الكاتب: حميد قرمان
برز على الساحة السياسية مؤخرا السؤال حول بقاء السلطة الفلسطينية أم انهيارها؟ وأصبحت حالة الجدل تستشري في عقول المهتمين بحثا عن جواب لهذا السؤال. فمن جهة تعمل إسرائيل على إضعاف السلطة لدرجة انهيارها، ومن جهة أخرى أصبحت القيادة الفلسطينية تدرك مواطن الضعف بالسلطة والخلل الناتج من السياسات الإسرائيلية أولا، وانعدام التجديد في نهجها القيادي بما يتناسب مع التطلعات الشعبية الفلسطينية التي بدأت تطفو على السطح لتسمح لبعض الأجندات الإقليمية بالتوغل في الشارع الفلسطيني بحثا عن بديل للسلطة ثانياً. وما بين هذا وذاك خيط رفيع، بحيث يكون انهيارها نتيجة طبيعية لضعفها.
الصراع اليوم أصبح يأخذ أبعادا مختلفة؛ فالسلطة الفلسطينية وحكومتها وإن كانت ضعيفة إلا أنها ما تزال تمتلك برنامجا سياسيا واقتصاديا حقق نجاحا.. ومثال ذلك ما حققته حكومة الدكتور محمد اشتية هذا العام من نسب نمو اقتصادية تجاوزت الـ 3.5 في المئة. فضلا عن المحافظة على استمرارها بدفع التزاماتها المالية تجاه موظفيها رغم العقوبات التي فرضتها أجهزة الاحتلال الحكومية. هذا من الناحية، ومن ناحية أخرى ما زالت السلطة الفلسطينية تتمتع بقبول دولي سياسيا.. كون المجتمع الدولي لن يقبل بديلا عن “حل الدولتين” المتفق عليه في المرحلة الحالية لحل الصراع القائم منذ سبعة عقود.
جوهر السؤال الذي طرحته في بداية المقال يتلخص في عنوان واحد فقط: هل ضم الضفة الغربية من قبل إسرائيل يخدم سياساتها في التعامل مع هذا التكتل البشري الفلسطيني القابع على أرض تنظر إليها إسرائيل بنظرة الأمن القومي فقط أم لا؟
تدرك إسرائيل ومؤسساتها أن أي إعلان رسمي لضم الضفة الغربية أو (يهودا والسامرة) بحسب عقيدتهم، ستقابله ردود فعل دولية عنيفة، لن تستطيع تجاوزها أو التخفيف من حدتها سياسيا واقتصاديا، لذلك لجأت دولة الاحتلال إلى محاولة إعادة بسط سيطرتها الأمنية على مناطق متفرقة من الضفة الغربية، مستغلة مخططا إيرانيا تنفذه حركتا حماس والجهاد الإسلامي بتحويل الضفة الغربية إلى منطقة نفوذ إيراني جديد، بحيث سمحت إسرائيل وأجهزتها الأمنية بنوع محدود من التمدد المسلح لحركتي حماس والجهاد الإسلامي وبعض العناصر المسلحة التي تتلقى أموالا من إيران، مع تضخيم ذلك إعلاميا، ليقابل هذا السماح في ما بعد بحملات عسكرية منتظمة، روجت إسرائيل لها دوليا للقضاء على ما يسمى “الإرهاب الفلسطيني” المتنامي داخل مناطق الضفة، وهو مجرد غطاء سياسي لإعادة بسط السيطرة الأمنية الإسرائيلية على تلك المناطق، كواقع جديد يسعى إليه اليمين الإسرائيلي الحاكم كنتيجة حتمية لضعف السلطة أو انهيارها.
بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي؛ أعلن قبل أيام معدودة في اجتماع له مع لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، عدم سماحه ويمينه المتطرف بقيام دولة فلسطينية، مع الإبقاء على السلطة الفلسطينية، وهو بتصريحه هذا يمارس خديعة سياسية اعتاد عليها منذ سنوات طويلة، فهو اليوم معني بانهيار السلطة الفلسطينية، لا التفاوض معها، فمن يريد دعم السلطة لا يغذي الانقسام الفلسطيني، ولا يسمح ببيع الأسلحة لعناصر مدعومة إيرانيا، ولا يقرصن من أموال السلطة ولا يسمح بإعادة انتشار جيش دولته في أرجاء الضفة في سبيل خلق حكم “كانتوني” إداري ذاتي لمناطق منفصلة تسهل الهيمنة عليها.
