السبت: 11/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

شطرا برتقالة (حول الانفصال بين قطاع غزة والضفة الغربية)

نشر بتاريخ: 12/06/2023 ( آخر تحديث: 12/06/2023 الساعة: 21:40 )

الكاتب:

الدكتور سعيد زيداني




في مثل هذه الأيام من عام ٢٠٠٧، كانت المعارك الدامية على أشدها بين قوات الأمن الفلسطينية الرسمية من طرف وقوات حركة "حماس" من الطرف الآخر؛ تلك المعارك التي انتهت قبيل منتصف حزيران بانفصال قطاع غزة وسلطته عن الضفة الغربية وسلطتها. ومنذ ذلك الوقت، وتحديدًا منذ العام ٢٠٠٩، والمحاولات السيزيفية لرأب الصدع تتوالى: لقاءات وحوارات وتفاهمات عديدة في عواصم دول عربية وغير عربية كثيرة، وبمساعدة وسطاء كثيرين، عربًا وغير عرب، كلها فشلت في إعادة توحيد ما انشطر في حزيران الحزين من ذلك العام، وذلك رغم الرغبة الشعبية الجامحة في كلا الشطرين بذلك. ويعرف العارفون الآن، وبعد التجربة على مدار ١٦ عامًا بالكمال والتمام، أن مرد الفشل هو أساسًا هواجس ومخاوف كل من حركتي فتح وحماس: هواجس ومخاوف الثانية من فقدان سيطرتها على قطاع غزة، وهواجس ومخاوف الأولى من فقدان سيطرتها على الضفة الغربية. علمًا بان هناك عوامل إضافية، داخلية وأخرى خارجية، تعمل على إدامة الانقسام وتغذية تلك الهواجس والمخاوف المتبادلة.

أمًا تلك العوامل التي تعمل على تكريس أو إدامة الانقسام فيمكن إجمالها بالتالي:
أولآ: ليس سرًا أن حكومات إسرائيل المتعاقبة، فيما تعمله أو تحجم عن عمله، حريصة على تكريس واقع الانفصال بين قطاع غزة والضفة الغربية، ولأسباب غير خافية، أمنية وسياسية وديمغرافية.
ثانيًا: منذ نكبة عام ٤٨، فإن فترة الانفصال القهري بين قطاع غزة والضفة الغربية تفوق فترة الاتصال والوحدة السياسية بينهما. فكما نعرف جيدًا، لقد خضع القطاع للإدارة المصرية بعد نكبة ٤٨ بينما خضعت الضفة الغربية للحكم الأردني. ومنذ الانقسام عام ٢٠٠٧، يخضع القطاع لحكم حركة حماس بينما تخضع الضفة لحكم السلطة الفلسطينية، وعلى راسها حركة فتح. هذا ناهيك عن الفصل القهري بين سكان الشطرين خلال الانتفاضتين الأولى والثانية.
ثالثًا: الفصل بين الشطرين، سواء بعد النكبة أو بعد الانقسام أو خلال الانتفاضتين، خلق واقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا وقانونيًا مختلفًا بين الشطرين، واقعًا يجعل إعادة الوحدة السياسية، وكما كان عليه الحال قبل الانفصال، أكثر تعقيدًا وصعوبة.
رابعًا: كما لا يعمل الصراع/التنافس بين المحاور الإقليمية، والتي تتحيز إليها سلطتا كلا الشطرين، على تجاوز واقع الانقسام (أقل ما يقال).

على ضوء ما ورد أعلاه، فليس هناك ما يدعو إلى التفاؤل بأن مزيدًا من الحوارات واللقاءات والتفاهمات والوساطات بين "الإخوة الأعداء" سوف يؤدي إلى المصالحة الحقيقية بينهما، وبالتالي تجاوز واقع الانقسام السياسي البغيض. وإذا كان الأمر كذلك، يظل السؤال التالي يدق جدران الخزان: كيف، وبأي الطرق البديلة، يتسنى تجاوز مثل هذا الواقع؟ وفي اعتقادي، يتم، إذا تم، تجاوز مثل هذا الواقع بإحدى الطريقتين التاليتين: الأولى، ضغط شعبي بدرجة عالية من الحدة والزخم، وتحت طائلة التمرد آو التهديد به، لإلزام الطرفين بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه أو التفاهم بشأنه سابقًا. وهو ما لا أراه قادمًا في المدى القصير. أما الطريقة الثانية فتتطلب تعديل النظام السياسي الفلسطيني، وباتجاه تبنى نوع من الفيدرالية في العلاقة بين الشطرين، قطاع غزة والضفة الغربية. هذا يعني، فيما يعنيه، تحويل كل من الشطرين إلى إقليم يحظى بالحكم الذاتي ويرتبط فيدراليًا مع الإقليم الآخر، والذي يحظى بدوره بالحكم الذاتي على نفس المستوى، بينما يخضع الإقليمان إلى حكم مركزي، تمامًا كما هو الحال في الدول التي تتبنى النموذج الفيدرالي نظامًا للحكم.

