الكاتب: رائد محمد الدبعي
خلال لقائهما في جنيف في عشرينيات القرن الماضي، استنصح أبو الوطنية المغربية عبد السلام بنونة الأديب اللبناني شكيب أرسلان الملقب " بأمير البيان " حول تعليم أبناء المغاربة من شمال المغرب، فنصحه بمدرسة النجاح بنابلس، وحينما أرسل عبد السلام بنونة رسالة أخرى إلى عبد القادر المغربي رئيس المجمع العلمي بمدمشق يطلب نصيحته حول إيفاد طلبة من شمال المغرب للدراسة في دمشق، أحال المغربي رسالته إلى رئيس الجامعة السورية الذي أحاله إلى مدرسة النجاح بنابلس، كما يشير محمد بن الحسن الوزاني مؤسس حزب الشورى والاستقلال المغربي وأحد قادة الحركة الوطنية المغربية في مذكراته " حياة وجهاد " بأنه سمع كثيرا عن مدرسة النجاح في باريس خلال دراسته هناك، فأطلع الحاج عبد السلام بنونة على بعض الكتيبات الخاصة بالمدرسة، مما قاد لإيفاد أول بعثة مغربية إلى مدرسة النجاح تكونت أولا من الطلبة الطيب بنونة ومحمد بن مصطفى أفيلال، ليلتحق بهم المهدي بنونة، وعبد السلام بنجلون، ومحمد بن عبد السلام الفاسي الحلفاوي، ومحمد بن محمد الخطيب، ومحمد بن عبد السلام الخطيب، وعبد الله الخطيب، وأحمد بن عبد الوهاب، وعبد المجيد حجي من سلا، علما بأن عددا من خريجي مدرسة النجاح قادوا حركة التحرر المغربي ضد الاستعمار الفرنسي، وتقلدوا مواقع قيادية فيها بعد الاستقلال، من أمثال المهدي بنونة، وغيره، ممن تأثروا خلال دراستهم بالنجاح بالأجواء الوطنية التي بثتها النجاح في نفوس طلابها، والتي ترجمت عمليا من خلال أسماء الصحف والأحزاب السياسية والجمعيات التي تم تأسيسها في ثلاثينيات القرن الماضي في تطوان وغيرها من المدن المغربية، وكذلك في انتشار أشعار إبراهيم طوقان، وغيره من الشعراء المشرقيين في دول المغرب العربي عموما، وهو الأمر الذي استعرضته الباحثة بشرى خير بك في بحث لها بعنوان " الدور الوطني لمدرسة النجاح في نابلس في إعداد النخب الوطنية المغربية 1928-1935، من منشورات مجلة دراسات تاريخية في جامعة دمشق، عام 2017، والذي تؤكده وثيقة تأسيس المدرسة التي أكدت على تعانق البعد العروبي للمدرسة مع البعد الوطني، إذ وصفها جيل المؤسسين بالوطنية الحرة، وترجمها جيل الطلائعيين من أمثال أكرم زعيتر، والمؤرخ الفذ محمد عزة دروزة، وصاحب نشيد موطني ابراهيم طوقان، وقدري طوقان، والشهيد عبد الرحيم محمود، صاحب قصيدة" سأحمل روحي على راحتي"، والدبلوماسي الفذ العروبي السوري فريد زين الدين، الذي كان مديرا لمدرسة النجاح، ومن ثم مندوبا دائما للقطر السوري الشقيق في الأمم المتحدة، إذ يذكر أكرم زعيتر في مذكراته لعام 1931 طبيعي أن تكون دروسي أمس وأول أمس حول تصريح بلفور، وأن تكون منتسبة لإيقاذ الروح الوطنية، كما كانت احتفالات تخريج الطلبة السنوية مناسبة لالتقاء قادة الحركة الوطنية من فلسطين والمشرق العربي أمثال الحاج أمين الحسيني الذي شارك في احتفال تخريج الطلبة عام 1935، والمجاهد السوري سعد العاص، أحد قادة المقاومة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، كما أن مدرسي النجاح كانوا من مؤسسي الأحزاب الوطنية والقومية على صعيد الوطن، مثل حزب الإستقلال، ومؤسسي اللجان القومية أيضا، كما أن من الدلالات المهمة على المستوى العلمي المميز لمدرسة النجاح قبول خريجيها في الجامعة الأمريكية في بيروت دون الخضوع لامتحان قبول خاص، وقبول خريجيها في الجامعة الأمريكية في القاهرة، وغيرها من الجامعات المرموقة.