الوقائع التي بدأ منها هذا المخطط تتلخص بحقيقة واحدة؛ أن الأسلحة التي تصل إلى عناصر حماس أو الجهاد الإسلامي أو العناصر من التنظيمات الأخرى، أسلحة من داخل إسرائيل ذاتها وبعلم أجهزة استخباراتها، وتماما كما جرى في قطاع غزة قبل 17 عاما، ساعدت إسرائيل حركة حماس في السيطرة على غزة، وإنهاء حكم السلطة الفلسطينية، من أجل القضاء على الكيانية التمثيلية السياسية الفلسطينية، بانقسام تغذيه شهريا بأموال تأتي لحركة حماس بعد موافقة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ومطالب حياتية أقل بكثير من سقف اتفاق أوسلو الذي تهاجمه حماس واليمين الإسرائيلي معا. واليوم تعاود أجهزة إسرائيل الأمنية الكرَّة، بالسماح لحركتي حماس والجهاد وبعض العناصر المدعومة إيرانيا بالتنامي في الضفة الغربية، لتكون ندا ثم بديلا للسلطة الفلسطينية ليسهل عليها تنفيذ مخططاتها التي تسعى إليها، من خلال الحفاظ على الضفة تحت سيطرتها الأمنية والسياسية دون إعلان رسمي بالضم تصطدم به مع القوى الدولية المؤيدة لحل الدولتين.
المعضلة تكمن في أن مصالح من يعمل على أرض الضفة الغربية تنصب، بشكل أو بآخر، على القضاء على السلطة الفلسطينية، فلا أحد يرغب ببقاء السلطة أو ما تمثله من كيانية سياسية فلسطينية، فإسرائيل تسعى لإعادة سيطرتها على الضفة دون إعلان رسمي بذلك، وإيران وما تدعمه من فصائل كحركتي حماس والجهاد الإسلامي تسعى لإيجاد نموذج كما هو حاصل في لبنان أو اليمن؛ غياب للسلطة مقابل فصائل مدعومة إيرانيا تتحكم جزئيا بالشارع الفلسطيني وتمارس من خلالها ابتزازا سياسيا على القوى الدولية والإقليمية.
ولأن إسرائيل تعي جيدا حجم الانقسام داخل حركة حماس، وأن حماس غزة أو حماس السنوار لا علاقة لها بحماس الضفة، لذلك يتم التعامل مع حماس غزة بقيادة إبراهيم السنوار بحسابات بعيدة تماما عمّا يجري بالضفة، إدراكا منها أن حماس الضفة تعاني من ضعف سياسي وتنظيمي لن يسمح لها بتشكيل حكم داخل الضفة كمساحة جغرافية موحدة، بل سيكون صراعا فصائليا وعشائريا ينتهي بتدخل إسرائيلي لصالح طرف على حساب آخر من خلال مجالس إدارية منفصلة تتحكم بها أجهزة الأمن الإسرائيلية.
لذلك المطلوب اليوم لوقف هذا المخطط؛ أن تخلق السلطة الفلسطينية أفقا سياسيا جامعا لأطياف وقطاعات شبابية فلسطينية بعناوين سياسية وفكرية واضحة، يتيح لها بذلك أن تستجمع قواها من جديد للدفع مجددا لإعادة هيكلة دوائر منظمة التحرير أولا، والسلطة الفلسطينية ومؤسساتها ثانيا، وتعيد ثقة الشارع بالمشروع السياسي الفلسطيني المتمثل بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، لكي لا تسمح لمخططات اليمين الإسرائيلي المتطرف بالمرور عبر بعض العناصر المسلحة الغوغائية التي يعلو صوتها بين حين وآخر. وهذا يتطلب بالمحصلة يدا حديدية تضرب بها هذه العناصر. فإن كنا نريد أن نكون دولة؛ فيجب أن يكون هناك سلاح واحد، وسلطة واحدة، وتمثيل سياسي واحد، وإستراتيجية مقاومة سلمية واضحة ومتفق عليها من قبل الجميع، كي لا يكون لليمين الإسرائيلي الهارب من أزماته الداخلية الحُجة في توسيع رقعة العنف داخل مناطق الضفة لإنهاء المشروع السياسي الفلسطيني.