الكاتب: نهاد أبو غوش
لا يعرف المرء، وحتى أولئك المتخصصين وأكثرنا متابعة، أي حلقات الهجوم الإسرائيلي الشامل على الفلسطينيين هي الأخطر: هل هي الانتهاكات اليومية للمسجد الأقصى ومخطط التقسيم الزماني والمكاني؟ أم عمليات القتل الميداني والاغتيالات اليومية، أم الحروب المتكررة على قطاع غزة والتي لا تنتهي جولة منها حتى تبدأ الجولة التالية ؟ أم الضغط المتواصل على السلطة ماليا وأمنيا لاختزال دورها إلى مجرد وكيل أمني وحاجز بين دولة الاحتلال والشعب الفلسطيني، أم هو الهجوم المنفلت من قبل المستوطنين المدعومين من جيش الاحتلال على القرى الفلسطينية وأراضيها كما يحصل الآن في قرى المغيّر وجالود وقريوت وترمسعيا؟ ولكن الثابت أن هذه الحلقات وغيرها مترابطة ومتكاملة، وهي تُقاد من قبل حكومة اليمين الفاشي المتطرف بمشاركة كل مؤسسات دولة الاحتلال وأدواتها من جيش ومستوطنين وأجهزة حكومية مدنية ووسائل إعلام وحتى الجهاز القضائي. حتى المعارضة التي تقدم نفسها لجمهورها وللعالم أنها قوى ديمقراطية وليبرالية وحريصة على سيادة القانونن تتواطأ مع حكومة الفاشيين، وتؤيدهم وتغطي اعتداءاتهم في كل ما يتصل بالهجوم على الشعب الفلسطيني، فيصرف كل من غانتس ولابيد وساعر وغيرهما من أقطاب حكومة التغيير دعمهم غير المشروط لحكومتهم حتى لدى ارتكابها جرائم حرب موصوفة كما جرى في العدوان الأخير على قطاع غزة.
وإذا كنا قد اعتدنا على أنماط معينة من هذه الاعتداءات كالاغتيالات والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى، فثمة الآن ما يمثل إضافة جديدة ومتميزة لترسانة الحرب والعدوان وهو المستوى الذي بلغته اعتداءات المستوطنين من تنظيم وتخطيط واستمرارية تؤكد أن اعتداءاتهم ليست مجرد حوادث عابرة ومتفرقة كما ظن البعض عند وقوع محرقة حوارة في أواخر شباط الماضي، ولا هي مرتبطة بأطماع محدودة لبعض المستوطنين الذين يبتكرون كل يوم ألوانا جديدة للاستيطان وآخرها ما يسمى "الاستيطان الرعوي"، بل هي جزء من المخطط الأشمل لحسم الصراع مع الفلسطينيين والذي تُعدّ السيطرة على أكبر مساحات ممكنة من الأراضي الفلسطينية الحلقة المركزية في هذا المخطط.
تشريع العودة إلى "حومش" وباقي مستوطنات جنين من قبل الحكومة والبرلمان (الكنيست)، ثم الإعداد لضم المحميات الطبيعية في الضفة والتي تصل مساحتها إلى مليون دونم اي ما يقارب 17% من المساحة الإجمالية لأراضي الضفة الغربية، ومحاولات تهجير سكان الخان الأحمر وما جرى ويجري في مسافر يطا وجنوب الخليل عموما، ومسارعة قوات الاحتلال لهدم أي منشأة أو مرفق من مرافق الحياة الطبيعية في المناطق المصنفة (ج) من عيادات صحية ومدارس وحظائر للمواشي وحتى آبار جمع المياه، والأنكى من ذلك تنظيم اعتداءات وحشية على السكان من إغلاق تعسفي للطرق إلى ترويع العمال والمزارعين وطلبة المدارس، وإحراق المحصيل الزراعية والممتلكات وتسميم مصادر الشرب، كل ذلك يؤكد وجود مخطط يهدف إلى جعل حياة الفلسطينيين في مناطق (ج) وحتى بعض المناطق المصنفة (ب) و(أ) أمرا لا يطاق ولا يحتمل، وفي غياب أشكال الدعم الرسمية والدولية لصمود الأهالي وبقائهم، يضطر بعض المواطنين إلى تفضيل النجاه بأنفسهم وباولادهم وبحياتهم والمغادرة الطوعية لقراهم وأراضيهم كما جرى للعشرات من سكان منطقة عين سامية وبعض التجمعات البدوية بين القدس وأريحا.
