الكاتب: د. جمال زحالقة
أطلقت القيادات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، هذا الأسبوع، سلسلة من التهديدات لإيران وحلفائها مؤكدة أن إسرائيل تواصل بناء ما يسمى بالتهديد العسكري الجدي والموثوق، وأن الخيار العسكري ما زال على الطاولة. وأجمعت هذه القيادات، التي توالت، هذا الأسبوع، بإلقاء كلماتها في «مؤتمر هرتسليا»، الذي يعقد سنويا ويعد أهم منصة للتعبير عن الهواجس الأمنية والاستراتيجية في إسرائيل. وأجمع المتحدثون على أن إيران تمتلك مواد نووية مخصبة، أضعاف ما كان بحوزتها عندما قام الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، قبل خمس سنوات بالضبط، بالانسحاب من الاتفاق النووي، وأنها أصبحت دولة عتبة نووية وقريبة جدا لتوفير كل ما تحتاجه لإنتاج سلاح نووي. وتناقلت وسائل الإعلام الدولية تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي، الجنرال هرتصي هليفي، حول إيران وتطورات سلبية في الأفق من شأنها أن تدفع الى «عمل».
عقد مؤتمر هرتسليا السنوي هذا الأسبوع بعنوان «رؤى واستراتيجيات في حقبة اللا يقين». ويُعقد هذا المؤتمر بانتظام منذ عام 2000 ويقوم بتنظيمه معهد السياسات والاستراتيجية في «جامعة رايخمان»، الذي يرأسه منذ عام 2017 الجنرال المتقاعد، عموس جلعاد، الذي تولى في السابق مناصب عسكرية وأمنية ومخابراتية وسياسية حساسة. والاسم الكامل للمؤتمر هو «مؤتمر هرتسليا حول ميزان المناعة والأمن القومي لإسرائيل»، ويتناول سنويا قضايا استراتيجية ويناقش المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية وتأثيرها على الأمن القومي الإسرائيلي بمفهومه الواسع.
موقع مركزي
وتشارك في المؤتمر قيادات سياسية إسرائيلية وازنة وقادة الجيش ورؤساء الأجهزة الأمنية وكبار الضباط المتقاعدين، ويساهم فيه أيضا ضيوف من أوروبا والولايات المتحدة، وفي بعض السنوات انضم إليه مشاركون رسميون من فلسطين والأردن ومصر. وتعكس الكلمات في المؤتمر، في العادة، اتجاه الريح في أوساط النخب الإسرائيلية المتنفذة، وهناك من يرى بأنه بمثابة «التئام للعقل الجماعي الاستراتيجي المفكر في إسرائيل»، وهناك اهتمام واسع بتلخيصاته وتوصياته، فهي من جهة تعكس تفكير نخب متنوعة ومن جهة أخرى تؤثر على سياسات مسؤولين في موقع اتخاذ القرار ورسم الاستراتيجيات.
احتلت إيران وحلفاؤها موقعا مركزيا في مداولات مؤتمر هرتسليا، الذي انعقد يومي الإثنين والثلاثاء هذا الأسبوع. وكان في طليعة المتحدثين رئيس الأركان الإسرائيلي، الذي قال بأن «إيران تقدمت، أكثر بكثير من الماضي، في تخصيب اليورانيوم. نحن نستطيع ضرب إيران ولا نتجاهل ما تحاول أن تبنيه حولنا، وإيران لا تستطيع أن تتجاهل ما نقوم به نحن»، وفي تهديد غير موارب قال: «هناك تطورات سلبية في الأفق من شأنها أن تؤدي بنا الى أفعال (ضد إيران)». الجنرال هرتصي معروف باهتمامه بالفلسفة وبالأدب وهو بالتأكيد يعرف ما كتبه الأديب الروسي، انطون تشيخوف، في إحدى رسائله: «لا يمكن للمرء وضع بندقية مملوءة بالرصاص على المسرح إذ لم ينو استعمالها. من الخطأ تقديم وعود لا تستطيع الوفاء بها». ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار «شروط» استعمال البندقية الإسرائيلية ضد إيران، فهي حتى الآن بلا رصاص، وملؤها به مرهون بقرار في واشنطن. هذه البندقية معدة حتى الآن للتهديد وليس لإطلاق النار في المشهد الثاني أو الثالث – كما اشترط تشيخوف. ومع ذلك أثار التصعيد الكلامي ردود فعل. فور صدور هذه التصريحات تراجع الشيكل الإسرائيلي أمام الدولار واليورو، ما يدل على حساسية الاقتصاد الإسرائيلي في هذه الأيام بالذات حين يضاف احتمال عدم الاستقرار الأمني إلى حالة الانقسام السياسي الحاد في المجتمع الإسرائيلي حول قضية «الانقلاب على القضاء».
وكان الاتجاه العام في هذا المؤتمر تصعيديا تجاه إيران، حيث ساد الرأي بأن العودة الى الاتفاق النووي مستبعدة وبأن على إسرائيل البحث عن وسائل أخرى لمنع وصول إيران الى سلاح نووي يهدد أمنها القومي. وفي هذا المجال قال القائد السابق لسلاح الجو الإسرائيلي: «حين تصدر الأوامر (بضرب إيران) سيطرح الجيش المخططات. المعلومات المخابراتية تُجمع طيلة الوقت والقدرات الهجومية تتطور باستمرار. وبمرور الوقت تزيد الجهوزية. بعد إلغاء الاتفاق النووي قررت قيادة الجيش وضع إيران على رأس سلم الأولويات».
