الكاتب:
اللواء المتقاعد: أحمد عيسى
المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
خرجت جماهير غفيرة من غزة على مدى أيام متفرقة خلال الأسبوعين الماضيين للتظاهر سلمياً والمطالبة بتشغيل المولد الرابع قي شركة توليد الكهرباء التي تعتبر المزود الرئيس للكهرباء في قطاع غزة، رافعين شعار (بدنا نعيش) الذي يبدو بسيطا في كلماته إلا أنه عميق في دلالته ومآلاته.
في الواجهة كانت المطالبة بتشغيل المولد الرابع، وفي الخلفية كان الإحتجاج على ما آلت إليه حياة أكثر من مليوني فلسطيني وما يعيشونه في غزة من بؤس وجوع وفقر وبطالة ويأس وظلم وفقدان للأمل بمستقبل أفضل، الأمر الذي بات يعني لجيل بأكمله تقريباً أن هذه الفقر والظلم واليأس والبطالة والجوع هي سمات الحياة والعيش الطبيعية، وأن ما يرويه الآباء بأن حياتهم كانت خالية من هذه السمات قبل سيطرة حماس على غزة بالقوة العسكرية العام 2007، هو محض افتراء وتجني على حركة المقاومة الإسلامية.
في الواقع ليست هذه هي المرة الأولى التي تخرج فيها جماهير غزة للمطالبة بحقها بالعيش، ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة، لا سيما وأن الأسباب المانعة للعيش وتوفير أدنى متطلباته لا زالت حاضرة وفاعلة، ولا يبدو أنها قابلة للإختفاء قريباً، خاصة بعد فشل لقاء العلمين في رأب الصدع وإنهاء الإنقسام وتحقيق الوحدة الوطنية التي يرى الشعب أنها شروط ضرورية ترفع من قدرة الحكومة على تأمين الغذاء والدواء اللذان يسبقان من حيث ترتيب الأولويات، اولوية توفير الأمن، كما قال تعالى وهو أصدق القائلين "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" (قريش:4).
وعلى الرغم من تكرار الإحتجاجات على مدى السنوات العشر الماضية، إلا أن الحراك هذه المرة جاء مختلفاً عما سبقه، في ما تضمنه من رسائل لكل من حكام الأمر الواقع في غزة، ولمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، لكل الشعب الفلسطيني سواء المؤيدين لها أم المختلفين معها.
وتتجلى ابرز جوانب الإختلاف هذه المرة، في بساطة وعدالة وصدق مطالب الإحتجاج، الأمر الذي جرد حكومة الأمر الواقع في غزة من إستسهال محاصرة المتظاهرين وقمعهم من خلال إطلاق وصف المؤامرة على المقاومة كمحرك ودافع للإحتجاج، إذ سرعان ما اكتشف القائمين على الأمر ان المحتجين هذه المرة لم يكونوا من جهة سياسية واحدة، ولا تحركهم رام الله، لا سيما وأن هناك تأييد واسع لمطالبهم البسيطة من قبل الغالبية العظمى لسكان قطاع غزة بما فيهم اولئك المنتمين لحركة حماس.
صحيح أن المحتجين على فشل الحكومة من الدائرة المؤيدة لحماس لم يخرجوا للشوارع، واكتفوا بالإحتجاج عبر وسائل التواصل الإجتماعي، إلا أن احتجاجهم كان أكثر تأثيراً على أصحاب القرار، إذ أنها كانت أكثر نقداً للحكومة، وانطوت على إعتراف صريح وعلني بعدم أهلية كثير من أدوات الحكومة خاصة البلديات وبعض أذرع الشرطة في إدارة شؤون الناس الحياتية واليومية.
وربما أهم ما كشفت عنه بعض هذه المنشورات أن الغالبية العظمى من الناس في غزة لم يعودوا يؤمنوا أن لهم شركاء في المعاناة وتحمل أعباء تردي مستوى المعيشة ممن يحكمونهم، في الوقت الذي يقدمون فيه ضريبة المواجهة مع الإحتلال على حساب أرواحهم وأجسادهم وبيوتهم وممتلكاتهم وأملهم بحياة أفضل.
