الكاتب:
بقلم اللواء المتقاعد: أحمد عيسى
المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
إسرائيل التي نعرف المحصنة والمنيعة قومياً، والمتفوقة عسكرياً وإقتصادياً وتكنولوجيا وإجتماعياً وعلميا، والمرعبة لجيرانها نتيجة لتفوقها عليهم نوعياً ونتيجة لمتلاكها قوة ردع نجحت في ردعهم الى ما قبل بداية الألفية الجديدة حيث بدأت الإنسحاب دون مفاوضات من مناطق احتلتها بالقوة العسكرية، جنوب لبنان اولاً العام 2000، وقطاع غزة ثانياً العام 2005، والتي وظفت قوتها اللامتكافئة ضد كل طرف من محيطها يقوم بعمل أونشاط سلمي أو حربي ترى مؤسسات التقدير فيها أنه ينطوي على تهديد للدولة أكان أنياً، أم متوقعاً.
حيث بدأت هذه الدولة المرسومة في الوعي العربي وفق الصورة المرسومة في الفقرة أعلاه تشهد منذ أن تولت الحكومة الحالية حكم البلاد في بداية العام الجاري وشروعها الفوري في تطبيق فهمها لمبادئ وأهداف الصهيونية التي تؤمن أنها التي تمتلك التفسير الصحيح لها، وطبقاً لرؤيتها لمستقبل الصراع مع الفلسطينيين، حالة غير مسبوقة من الشرخ والتفكك والإنقسام السياسي والإجتماعي الذي بات ملموساً في كل بيت وشارع على طول وعرض البلاد.
والأهم أن مؤسسات الدولة، لا سيما المؤسسة الأمنية بمكوناتها العسكرية والإستخبارية، والتي أسست وبنيت منذ البدايات الأولى لصناعة الدولة في المنطقة على أن تكون عصية على التأثر بالإختلافات السياسية والإجتماعية، ، قد ثبت أنها غير عصية وغير منيعة أو محصنة من التأثر بالخلافات السياسية والإجتماعية، حيث امتدت الشرخ والإنقسام الى قلبها.
وقد دفعت حالة الإنقسام الآخذة في الإتساع والتصاعد، الكثير من المؤرخين والنقاد والأدباء والفنانيين والسياسيين والإقتصاديين والإعلاميين والخبراء في الأمن القومي الإسرائيلي، إلى الإعراب عن قلقهم على مستقبل وجود الدولة، لا سيما وأنها بدأت تشهد تراجع على صعيد محاور قوتها الإستراتيجية، الإقتصادية والتكنولوجية والردعية والمناعة قومية والعلاقات الخارجية والتحالفات الإستراتيجية، خاصة مع راعيتها وشريكتها الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية، ومع الجاليات اليهودية الأمريكية التي تلعب الدور الأهم في التأثير على تأمين ودعم إسرائيل في المواقف القرارات والتشريعات الأمريكية، والأهم أن هذا التراجع في عناصر القوة الإسرائيلية يجري فيما أصبحت إسرائيل موسومة بالأبارتايد والعنصرية.
ويمكن حصر نقاط ضعف إسرائيل وفقاً للمشهد المعاش بالنقاط التالية: 1- خلاف واختلاف مع الإدارة الأمريكية الديمقراطية وصلت الى حد إعتراض الإدارة على تركيبة الحكومة وسياساتها. 2- اتساع الفجوة بين إسرائيل والجالية اليهودية في أمريكا. 3- إقتران إسم إسرائيل بالعنصرية والأبارتايد. 4- زيادة نسبة كراهية إسرائيل على صعيد الرأي العام العالمي. 5- جيش الشعب يتفكك ووحداته تتمرد. 6- قوة الردع تتراجع مقابل صعود قوة محور المقاومة. 7- الإقتصاد يتراجع والشركات الكبرى خاصة شركات الهايتك ترحل براس مالها البشري والمادي. 8- الإنقسام العرقي الإثني يتقاقم, 9- الفلسطينيون لم يرفعوا الراية البضاء وعددهم ما بين النهر والبحر يفوق عدد المستعمرين اليهود ومقاومتهم للإحتلال تتصاعد.
