الكاتب: د. أحمد رفيق عوض
ذلك أن التطبيع ومنذ أكثر من اربعين عاماً لم ينعكس برداً ولا سلاما ولا تنمية ولا تقدما على المنطقة العربية ، بل قدم كل ما سبق لاسرائيل على طبق من ذهب، ولم يعمل التطبيع على تبييض الوجوه أو صقلها أو تقديمها للغرب الاستعماري بصورة أفضل، بل كانت هناك محاولات لتفجير الدول التي وقعت اتفاقيات التطبيع مرة بالمجموعات الارهابية ومرة بالازمات الاقتصادية العميقة وثالثة بالجدل الداخلي الذي ينذر بحروب أهلية .
والتطبيع لم يعمل على تهدئة الساحات او تبريد الحدود أو مدّ الجسور أو تغيير الامزجة أو تصفية النفوس، بل على العكس من ذلك ، فقد أصبح التطبيع جبهة اخرى من جبهات الاشتباك الشعبي والنخبوي على حد سواء. والتطبيع كذلك لم يكن نتيجة قوة أو ندية ، بل كان بالتهديد والاغراء او كليهما، لذلك فهو دليل هزيمة او تراجع او ضعف شديد، والاهم من كل ذلك، ان التطبيع -ورغم كل ما قيل فيه او عنه- فهو في النهاية خضوع للرواية الاسرائيلية وارتهان لشروطها وقبول بوضعها دون ميلاد دولة فلسطين او انهاء للاحتلال او تخفيف للمعاناة المستمرة التي يكتوي بنارها الشعب الفلسطيني ، وهذا يعني ان التطبيع هو انسياق لمشروع الصهيونية بدون ادنى مكافآت او "تنازلات" على مستوى الصراع الفلطسيني الاسرائيلي او حتى على نوعية المساعدات او حتى التغطية السياسية، بكلمات اخرى ، اكثر وضوحا، كان التطبيع وما يزال نوعاً من الترضية المقدمة لاسرائيل دون ادنى مقابل، وفي ذلك سقوط لكل ادعاء بأن التطبيع جاء لخدمة القضية الفلسطينية او الشعب الفلسطيني ، هذا لم يكن ولن يكون في المستقبل، بالعكس من ذلك، فان اتفاقات ابراهام ومن قبلها اتفاق كامب ديفيد سنة 1978 لم يجعل من وضع الشعب الفلسطيني افضل او اقرب الى الدولة وانهاء الاحتلال , اكثر من ذلك كله، فإن التطبيع لم يؤد الى اعتدال الجمهور الاسرائيلي او القبول بالتسوية او قبول الاخر او حتى فوز العلمانية المتنورة الحداثية المدعاه في اسرائيل، على العكس من ذلك كله، فقد توحش الجمهور الاسرائيلي، وانتصرت التيارات الاديكالية والفاشية والمتطرفة في اسرائيل، وادى ذلك الى مزيد من التصلب والعنف والهجوم المتعدد الجبهات ، عمليات التطبيع لم تؤد الى تهدئة الجمهور الاسرائيلي او حتى المنظومة الامنية الاسرائيلية ، مما يدل على ان التطبيع لم يؤد الى المأمول منه، فهو لم يكن ذا قيمة اطلاقاً في ان يمنع الازمات الداخلية او التأثيرات الدولية داخل الدول المطبعة، ويمكن لنا ان نقول بموضوعية كبيرة ان التطبيع اعطى اسرائيل ما تريد في علاقاتها وصورتها مع العالم، واعطاها ما تريد في تطويق الشعب الفلسطيني وكسر ظهره، وفازت بما تريد من التقليل من ازماتها الداخلية واعطاها الفرصة لان تتبجح بالقول ان مشروعها انتصر على المشروع العربي الذي تفكك الآن ليصبح خليطاً غير معروف من التجمعات المتصارعة على كل شيء، التطبيع بهذا المفهوم جاء نتيجة الخواء والفراغ الذي تعيشه المنطقة العربية ، فلا دولة مركزية ولا فكرة كبرى تجمع وتلم ولا قضية ذات قدسية كافية، التطبيع عملياً يعطي اسرائيل الريادة والقيادة لاقليم يكاد يخلو من استراتيجية واحدة موحدة ، لهذا كله، فان التطبيع تعميق للازمة وليس حلاً لها.