الكاتب: تحسين يقين
منذ وعيت على كلام الإذاعة، أي من طفولتي في السبعينيات، وأنا أسمع: وتم بحث آخر التطورات السياسية، والحل العادل للقضية الفلسطينية؛ فلم يكن قد مر على حرب (هزيمة) عام 1967، سوى أعوام، بما تمنح طفلا أن يسمع الأخبار من عدة عواصم، من خلال جهاز الراديو الذي بدا وقتها صندوقا كبيرا في ذلك الوقت. كان والدي كغيره من أبناء شعبنا يسعى للخلاص من الاحتلال الجديد، فراح ينقّل موجة الراديو، هنا القاهرة، هنا عمان، هنا لندن، لعله يسمع خبرا سارا. ثم كبرت لأرث تنقيل الموجة، هنا دمشق، هنا صوت منظمة التحرير الفلسطينية، والتي تقريبا صارت الموجة الأكثر حضورا. وهكذا ما يمكن أن يملأ صفحات عن حكاية الفلسطيني مع الإذاعات والتلفزيونات والصحف من قبل ومن بعد. لم نكن نعرف في البدء عن حرب عام 1948 فلم يكن الناس هنا قد امتصوا بعد الحرب الجديدة، والأكثر صادمة وأثر في حياتهم حتى الآن. لكننا عرفنا، وكلما كبرنا صرنا نعرف أكثر، مرورا بكل أحداث السبعينيات والثمانينيات وحرب لبنان عام 1982 وصولا الى انتفاضة عام 1987، حيث استعاد الشعب الفلسطيني زمام المبادرة.
فكم هي مملة وموجعة تلك العبارات التي شخنا ونحن نسمعها، والمؤلم أنها مستمرة: وبحثا وبحثوا آخر التطورات السياسية، والبحث عن حل عادل للقضية الفلسطينية. لكن خلال ذلك، وقبل وعي طفلا على الأخبار، فإن معظم المواقف السياسية كانت تنطلق من أمرين:
- القبول الجماهيري للنظم الجديدة.
- الأزمات الداخلية.
بمعنى، وهذا من الآخر يعني، أن التحركات السياسية بالنسبة لفلسطين، وقضيتها وشعبها، إنما تأتي لملء الوقت ليس أكثر، وهو ملء طبيعي لأن الطبيعة تكره الفراغ، وهكذا فإن الأطراف ذات العلاقة، والمتدخلين فيها، ينطلقون إما من مصالحهم كنظم وبلاد، أو من أزماتهم بالتوصيف نفسه، نظما وبلادا.
وللأسف، فإن ذلك يشمل الجميع؛ فما نرى من تحركات خاصة بنا أو بالإقليم، وصولا الى الصين وروسيا وتركيا، إنما هو فعل سياسي لا يقد خلاصنا الفلسطيني من الاحتلال، ولو كان كذلك لقرأنا على الأرض تغييرات، فماذا نفسّر اقتحام وزيرين من حكومة الاحتلال ساحة المسجد الأقصى والتي لم تثر إلا استنكارا في الحد الأعلى لرد فعل ..الجميع!؟ ومثلا إن ما يهم أمريكا هو مصالحها، لدرجة إيفادها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق التسعيني هنري كسينجر الى بكين.
مجمل القول، وبدون الدخول في تفصيل أزمات جميع الأطراف، بدون استثناء، فإننا سنشاهد ما هو مكرر، حيث أنه ما إن تخف تلك الأزمات وتتحقق تلك المصالح، سنجد أنفسنا مكاننا في ظل احتلال إحلالي بمعنى الكلمة، غير قادر لا سياسيا ولا إنسانيا، أن يتقدم جادا نحو أحد الحلول السياسية التي تتعلق بوجود كيانين سياسيين، أو بحث الكيان الواحد المحقق لكرامة وحقوق الجميع (غير مطروح إسرائيليا طبعا).
طيب والعمل؟
طبعا وهو موجود وقابل للحياة، وليس اكتشافا؛ فإسرائيل المهابة من قوم غير مهابة من آخرين، وهذا باعتراف الإسرائيليين أنفسهم: لديها سلاح ولدى الآخرين، بغض النظر عن نوايا الآخرين. لم تعد الفجوة كبيرة بين العسكرية الإسرائيلية وغيرها، ولعل ذلك من نتاج العولمة وتغير التحالفات نتيجة الاستبداد الأمريكي عالميا باتجاه مصالحها فقط، بمعنى أنه لا ضامن لجرب قصيرة تحقق إسرائيل أهدافها في أيام أو أسابيع أو أكثر (الحرب الروسية-الأوكرانية مثالا).