المفارقة هنا أن الإئتلاف الحاكم في إسرائيل يرفض رؤية هذه المروحة من نقاط الضعف، ويبدو أنه لا يعبأ ولا يكثرت بما تنطوي عليه من تهديدات تمس وجود الدولة وهذا قولهم، ويصر على تنفيذ برنامجه الرامي الى حسم صناعة وجود الدولة، الأمر الذي يجعل من المشروع التساؤل هل ثمة فرص للنجاح؟ وعلى ماذا رهانهم؟
للإجابة على هذه سؤال إذا ما كان هناك فرص للنجاح في حسم صناعة الوجود فهناك حاجة لتعريف ما هو المقصود بحسم صناعة الوجود كما هو في عقل (بيبي) وشركائه في الإئتلاف النيوصهيوني الحاكم (سموتريش وبن غفير) والذي عبر عنه الأول في كتابه (مكان بين الأمم) المنشور العام 1997 من قبل الأهلية للنشر والتوزيع، وعبر عنه الثاني (سموتريش) في خطته للحسم التي أعاد نشرها مؤخراً.
حسم صناعة الوجود تعني ببساطة إيصال مواطني الدولة من اليهود أنهم في دولتهم الطبيعية التي أنشأوها على الموقع الجغرافي الذي تعود ملكيته لهم أصلاً، أسوة ببقاقي الدول التي أنشأتها شعوبها على مواقعها الحغرافية الأصلية، وإجبار أصحاب الجغرافيا الأصلانيين ودول الإقليم والنظام الدولي على التسليم بوجود الدولة الوليدة.
وحول تسليم المجتمع الدولي بدولة الأمر الواقع فقياسا على تجربة الماضي فقد سبق وأن سلم المجتمع الدولي بدولة الأمر الواقع ولم يحرك ساكناً عندما أعلن بن جوريون عن قيام الدولة العام 1948 على مساحة أكبر بكثير من المساحة المخصصة للدولة كما وردت في قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة العام
وفيما يتعلق بتجربة الماضي مع الدول العربية المجاورة فكانت إسرائيل قد خرجت من حرب العام 1948 باتفاقيات هدنة مع هذه الدول، حيث تحولت هذه الإتفاقيات بعد عقود الى تسويات على جبهتين، المصرية العام 1979، والأردنية العام 1994، ويبدو هنا أن هذا ما دفع نتنياهو الى القول في مقدمة كتابه مقتبساً ذلك عن أحد الديبلوماسيين العرب الذي كان نتنياهو يلتقيهم سراً أثناء عمله في الأمم المتحدة " لقد إنتهى الأمر، ولا خيار لدينا إلا التسليم بوجود إسرائيل".
وأجادل هنا أن نتنياهو وشركائه في الإئتلاف الحاكم قد أسسوا قناعاتهم التي أصبحت هي المحرك الرئيس لسياساتهم على قول الديبلوماسي العربي حينذاك، ويبدو هنا أن إسرائيل في عهد نتنياهو قد زاد إيمانها بصحة هذه القناعات، لا سيما بعد توقيع بعض الدول العربية على اتفاق أبراهام التطبيعية مع إسرائيل، واستعداد دول أخرى وازنة للإنضمام لهذه الإتفاقات مخالفين بذلك مبادرة السلام العربية للعام 2002 التي إشترطت التطبيع مع إسرائيل مقابل إنسحابها من كل المناطق التي احتلتها العام 1967، الإعتراف بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود العام 1967.
من الواضح أن طمأنينة الإئتلاف الحاكم في إسرائيل وعدم قلقهم على مستقبل الوجود رغم كل ما هي عليه إسرائيل من انقسامات وشروخ وما تنطوي عليه هذه الإنقسامات من تهديدات وجودية مستمدة من تقديرات باتت ترتقي لدرجة اليقين أن مزيد من الدول العربية الوازنة ستنضم لمسيرة أبراهام التطبيعية، وذلك على الرغم من تنكر الإئتلاف الحاكم للحقوق الفلسطينية وجهر نتنياهو بالعمل على إجتثات فكرة الدولة الفلسطينية، وجهر شريكه سموتريش ببدء تنفيذ خطته للحسم عملياً.
وهنا أختم بقوله تعالى كما ورد في سورة (القصص – 8) "إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين"، الأمر الذي يعني التأكيد أن قناعات نتنياهو وشركائه ومن قبلهم اقوال الديبلومسي العربي هي قناعات قد ثبت خطأها، لا سيما وأن إسرائيل التي تترنح الآن نتيجة أنقساماتها العميقة قد ولجت الى الألفية الجديدة وهي عالقة في ثلاث جبهات، الجبهة الفلسطينية، والجبهة الشمالية اللبنانية، والجبهة الشمالية الشرقية مع سورية، وإذا ما اضيفت هذه الجبهات الى الجبهة اليهودية، والجبهة مع الراي العام العالمي وجبهات أخرى غير معلنة، يصبح حسم الصراع مع الفلسطينيين ليس أكثر من أمنيات أذا ما أحسن الفلسطينيون خياراتهم وبدأوا حقاً في إصلاح ما أفسد.