حاليا يتركز هذا المخطط الإجرامي الاستيطاني في القرى الممتدة إلى الشرق من الطريق الرئيسي بين رام الله ونابلس ويشمل قرى المغير وجالود وقريوت وترمسعيا ودوما وقصرة وصولا إلى بيتا، وليست بعيدة عن الذاكرة جريمة إحراق عائلة دوابشة التي وقعت في هذه المنطقة عينها ولا المواجهات التي أدت إلى استشهاد الوزير زياد ابو عين في ترمسعيا.
ليس بالضرورة البحث عن تفاصيل خصوصية أو استثنائية لأي منطقة فلسطينية لتفسير استهدافها، فكل الأراضي الفلسطينية مستهدفة لسببين كبيرين هما القضاء على أي فرصة مستقبلية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وبالتالي حشر الفلسطينيين في أماكن سكناهم الحالية داخل حدود المدن والبلدات الرئيسية من دون اي حقوق وطنية وسيادية على الأرض، والسبب الثاني ما تكتسبه اي منطقة بعينها من مزايا اقتصادية وجغرافية واستراتيجية، وهنا يمكن أن نلاحظ أن المنطقة التي نتحدث عنها والممتدة بين رام الله ونابلس تشكل حلقة وصل بين الأغوار والداخل المحتل عام 1948، وبين شمال الضفة ووسطها وجنوبها، كما أن عزلها والسيطرة عليها يمكّن المحتلين من تفتيت الضفة وشرذمتها إلى معازل مقطعة الأوصال يمكن السيطرة على كل جزء منها بمجرد نصب حاجز عسكري أو بوابة.
يخوض الأهالي نضالات بطولية ضد هذا الاستهداف لوجودهم، تكفي الإشارة إلى أن قرية المغيّر وحدها قدمت عدة شهداء من خيرة أبنائها وفتيتها خلال السنوات الأخيرة خلال المواجهات مع الجيش والمستوطنين، وكذلك قدمت بيتا والجوار عشرة شهداء خلال فعاليات الدفاع عن القرية وجبل صبيح والتي شكلت نموذجا مميزا في أنماط المقاومة الشعبية، لكن المؤسف في كل ذلك هو أن فعاليات مواجهة الاستيطان هي فعاليات موسمية ومتقطعة، وتجري على طريقة الهبّات الاستثنائية ولم تتحول بعد إلى نموذج مستدام للمواجهة وهو هدف لا يمكن أن ينجح من دون توفير كل أشكال الدعم الرسمي ليس للمتظاهرين والمنخرطين في الفعاليات فقط، بل لشروط الحياة في هذه القرى المستهدفة من خلال دعم قدرة السكان على أن ينعموا بحياة كريمة وآمنة، ودعم حقوقهم في الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والطرق وإمدادات الماء والكهرباء والاتصالات والخدمات الجيدة وفرص العمل، فدعم صمود الناس لا يتم ببيانات التضامن معهم بل بتوفير فرص الحياة الكريمة لهم ولعائلاتهم.
وتكاد معارك الدفاع عن الأراضي المستهدفة في كثير من المناطق تقتصر على أصحاب الأراضي المهددة الذين يتكبدون أحيانا مصاريف باهظة لإتمام معاملاتهم القانونية من إثبات ملكيتهم للأراضي وتوكيل محامين علاوة على حاجتهم للتفرغ لمثل هذه المعارك.
معركة الدفاع عن الأراضي المهددة هي معركة كل الفلسطينيين من أجل مستقبلهم ودولتهم وحقهم في تقرير المصير، وينبغي أن يجد ذلك ترجمته العملية واليومية في برامج السلطة وخططها فضلا عن برامج القوى السياسية والمؤسسات الأهلية ونضالها العملي وليس اللفظي فقط ضد الاحتلال.