إذن، فإن أهم عامل اليوم بالنسبة لنا، الشعب الفلسطيني على أرضه، هو إعادة الاعتبار للعامل الذاتي وتقوية بقائنا بكل الوسائل الممكنة، وعدم الانجرار لأي فعل يخلق تنافضا بيننا.
وهذا يقودنا الى أنه عند الحديث عن مصالحة سياسية باتجاه تشكيل حكومة وحدة وطنية، إنما يجب أن ينطلق مما نؤمن به، ألا وهو تقوية بقائنا على الأرض، وحضورنا عربيا وعالميا.
والسؤال الوطني، إن كنا فعلا نسير باتجاه الخلاص الوطني هو، هل تشكيل حكومة وحدة وطنية تعني الشخوص والفئات، أم برنامج عمل حقيقي يحقق الهدفين: تقوية بقائنا وحضورنا؟
ترى الآن، وعند تشكيل الحكومة، إن صفت النوايا، هل سيكون همّ الشركاء هو تحقيق المصلحة العليا لشعبنا؟ ولأننا نحسن الظن بالتيارات السياسية، فإن المطلوب الآن ورش عمل حقيقية لبحث جوانب حياتنا ومشاكلنا، ووضع مقترحات قابلة للتحقق فيما يخص برنامج عمل لا تسير عليه فقط حكومة الوحدة الوطنية، بل أية حكومة قادمة.
أما حضورنا العربي والعالمي، فبصراحة ليس لنا جميعا الى مظلة منظمة التحرير، وفي ظل صفاء النوايا، يمكن بسهولة تمثيل فصائل العمل الوطني والإسلامي، بما يضمن دعم بعضتا بعضا، فوجود الجزء قوة للكل، أليس هذا شعار النبلاء؟
في ظل منظمة التحرير الشاملة لفصائل العمل الوطني والإسلامي، سنكون موحدين وسيكون حضورا في كل العواصم ذا صلة وأهمية.
وهو ما زال لنا وبين أيدينا، فإن نكن معا، فلسنا في مجال دفع أية أثمان سياسية تكون مجالا لحل أزمات آخرين وتحقيقا لمصالحهم، ولسان حالنا للأشقاء والأصدقاء وحلفاء الاحتلال:
نحن شعب يعيش تحت الاحتلال، ومن حقنا العيش بحرية وكرامة واستقلال وطني، فمن يلتزم بهذه المبادئ الإنسانية العالمية وأراد الوقوف بجانب الحق، فأهلا به، فلسنا مع أحد ضد أحد، ونؤمن بمصالح الشعوب والدول، وعلى رأسها مصلحة شعبنا الذي ما زال يكتوي بنيران الاحتلال الذي لم يرحم طفلا يلعب ولا شجرة تسبح لربها.
كل ما نضيفه الآن هو تفصيلات وليست أمورا رئيسية، ومنها ألا ننشغل كثيرا بالتغييرات الوزارية أو التعديلات، باتجاه موضعة مصالحنا الشخصية الضيقة، ولنهتم بخلاصنا العام، في مجالات حيوية، منها التعليم والصحة، والنظام العام، وتطوير نظامنا المالي والإداري.
تستطيع الحكومة مثلا دفع راتب شهر تموز وآب كاملا، حتى تنتظم المدارس، وتستطيع أيضا ضمان وجود عمل نقابي للمعلمين، حتى يتم قطع الطريق على أية نشاطات تخرب من النسيج اليومي الفلسطيني. تستطيع تطوير عملها، لتكون أكثر نجاحا، لتكون عنصر قوة للقيادة السياسية. نستطيع معا فعلا إحراز إنجازات شخصية وعامة، في ظل وجود القدوة والعدالة معا، باتجاه تخفيف الفجوات الاقتصادية بيننا، حتى لا تشعر أسرة في الوطن بأنها وحدها.
"صفوا النية وناموا بالبرية"؛ فصفاء النوايا ووجود إرادة فعلية للخلاص العام، وليس الشخصي والفئوي، سيكون البداية الفعلية لصعود سلم الاستقلال والحرية.
[email protected]