الكاتب: جمال زقوت
أدى إلغاء الانتخابات التشريعية الفلسطينية في الضفة والقطاع، والتي عُوِّل عليها في حينه بأن تشكل مدخلاً ومحركاً لاعادة الحياة للسياسية الفلسطينية، وإلى استمرار تفكك الحركة الوطنية، ومؤسسات منظمة التحرير والسلطة الوطنية، وتعميق عزلتهما الشعبية، وعن قضايا المجتمع، الأمر الذي أدى أيضاً إلى تزايد حاد في حالة الإحباط العام، سيما في أوساط الشباب، الذي يعاني من معدلات بطالة غير مسبوقة، ومن انسداد الأفق السياسي والمعيشي، مما دفعه ويدفعه للبحث عن سبل الخلاص الفردي، سواء من خلال المقاومة الفردية"المسلحة" ضد الاحتلال، أو من خلال التفكير بالهجرة.
صحيح أن تحدي العدوانية العسكرية الإسرائيلية، كما حدث في آيار عام 2021، ساهم في رفع معنويات الجمهور الفلسطيني، وخاصة في أوساط الأجيال الشابة، لكنه لم يُغَيِّر من واقع مشكلاتهم المعقدة والمتفاقمة، ولا من مشكلات غالبية الناس، الأمر الذي عمَّق أزمة الحركة الوطنية بتوجهاتها المختلفة، وأظهر عجزها وعزلتها، رغم ادعاءات "النصر" الذي سرعان ما تحوَّل إلى سيف مسلط في معركة الصراع على الشرعية والانزلاق نحو الانفصال.
كما أن تفاقم ظاهرة الفساد لدى مؤسسات السلطة في الضفة الغربية، وفي مؤسسات سلطة حماس في قطاع غزة، وملاحقة واقصاء أصحاب الرأي المختلف خاصة من الشباب، واستفحال نزعة التفرد في اتخاذ القرارات خارج المؤسسات، وتهميش غالبية المؤسسات التمثيلية، أدى إلى تدهور غير مسبوق في الثقة بالنظام السياسي المنقسم على نفسه، سيما في ظل استخدام أجهزتهما الأمنية في قمع المتظاهرين السلميين، سواء كما حدث إثر مقتل الناشط السياسي نزار بنات والتغطية على جريمة مقتله، أو ما يحدث في مواجهة الحراكات السلمية في القطاع، بما في ذلك حراك" بدنا نعيش" الآخذ في الاتساع، بفعل فشل حماس في تقديم حلول للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية،بالاضافة لتخليها أو تجميدها "للمقاومة"، كما حدث في حروب اسرائيل الثلاث الأخيرة ضد حركة الجهاد، وذلك في سياق وهمها بأن "هدنة طويلة الأمد" مع اسرائيل قد توفر لها المساعدة الاسرائيلية في تقديم حلول لتلك المعضلات من خلال " الاقتصاد مقابل الأمن"، والتي تأتي في سياق مخططات استراتيجية اسرائيلية لدفع غزة نحو الانفصال، ومنع قيام أي كيانية موحدة للفلسطينيين بفرض واقع الكانتونات المعزولة غير القابلة للحياة، بما فيها كانتون غزة ذاته. الأمر الذي بالتأكيد سيفاقم من هذه المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، والتي لا حل جدّي لها إلا عبر انهاء الانقسام واستعادة الكيانية والمؤسسات الوطنيةالجامعة، واعتماد برنامج وطني تحرري بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فقدان النخب السياسية الراهنة الشرعية الديمقراطية بفعل تغييب الانتخابات الديمقراطية لفترة طويلة، وترافُق هذا مع فقدان الشرعية الثورية منذ اتفاق أوسلو، الذي لم يتبق منه سوى التنسيق الأمني ، رغم تصاعد جرائم القتل وحرق البيوت، وتسارع وتائر الاستيطان ومخططات الضم، والحصار والاعتقالات وتدمير البيوت، بالاضافة إلى عجز المعارضة الوطنية عن طرح مشروع جدي لإعادة بناء وتجديد مؤسسات الحركة الوطنية ومنظمة التحرير على أسس ديمقراطية تمثيلية جامعة كحركة تحرر وطني، واعادة توحيد و هيكلة مؤسسات السلطة كأداة أساسية لتعزيز صمود الناس باعتباره المعيار الأساسي إن لم يكن الوحيد لوجودها. هذا الواقع يحتم العمل الجاد للتقدم بخطوات عملية مهما كانت بسيطة للبدء في بناء حركة وطنية جديدة .
في دراسة سابقة لمركز الأرض للدراسات والأبحاث صدرت مطلع عام 2016 بعنوان"الشباب الفلسطيني .. المصير الوطني ومتطلبات التغيير" خلصت الدراسة إلى أن الحاجة الموضوعية لبناء حركة وطنية جديدة ناضجة وتفرض ذلك بعد كل ما آلت إليه الحركة الوطنية الراهنة، إلا أن الظرف الذاتي لم يكن ناضجاً بعد رغم كل الارهاصات والمؤشرات التي ظهرت في حينه، والتي تمثلت بحراكات اجتماعية متعددة، كما تميزت في حينه بهبة أو انتفاضة"السكاكين"، ومعركة بوابات القدس التي حاكت سمات الانتفاضة الكبرى من حيث اتساع المشاركة الشعبية في أنشطتها وطابعها الديمقراطي وقيادتها الشابة .