كما تحدث بنفس الاتجاه، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، الجنرال أهرون حليوة، والمدير العام لوزارة الأمن، الجنرال إيال زمير، ورئيس مجلس الأمن القومي الحالي، تساحي هنجبي والسابق، إيال حلوتا. وخلاصة حديثهم أن إيران تقترب من صنع السلاح النووي وأن إسرائيل مصرة على منعها من ذلك، وهي تحضر نفسها عسكريا لتوجيه ضربة للمرافق النووية الإيرانية، بمشاركة أمريكية ودولية إذا أمكن، وإن لا فإن إسرائيل ستفعل ذلك وحدها. هذه التهديدات ليست موجهة الى إيران فقط بل الى الدول الغربية حتى «تتدخل» وتقوم بالضغط الجدي على إيران لتجنب خطوات جنونية إسرائيلية. إسرائيل، بالطبع، ليست مجنونة بل تتظاهر بالجنون.
الاقتراح الأمريكي
مهما كانت النوايا خلف المقولات والتصريحات الإسرائيلية، وسواء كانت جدية أم مجرد تهديد كلامي، فإن لها تأثيرا على الواقع بعدة اتجاهات، ومنها قلق أمريكي فعلي من أن تقدم إسرائيل على خطوات عسكرية تجر المنطقة الى حرب شاملة، وتضع الولايات المتحدة في ورطة كبيرة. الولايات المتحدة ليست معنية بالدخول بمواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، وهي غير معنية أيضا بمواجهة غير مباشرة أو مباشرة تبعا لهجوم إسرائيلي على إيران. من حيث المبدأ الولايات المتحدة ملتزمة بحماية إسرائيل، لكنْ هناك سؤال كبير حول مدى استعدادها لحماية عدوان إسرائيل على المرافق النووية الإيرانية.
ظاهريا يصرح المسؤولون الأمريكان أن إسرائيل «حرة» في قرارها بشأن ضرب إيران، لكن الولايات المتحدة تتحرك باتجاهات عدة لضبط هذه الحرية الإسرائيلية. من هنا يمكن تفسير ما جاء في الخبر الذي أورده الصحافي الإسرائيلي براك رافيد، في موقع «واللا» الإسرائيلي وموقع «أكسيوس» الأمريكي بأن الولايات المتحدة اقترحت على إسرائيل فكرة «الانخراط في التخطيط العسكري المشترك فيما يتعلق بإيران»، وهي ليس فقط تقترح بل تلح في اقتراحها. رافيد مؤلف كتاب «سلام ترامب: اتفاقيات أبراهام والانقلاب في الشرق الأوسط»، معروف بمصادره الموثوقة، استند فيما نشره الى ثلاثة مسؤولين أمريكيين وإلى عدد المسؤولين الإسرائيليين، ويمكن التعامل مع الخبر كمعلومة صحيحة. ووفق ما جاء فيه، فقد تكرر طرح الاقتراح من قبل وزير الدفاع الأمريكي لويد يوستون، ورئيس الأركان الجنرال مارك ميلي، وقائد المنطقة الوسطى (التي تشمل الشرق الأوسط)، الجنرال أريك كوريلا. واعتبر مسؤولون أمريكان الفكرة مقترحا غير مسبوق ويمكنه أن يؤدي الى رفع مستوى العلاقة بين الجيشين بشكل كبير وجدي.
أما في إسرائيل فهناك تردد في التعامل مع الموضوع خوفا من يؤدي العمل المشترك الى تكبيل أيدي إسرائيل بكل ما يخص ضرب المرافق النووية الإيرانية. ويحاول الأمريكان طمأنتها بالقول بأن المقصود هو تبادل وثيق للمخططات والخبرات والمعلومات لتطوير الاستعدادات لمواجهة محتملة مع إيران. وكان مستشار الأمن القومي الأمريكي جون سيليفان قد صرح بأن الولايات المتحدة تقر بحق إسرائيل في العمل بشكل مستقل ضد إيران. ومع ذلك يمكن القول بأن إسرائيل غير جاهزة وحدها لضرب إيران، لكنها تصر على إبقاء التهديد عالقا في الهواء وعلى أن يعلم الجميع بأنها مستقلة في قرارها وأنها قد تضرب إيران فعلا.
خمس سنوات
في ندوة حوارية في «معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي» اعترف المتحدثون بأن إيران التزمت بكل بنود الاتفاق النووي قبل إلغائه من قبل الرئيس ترامب، وبأن إيران زادت بشكل دراماتيكي من قدراتها النووية بسبب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق. وهناك نقاش داخل إسرائيل حول مدى الحكمة من دفع ترامب لإلغاء الاتفاق، خاصة وأنه لم تكن هناك «خطة ب» بديلة.
أما بخصوص الموقف العربي فلا بد من القول بأن بأنه مثل خطأ استراتيجيا فادحا، فقد عارضت دول الخليج الاتفاق، الذي عقد عام 2015 وعملت على إفشاله واستنجدت بإسرائيل وراهنت على ترامب ودعمته في إلغاء الاتفاق عام 2018، وساهمت عبر اتباع سياسة غبية في زيادة التوتر في المنطقة، وخدمت من حيث تدري ومن حيث لا تدري الأجندة الأمنية والاستراتيجية الإسرائيلية. لقد وقعت دول الخليج في المصيدة الإسرائيلية وآن الأوان للخروج منها، بمد جسور التفاهم مع إيران وتركيا والابتعاد عن تل أبيب، خاصة وأن من راهنوا على قدرات إسرائيل العسكرية، سوف يكتشفون عاجلا أم آجلا، أن البندقية الإسرائيلية خالية وهي للتهديد فقط، ولا يبدو أن وضعها على المسرح كفيل بجرجرة الولايات المتحدة الى التدخل كما فعلت في السابق في مواقع أخرى.