جدير ذكره في هذا الصدد بأن من أهم فضائل نظام الحكم الفيدرالي توزيع السلطة (عوضًا عن مركزتها واحتكارها) ومراعاة خصوصية الإقليم أو الأقاليم (وهي في العادة خصوصية إقتصادية/اجتماعية وثقافية)؛ وفي حال قطاع غزة، هذه الخصوصية تتمثل بخلوه من المستوطنات وبالسيطرة الفلسطينية على كامل مساحته كما كانت قبل حرب ١٩٦٧. ومن فضائله الهامة أيضًا تيسير إجراء الانتخابات العامة، سواء على مستوى الإقليم أو المستوى الفيدرالي. ومن شأن ذلك كله، إذا تحقق، تبديد قدر كبير من هواجس ومخاوف كل من الحركتين الحاكمتين حاليًا، حركة حماس في غزة وحركة فتح في رام الله. أمًا سلطات الحكم المركزي، الرئيس والحكومة والمجلس التشريعي والمحكمة العليا، فتتمحور أساسًا حول التشريعات ذات الطابع الدستوري، العلاقات مع الأطراف الخارجية للأغراض المختلفة، تعزير صمود الناس في أرض الوطن، حمايتهم والدفاع عن حقوقهم، توحيد رزمة القوانين النافذة، وهكذا.

ولكن مثل هذا التحول نحو الفيدرالية لن يحدث، وإذا حدث فلن يفلح في رأب الصدع، في غياب التحول المنشود الآخر: إعادة بناء وإحياء دور منظمة التحرير الفلسطينة، وعلى أسس ديمقراطية وتشاركية. وإذا كان الأمر كذللك، فإن الأهم والأجدر والأولى، والذي بدونه لا تتحقق المصالحة الحقيقية بين حركتي وسلطتي فتح وحماس وأنصارهما، هو المباشرة بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على الأسس المذكورة. فالمنظمة هي البيت الوطني الجامع والواسع، وهي التي (يجب أن) تبت بشأن البرنامج السياسي كما بشأن أهداف النضال الوطني وأدواته ووسائله، وهي أيضًا السقف السياسي لسلطة الحكم الذاتي. وما الانقسام الحالي، في اعتقادي، إلا عرض من أعراض خراب هذا البيت الوطني. بكلمات أخرى، قضية المصالحة على مستوى السلطة ليست، ولا يمكنها أن تكون، منفصلة عن قضية إعادة بناءً وإحياء دور م.ت.ف. على الأسس المذكورة.

وللإجمال أقول: لإعادة بناء م.ت.ف. على أسس ديمقراطية وتشاركية أولوية (من حيث الأهمية الوطنية) على تجاوز واقع الانقسام بين الشطرين. وفي اعتقادي، فإن إعادة بناء وإحياء دور م.ت.ف. هو أيضًا شرط غير قابل للهزم لتحقيق تلك المصالحة المشتهاة. وإذا لم يكن هذا الشرط كافيًا، فقد يكون التحول نحو نوع من العلاقة الفيدرالية بين الشطرين عاملًا مساعدًا لتجاوز واقع الانقسام السياسي المقيت. فالشراكة على مستوى المنظمة المتجددة ديمقراطيًا ومقترح الفيدرالية المذكور كفيلان بتبديد هواجس ومخاوف كل من حركتي فتح وحماس وأنصارهما، مخاوف حماس من فقدان سيطرتها على القطاع وتبعات ذلك، ومخاوف فتح من فقدان سيطرتها على الضفة وتبعات ذلك. وختامًا، إذا كان واقع الانقسام حقًا من أعراض خراب البيت الوطني الفلسطيني الذي كأن واسعًا وجامعًا، أفليس من الحري المباشرة في إعادة إعمار هذا البيت تمهيدًا لإعادة لم شمل "الأحباب" الذين تفرقوا قبل وخلال عام ٢٠٠٧، ومضى كل في طريق؟!




سعيد زيداني
أستاذ الفلسفة في جامعة القدس وجامعة بير زيت سابقًا
القدس
حزيران/ يونيو ٢٠٢٣