبرى من القدوم إلى السودان) وحدوده مع إفريقيا الوسطى (لسد الطريق البديل نحو السودان). كما يُلاحظ أن السيد/ مِنيّ أركو مِنّاوي، رئيس حركة جيش تحرير السودان وحاكم دارفور، قد فطن إلى هذا الاحتمال، ولذا غادر الخرطومب بصحبة قواته في الأسبوع الأول من مايو 2023 متوجها إلى دارفور ليكون على أهبة الاستعداد، ولا شك أن قادة الحركات المسلحة (والذين آثروا الحياد حتى الآن) يُفاضلون احتمالات أيلولة الصراع، ويدرسون سيناريوهات المجابهة لأي محاولات من جانب الدعم السريع للهيمنة على دارفور.
هذا الخيار المخيف هو بداية الحرب الأهلية يا للأسف، والتي ستشمل الجميع بلا استثناء.
خاتمة
تشير السيناريوهات أعلاه والتي تستند إلى استقراء المعطيات الميدانية وغيرها من العوامل الجيوسياسية (الدولية + دول الجوار والمحيط الإقليمي) إلى أن الاحتمال الأرجح هو انتصار الجيش السوداني على قوات الدعم السريع في المعركة الآنية، وفي ذات الوقت فإن القراءة المتعمقة للواقع الجيوستراتيجي ذو الصلة بالسودان تشير إلى احتمال تحوّله إلى ساحة لتصفية نزاعات القوى الكبرى؛ عسكريا وسياسيا، مما سيُطلق العنان لنزاع دامٍ يستمر لسنوات عديدة، ويُلحق ضررا كبيرا بطموح الشعب السوداني إلى الاستقرار والنماء.
ما تقدم يفرض واجبا أخلاقيا على كافة القوى الداخلية الفاعلة في الحيطة والكياسة والتحلّي بالمسؤولية، علاوة على ضرورة الارتقاء عن الصغائر والترهات، وتغليب المصلحة العليا للبلاد قبل فوات الأوان.