تنبهت بريطانيا وفرنسا للدور الوطني لجامعة النجاح الوطنية، إذ أرسل القنصل الفرنسي بالقدس في الخامس عشر من أيار عام 1933 رسالة لباريس يحرض فيها على منع الطلبة المغاربة والسوريين من الإبتعاث إلى مدرسة النجاح، كونها تحرض على الوطنية ومواجهة الاحتلال، وتحيي المشاعر القومية في قلوب أبنائها، وتشكل تهديدا لمصالح فرنسا، وهو الأمر الذي قاد نحو منع عدد من أبناء قادة الحركة الوطنية المغربية من ابتعاث أبنائهم للنجاح في نابلس، كما أن الإحتلال البريطاني قام باعتقال عدد من مدرسي النجاح ومؤسسيها أمثال محمد عزة دروزة، وحكمت المصري، وقدري طوقان وغيرهم .
عام 1941 أطلق عليها إسم كلية النجاح، فيما أضحت عام 1965 معهدا لإعداد المعلمين، كما حصلت على امتياز عقد امتحان " التوجيهي المصري" الذي شرّع نافذة لخريجي النجاح للالتحاق بالجامعات المصرية، وبعد تحولها لجامعة عام 1977، شكلت جامعة النجاح الوطنية منارة للعلم والتنمية والمقاومة المثمرة، إذ تنبهت سلطات الاحتلال مبكرا للدور الوطني لجامعة النجاح الوطنية، في ترسيخ الهوية الوطنية، وتعزيز مقومات صمود الفلسطينيين سيما مع التحاق عدد من الأسرى المحررين بصفوفها في بدايات تأسيسها بعد تحررهم من الأسر الذي دام لسنوات، وترؤسهم لمجالس اتحاد الطلبة والحركة الطلابية والذين كان من بينهم زهير الدبعي، وخليل عاشور، وغيرهم العشرات، إذ استحدثت قوات الاحتلال القرار العسكري سيء الصيت والذي يحمل الرقم " 854 " لعام 1980، والذي يمنح الحاكم العسكري سلطة التحكم في قضايا التعليم، هذا بالاضافة إلى حرمان الجامعة من التوسع العمراني، إذ إن مبنى إدارة الجامعة الحالي في الحرم الجامعي القديم استغرق بناءه ثماني سنوات، نتيجة سياسات الإحتلال العنصرية، إذ يشير فائق الحمد الله الذي عمل مديرا للدائرة المالية في الجامعة، أنه في إحدى مراحل البناء كان هناك صبة لسقف مبنى الإدارة، وبينما كان يتم الإعداد لتجهيز الصبة، من خلال سيارات الباطون التي أحضرت من الطيبة من الداخل المحتل، حيث لم يكن هناك مصانع للباطون الجاهز بالضفة، واصطفت لتفريغ حمولتها، وقد حضرت عشر سيارات، وإذا بالأمر العسكري يحول دون إكمال الصبة مما اضطر السيارات إلى إلقاء حمولتها في الوديان القريبة من نابلس، يضاف إلى ذلك أن عدد أيام إغلاق الجامعة بأوامر من قوات الاحتلال خلال الفترة الممتدة من 21/12/1986 إلى 29/4/1992 قد بلغت 1571 يوما، قامت بها الجامعة بالتدريس في مواقع تعليمية بديلة في مختلف محافظات الوطن، بما في ذلك البيوت ودور العبادة، والمؤسسات الأهلية، كما أن حصار الجامعة في تموز 1992 لا يزال شاهدا على عنصرية الاحتلال، إذ تم حصار الجامعة لأيام وبداخلها اَلاف الطلبة، قبل أن يتدخل الصليب الأحمر لإنهاء الأزمة من خلال إبعاد ستة من قادة الإنتفاضة إلى خارج الوطن، من بينهم الشهيدين عبد الله داوود، وياسر البدوي.
مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، وبينما كانت بلدوزرات الإحتلال الاسرائيلي تحاول هدم التاريخ في البلدة القديمة في نابلس، كانت الاليات تشيّد المستقبل في حرم الجامعة الجديد لجامعة النجاح الوطنية " الأكاديمية" ، والذي أضحى اليوم بإرادة الصادقين من أبناء النجاح صرحا علميا شامخا يعانق عنان السماء، وحينما كان الأستاذ الدكتور رامي الحمد الله رئيس الجامعة في ذلك الوقت ونائب مجلس أمنائها الحالي يستعرض لزوار المدينة، ومؤسساتها رؤيته لإقامة صرح علمي يرتقي بما سيقدمه من خدمات بحثية وتعليمية ومجتمعية، كانت نظرات المستمعين تشع إعجابا، بينما شفاه الكثير منهم تشير إلى أنه حالم كبير، قبل أن يتحول الحلم إلى حقيقة ماثلة، مع كل كلية ومبنى ومسرح ومركز تكنولوجي ومكتبة ومركز للإعلام، فهنا ينتصب المجمع الطبي، بملاعبه ومسابحه ومرافقه الصديقة لذوي الاحتياجات الخاصة، والذي يقدم اليوم برامج ماجستير ودكتوراه بالإضافة إلى البكالوريوس، تجاوره كلية الهندسة وتكنولوجيا المعلومات، التي تطل على مسجد الجامعة، ومن ثم كلية العلوم، الذي يحتضن أكبر مسرح مكشوف في محافظة نابلس، وهو مسرح المرحوم حكمت المصري، وكافتيريات الجامعة، ومرافقها الخدماتية، وقبل أن تملأ عينيك بمشهد الحدائق والمساحات الخضراء في مختلف ساحات الجامعة، يستقبلك مسرح الأمير تركي بن عبد العزيز، أكبر مسرح مغلق في فلسطين، والذي يشكل تحفة فنية في التصميم، ومساحة هامة للأنشطة الوطنية والمجتمعية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى الوطن، والذي يقابله مركز إعلام النجاح، الذي يصدح بصوت المواطن، ويشكل منصة للتدريب العملي لطلبة الجامعة، وغيرهم، فيما تشكل مكتبة جامعة النجاح الوطنية في مبنى الأكاديمية كنزا معرفيا بما تضمه من مراجع ورقية والكترونية بمئات الالاف، اما مبنى كلية الفنون الجميلة، فهو شاهد على قسوة الاحتلال، والتحديات التي واجهت الطلبة والعاملين بالجامعة عبر توثيق تلك التحديات بالرسم والنحت والموسيقى المموزعة في مختلف أروقة الكلية، أما المجمع الطبي، بما يحويه من مبان ومختبرات، وأول مستشفى جامعي تعليمي وطني في فلسطين، وما يضمه من خيرة العقول الشابة، فهو قصة نجاح بذاته، ساكتفي هذه السطور بالإشارة إلى تقلده المرتبة 176 عالميا في تصنيف “ Times Higher Education “ لمؤسسات التعليم العالي عالميا، لتتفوق على جميع جامعات الإحتلال، أما المركز الكوري الفلسطيني المتميز لتكنولوجيا المعلومات، فهو سفير الجامعة نحو المستقبل، عبر مواءمته لقدرات طلبتنا وزملائنا مع متطلبات الثورة التكنولوجية الرابعة والخامسة، وكذلك مبنى كلية القانون والعلوم السياسية، والذي يقدم مجموعة من برامج البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، فيما يشكل مبنى المراكز العلمية بوابتها