الكاتب:
مصطفى بشارات
كنت في لبنان في شهر آذار مطلع العام الجاري 2023 وشاركت في المهرجان الدولي للابداع الثقافي الفلسطيني ونظمه المكتب الحركي للأدباء والشعراء في منطقة صيدا بجهود حثيثة وقفت على رأسها الشاعرة نهى عودة أمينة سر المكتب.
وعدت حينها السيدة نهى بالكتابة عن هذه المبادرة التي من شأنها إعادة الوهج والحضور الثقافي الفلسطيني في لبنان، هذا الحضور الذي كان طاغيا وامتد لأكثر من عقدين، تحديدا فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، ووصل إشعاعه إلى خارج لبنان وشمل الدول العربية بأسرها ودول العالم أجمع وكان من أبرز رموزه قامات ثقافية فلسطينية رحلت لكن أثرها لا يزال حاضرا بقوة أمثال محمود درويش وعز الدين المناصرة وغسان كنفاني ومعين بسيسو وآخرين كثر .
كان الاحتضان من "فتح" كبرى الحركات الفلسطينية لافتا وكذلك من أطرها ومنظماتها الشعبية سواء من ناحية الاستقبال أو الضيافة أو من جهة مستوى التنظيم أو إشراك المواطنين الفلسطينيين من أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان، ولا يمكن هنا إغفال دور السفارة الفلسطينية في بيروت التي وفرت الرعاية وقدمت كل التسهيلات اللازمة.
لقد ترك ذلك أثرا طيبا في نفسي وقلت إن المبادرة طيبة ينبغي البناء عليها ومتابعة العمل من أجل ديموتها بحيث يصار إلى عقد المهرجان بشكل سنوي عبر التفكير والعمل المشترك مع كل المعنيين.
تأخرت كثيرا في الكتابة عن المهرجان لأسباب عدة أهمها الانشغلات الكثيرة، لكن ما وقع أخيرا من أحداث دامية في مخيم عين الحلوة المتاخم لمدينة صيدا حيث انطلق المهرجان الدولي للابداع الثقافي الفلسطيني، ألحّ علي وحفزني على الكتابة عن الموضوع، لكن بشكل مختلف، ربما!
كانت زيارتي للبنان قصيرة وغلبت عليها انشغلاتي بالمهرجان وفعالياته من الصباح وحتى المساء؛ لذا لم أحفل بأي قسط من الراحة، ولم تتح لي فرصة التعرف عن كثب على البلد، تحديدا أوضاع المخيمات وأوضاع أبناء شعبنا هناك.
جاء اللقاء مع الشاعر والروائي الفلسطيني أنور الخطيب بمثابة فرصة لقضاء وقت ممتع وأخذ قسط من الراحة لم أحظ بهما خلال أيام إقامتي الخمسة.
أخذني الأستاذ أنور إلى منطقة الجبل حيث قلعة موسى ومتحف الشمع ودير القمر الذي جلسنا في أحد المقاهي في ساحته وتبادلنا أطراف حديث كنا متفقين فيه على الحاجة لاعادة الاعتبار لدور المثقف في الشأن الفلسطيني.
رأى مضيفي أنه لا مجال لذلك إلا من خلال عمل جماعي ومؤسسي يتعالى على العصبيات والفئويات مهما كان شكلها أو دافعها، وقرر، وأنا أتفق معه، أن هذا ضروري جدا لبعث الحياة في المخيمات الفلسطينية في لبنان التي تعاني أوضاعا معيشية صعبة أجبرت العديد من أبنائها على ركوب قوارب الموت من أجل هجرتها، وما زاد الطين بلة، على حد رأيه، وسأكتشف لاحقا صحة ذلك، وجود ممارسات سلبية من بعض الفلسطينيين أنفسهم وبعض الدخلاء عليهم، قاصدا تحديدا عمليات اطلاق النار والاشتباكات المتبادلة، واستمرار السكوت على المتورطين في هذه التعديات التي تعكر الصفو العام، حتى أنه حذر من أن بقاء الوضع على ما هو عليه سيوفر أرضا خصبة لتنفيذ "جهات انعزالية معادية للوجود الفلسطيني" مخططاتها التي تتقاطع في النتيجة مع مخططات كيان الاحتلال الاسرائيلي لإنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة الفلسطيني الذي يمثل الوجود الفلسطيني في لبنان العنوان الأبرز الباقي له!
اليوم، وأنا أتابع نزيف الدم والاشتباكات التي أودت بحياة العديد من أبناء مخيم عين الحلوة وقادته ومناضليه وحملت عديد العائلات على النزوح عنه والدمار الذي تسببت به في البيوت والممتلكات والبنى التحتية من ماء وكهرباء وعطلت الدراسة وأشكال الحياة الأخرى، تأكد لي مجددا حاجتنا إلى إجراء مراجعة شاملة لكل أوضاع حياتنا الفلسطينية؛ فالانقسام الموجود داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ذاهب في طريقه إلى الشتات الفلسطيني وربما قد وصل فعلا !
الصورة البانورامية الجميلة التي تراقصت فيها قلوب الحاضرين لفعالية انطلاق المهرجان الدولي للابداع الثقافي الفلسطيني في قاعة معروف سعد في صيدا، هي الصورة التي يجب أن تسود مخيماتنا في لبنان لا صورة الدمار وإطلاق النار والدماء، هذا هو المشهد الحقيقي والحضاري لشعبنا، وهذه هي أخلاقه، ويتطلب ذلك مقاربات جديدة في إدارة أمور المخيمات، مقاربات تقوم على العمل المشترك والاحترام المتبادل والحق في الاختلاف والتعبير عن الرأي بحرية، مقاربات تطلق طاقات أهالي هذه المخيمات خصوصا الشباب، مقاربات تدعم المبادرات الابداعية والثقافية والتعاونية والاجتماعية وتسند الفعاليات الابداعية، ومنها على سبيل المثال، ذلك المهرجان الذي خطى خطوة كبيرة على طريق استعادة الحضور الثقافي والانساني والحضاري الفلسطيني في المشهد البناني؛ لتكون المخيمات الفلسطينية وكل أماكن تجمع أبناء شعبنا الفلسطيني في لبنان عنوانا للأمل والحياة لا "بؤرا أمنية" أو "ملجأ للخارجين عن القانون" كما يراد لها أن تكون!