وفي هذا الشأن كتب أحد أصحاب الرأي الشجاع والجرئ من حماس، أن فئة وازنة ممن يحكمون في غزة اليوم، لا يتقاسمون المعاناة مع الغالبية العظمى من الشعب، ولا يذوقون ما يذوقونه من قهر وحرمان ومعاناة، وباتوا ينحجبون وينفصلون عن بقية الشعب يوماً بعد يوم خلف جدران عالية لبيوت مرفهة مضائة هي والشوارع التي حولها بمصابيح تزود بتيار كهربائي من مولدات خاصة، وخلف زجاج معتم لمركبات حديثة وفارهة.
وأجادل هنا أن أهم ما كشفت عنه منشورات صاحب الرأي هذا، أن تماسك البيئة الحاضنة للمقاومة واستعداد هذه البيئة لدفع أثمان المقاومة تواجه خطر الضعف والتراجع والتآكل، مما يعني أن مقاربة الجمع بين المقاومة والحكم قد أتت بنتائج عكسية، إذ بدل أن تجعل هذه المقاربة من المجتمع ذخراً وسنداً للمقاومة جعلت منه عبئاً عليها، وبدل أن تجعل من المقاومة وسيلة للتجميع جعلت منها أداة للتفريق في إضطرارها لحماية الحكم، حيث أنها بدل أن توحد بددت، وبدل أن تحمي وتصون بطشت، الأمر الذي يعني أن الابقاء عليها هو أكثر كلفة من الخروج عليها (افلا تعقلون)، لا سيما وأنه بات يقيناً أن أقصى ما يمكن أن تقدمه حكومة غزة هو التخفيف من المعاناة، فيما أن ما يريده الشعب هو إستئصال الأسباب المانعة للعيش.
أما الرسالة الثانية التي تضمنها الحراك، فتكمن في سرعة إستجابة الحكومة للضغط الشعبي، إذ أعلنت يوم الخميس الماضي الموافق 2/8/2023، أنه سيتم تشغيل المولد الرابع في اليوم التالي بتمويل من دولة قطر، مما يعني أن الضغط الشعبي يولد إستجابة، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه لمزيد من الحراك والضغط في قادم الأيام، لا سيما وأن الحكومة قد أجبرت الشهر الماضي على صرف رواتب الموظفين قبل عيد الأضحى أسوة بالسلطة الفلسطينية وذلك بعد أن امتلأت صفحات الفيسبوك بالإحتجاجات على تأخير الرواتب رغم أنها متوفرة في البنوك.
وفيما يخص الرسائل التي وجهها الحراك لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية، فتكمن في ايمان المحتجين أنه ليس من العدل والإنصاف إعفائهما من تحمل المسؤولية عما آلت اليه أحوال الشعب في غزة، وإلا لماذا يطالب علناً المسؤولون عن حركة فتح في غزة القيادة الفلسطينية بإنصاف أهل القطاع ورفع الظلم عنهم، والمسارعة في تنفيذ قراراتها التي اتخذت في هذا الشأن؟ الأمر الذي يعني أن مطلب (بدنا نعيش) موجه لقيادة السلطة الفلسطينية كما هو موجه لقيادة حماس، وإن كانت الأخيرة تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية عما آلت اليه الحياة في غزة.
وأختم هنا أن التوجه لإنتخابات عامة هي اقصر واسرع الطرق للتغيير، إذ أنها توفر سلطة تشريعية وظيفتها المراقبة والمراجعة والمسائلة والمحاسبة، حيث أن المحتجين في غزة والشعب برمته يدركون أن قرار التوجه للإنتخابات ليس ملكا لغزة وحكومة الأمر الواقع فيها.