للمعرفة، والهادفة لخدمة المجتمع والانسانية، بتخصصاتها المتنوعة بأبحاث الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، والعلوم الطبية والصحية، وأبحاث الطاقة والماء والغذاء العالمي، والتخطيط الحضري والحدّ من مخاطر الكوارث، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والدراسات الدستورية، وهو الأمر الذي جعل من الجامعة حاضنة لكرسيي اليونسكو لحقوق الانسان، والإدارة المستدامة للموارد المائية، إلا ان دور جامعة النجاح الوطنية لا يقتصر على التعليم النوعي والبحث العلمي المميز، بل يكتمل بما يقدمه من خدمة للمجتمع، عبر أذرعه المجتمعية المتنوعة بدءا من مركز الخدمة المجتمعية الذي يقدم باقة منوعة من الخدمات المجتمعية التي تتنوع ما بين التبرع بخمسة الاف وحدة دم سنويا للمستشفيات، وزراعة الاف الأشجار، وتبني مئات الأيتام، وبناء البيوت في المناطق المهمشة، ورعاية الأسر الفقير، والتعليم المساند، والدعم النفسي، وكذلك وحدة الطلبة ذوي الإعاقة وما يشمله من مختبرات وخدمات منوعة، ومساعدات مالية منتظمة، والمعهد الفلسطيني للطفولة، وهو المركز الوحيد من نوعه الذي يقدم خدمات لاطفال التوحد، والذي تشكل قصص نجاحه مدعاة للفخر والإعتزاز، وكذلك متاحف النجاح، ومواقعها الخدماتية عبر الإنترنت بما في ذلك مدونة سوا التي تشكل مساحة تعبيرية تسلط فيها الضوء على كل جديد في بحر العلوم والمعرفة، ومبادرة الأمن والأمان على الإنترنت، وموسوعة المحاكم والقوانين وأحكام المحاكم الفلسطينية، وموقع فتوى، وموقع القراَن الكريم، وموقع المحاضرات المصورة، ومتاحف الجامعة وغيرها الكثير مما تقدمه للمجتمع المحلي وللطلبة المعتازين، حيث وصل عدد من قدمت لهم الجامعة مساعدات مالية 11445 طالبا، أي بما يقارب 50% من طلبتها.
ختاما، هذا الصرح العلمي الشامخ، الذي حاربه الإحتلال الفرنسي، والبريطاني والإسرائيلي، والذي نجح في كل مرة بالإنتصار على كل العقبات ليستمد شعاره الموسوم على بواباته " نتحدى الحاضر لنرسم المستقبل" ليصبح اليوم صرحا أكاديميا للكل الفلسطيني، إذ لا يوجد مدينة أو قرية أو مخيم في فلسطين، إلا ومنه طالبا، أو موظفا، أو أكاديميا، أو خريجا من النجاح، ولا يوجد مؤسسة فلسطينية على امتداد الوطن إلا وبها عدد من خريجي جامعة النجاح الوطنية، سواء كان من حرمها القديم، أو الأكاديمية، أو كلية هشام حجاوي التقنية، او كلية خضوري للزراعة والطب البيطري، وقريبا جدا مقرها التعليمي الجديد في مدينة روابي.
إنّ ما يمارس اليوم بحق هذا الصرح الوطني الأكاديمي النضالي، بتاريخه المجيد، وحاضره التليد، ومستقبله المشرق يتطلب وقفة وطنية جادة، ليس حفاظا على النجاح القادرة على الدفاع عن حقوقها، إنما حفاظا على إرثنا الوطني والمجتمعي والأكاديمي لنا ولأجيالنا القادمة .
*مساعد رئيس جامعة النجاح الوطنية للشؤون المجتمعية