السؤال المطروح بإلحاحية هو كيف يمكن تحقيق ذلك ؟ فقد شهدت السنوات الماضية العديد من المبادرات والحراكات التي بدت واعدة. إلا أن تلك المحاولات إما وصلت لطريق مسدود، أو لم تتمكن من مواصلة دورها، ويعود ذلك ليس فقط لدور السلطة والأجهزة الأمنية في ملاحقتها ومحاولة تفكيكها، أو لمحاربة أطراف من الحركة الوطنية لها كما حدث في جريمة مقتل بنات، حيث انخرطت المؤسسة الامنية ومجموعات سياسية موالية لها في قمع الحراك ، بل وأيضا بفعل عقلية السيطرة والاحتواء من قبل بعض قادة المعارضة، وانخراطهم في تشويه بعض المبادرات، كما حدث مع الحراك من أجل الوطن والعدالة والديمقراطية "وعد"، سيما أنه نهض في فترة قياسية، ولسوء حظه أن خطوات تأسيسه دوهمت بالاعلان عن اجراء الانتخابات، وما تفرزه من تحريض وتشويه، التي طالما تميزت بها حالة العجز والتفكك والعنتريات الرفضاوية، رغم اجتهاد "وعد" وتأكيده بأنه لن يخوض الانتخابات. هذا بالاضافة إلى أن حراكات القضية الواحدة لا تتسم بالاستمرارية، ما لم تكن مكوناً من استراتيجية وطنية ديمقراطية بديلة ومتكاملة، وهو ما لم يكن متوفراً.
إذاً والحال كذلك، فمن أين نبدأ ؟!
إن أي محاولة لاعادة بناء الحركة الوطنية يجب أن تنطلق من استخلاص دروس جميع تلك المحاولات، و أن تبدأ أولاً بترسيخ البنية التحتية الاجتماعية المنظمة على أساس أولويات ومصالح القطاعات الاجتماعية الأكثر تضرراً سواء من سياسات الاحتلال وتفاقم المعضلات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عنها، أو تلك الناجمة عن استمرار حالة الانقسام وما تفرزه من ظواهر بنيوية خطيره باتت تهدد ليس فقط وحدة وتماسك النسيج الاجتماعي، بل، وتعرض الكيانية الجامعة والحقوق الوطنية لخطر التصفية . صحيح أن المجتمع برمته يدفع ثمن حالة الانقسام التي تساهم في استشراس مخططات الضم والتصفية ومصادرة موارد رزق الناس وقدرتها على الصمود والبقاء، ولكن من الصحيح أيضاً أن الفئة الاكثر تضرراً بصورة مباشرة وعلى المدى البعيد هي الشباب بصورة خاصة، وعليها قبل غيرهما أن تتحمل المسؤولية في التصدي لهذه المخاطر ، وفي اطار ربط مهام التحرر الوطني مع متطلبات البناء الديمقراطي، ومهمات صون النسيج الاجتماعي من التفكك الذي يتعرض له، حيث أن غياب مثل هذا الربط طالما كان التربة التي ترعرت فيها أزمة الحركة الوطنية والنظام السياسي الفلسطيني، الأمر الذي يؤكد مدى الحاجة لبلورة رؤية واستراتيجية كفاحية جديدتين، وهو ما تصدى له الشباب الفلسطيني بعد النكبة،خاصة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ولا يبرر حجم المعيقات والصعوبات التي تواجه هذه المهمة تردد الشباب عن المبادرة في طرح حلول للمشاكل والتحديات التي تواجههم، وتواجه الشعب الفلسطيني وتكويناته وتجمعاته المختلفة. وهنا وبدون أية محاولة للوصاية على مثل هذا الجهد المطلوب، يمكن للاتجاهات وللشخصيات الوطنية والديمقراطية أن تساهم في مساندة التحالفات والشبكات والحراكات الشبابية لبلورة وانضاج مثل هذه الرؤية الجامعة لتوحيد جهودهم في اطار عام وفق معايير يحددونها، أي أن التصدي لمهمات اعادة بناء الحركة الوطنية يتطلب البدء بصورة مثابرة لاعادة تنظيم وبناء القواعد الاجتماعية لهذه الحركة من أسفل إلي أعلى، لتأكيد حرصها من البداية على سمات طابعها الشعبي والديمقراطي، الذي سبق وتميزت به مكونات الحركة الجماهيرية لأطراف وقوى الحركة الوطنية إبان الانتفاضة الكبرى عام 1987، وهذا ما لعبه الاتحاد العام لطلبة فلسطين واتحاد الكتاب والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية وغيرها من الاتحادات والمنظمات الشعبية التي ساهمت في انشاء الثورة، وشكلت القواعد الأساسية لها وللمنظمة، وفي الدفاع عن المصالح الحيوية لتجمعات الفلسطينيين وقطاعاتها الاجتماعية المختلفة . فأين هذه الاتحادات وأين دورها اليوم ؟ ومعها أين منظمة التحرير ذاتها؟!.
أما السؤال الجوهري الثاني هو كيف يمكن القيام بهذه المهمة التاريخية لبناء حركة وطنية جديدة؟ فهذا ما سأحاول تناوله في مقال قادم .