الكاتب: أحمد غنيم
كنتُ تناولتُ في مقال سابق ضمن سلسلة مقالات أعدها لمتابعة التحضيرات للمؤتمر العام الثامن لحركة فتح، الترحيب بقرار الأخ الرئيس أبو مازن بتحديد موعد لعقد المؤتمر، وبمعزل عن التطرق لدوافع الرئيس بخصوص القرار الأمر الذي ربما أتناوله في مقال أخر، أشير إلى أهمية ما نشره الأخ نبيل عمر حول موضوع المؤتمر وأتفق معه فيما نقله عن الأخ الرئيس الشهيد ياسر عرفات، أن عقد المؤتمر العام لحركة فتح مُتعب في إعداده ومتعب في نتائجه، وأضيف أن إرادة عقد المؤتمر باتت تتدخل فيها إرادات متعددة ليس أقلها الخلافات الداخلية، بل الصراع الخارجي على وظيفة الحركة، سواء استهدافها من دولة الاحتلال أو من دول إقليمية وعالمية، وذلك على خلفية استعصاء عملية التطويع التي تتعرض لها الحركة منذ مقاومتها لتمرير التسوية بالمقياس الإسرائيلي الأمريكي ألذي قاومه الرئيس ياسر عرفات وقضى شهيداً دونه، إضافة لأسباب أخرى داخلية وخارجية، غير أن ذلك كله لا يعني أن حركة فتح غير قادرة على عقد مؤتمر ناجح، خارج إرادة الصراع الداخلي والخارجي، بل بات ذلك ضرورة مصيرية لحركة فتح، إن لم تتصدى لها وتوفر لها شروط النجاح،ولم تعمل عليها الأن فإن خطراً جديا يتهدد بقائها واستمرار دورها الطليعي في قيادة النضال الوطني، وعليه فليس لحركة فتح سوى الانتصار على كافة التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه المؤتمر بل الحركة بشكل عام. قد يعتقد البعض أن حركة فتح تحتاج إلى معجزة للقيام بذلك، بعد سنوات من عملية ضحن منهجي تعرضت لها الحركة من أجل تغيير وظيفتها من حركة تحرر وطني إلى حزب مدني سياسي حاكم، غير أن تاريخ حركة فتح الحافل بمواجهة التحديات يؤهلها أن تستعيد وعي الفعل الثوري لتجترح معجزتها من جديد، الم تكن الانطلاقة معجزة في ظل واقع عربي استسلم لكارثة العام 1948، الم تكن معركة الكرامة التي خاضتها حركة فتح إلى جانب أبطال من الجيش الأردني الذين رفضوا مع قيادة فتح الاستسلام لهزيمة حرب 1967 معجزة، ألم يكن صمود بيروت معجزة ، ألم تكن لانتفاضة معجزة. ما زالت حركة فتح رغم الجراح، مؤهلة بل قادرة على النجاح في عقد مؤتمرها العام الثامن والانتصار على التحديات الوجودية الصعبة.
غير أن هذا النجاح لا يمكن أن يتحقق بشكل تلقائي ودون قرار حاسم بمواجهة التحديات بشكل موحد، الأمر الذي لا يحتمل الاستمرار وفق أليات العمل الحالية، وضمن واقع الخلاف والاستقطابات الداخلية، التي تُعتبر التحدي الأول في البعد الداخلي الذي يجب أن يوضع له حداً بشكل حاسم ونهائي، فالحركة أهم من قيادتها ومن أطراف الخلاف فيها وأبقى منهم، ومصيرها لا يجب أن يخضع لإراداتهم ومصالحهم، التي تتغير فيها التحالفات والمحاور بشكل مستمر، وفقاً لمصالح شخصية مغلفة بستار تنظيمي حركي حيناً ووطني حيناً أخر، وجاء فخ الصراع على الرئاسة ليزيد من حدة الاستقطاب الداخلي وتقلب المواقف، ما يفاقم الأزمة ويفتح أبواب التدخل لكل من هب ودب من دول وأفراد ذوي نفوذ ومصالح خاصة، لا علاقة لها بحركة فتح وأهداف شعبنا في الحرية والعودة والاستقلال، إن محاولات بعض أعضاء اللجنة المركزية إخفاء حقيقة الأزمة والخلاف الداخلي تتكسر على أرض الواقع يوميا، حتى عند نفيهم وجود الخلاف خلال حديثهم إلى الراي العام، سرعان ما ينزلقوا للتعبير عن تلك الخلافات حتى بنفس الخطاب أو اللقاء الذي يتحدثون فيه للشعب أو لأعضاء الحركة عن وحدة القيادة ووحدة الحركة، فلا يستطيعوا أن يضبطوا أنفسهم لتقتحم تعبيرات الخلاف بشكل مباشر أو غير مباشر كلماتهم، لم تعد الخلافات سراً على أحد، ولم تكن التسريبات بحق بعض ضد بعض فقط هي الوحيدة التي هزت أركان الوحدة الداخلية للحركة، بل مجموعة من القرارت التي جاءت على خلفيات صراع المحاور والمصالح. من فصل غير نظامي وتهميش واستبعاد لغير سبب. ولا يمكن أن نعزل الصراع على هوية الحركة عن تلك الخلافات، فالواضح أن هناك تياران في البعد السياسي المتعلق بهوية الحركة ووظيفتها، يجادل الأول ويتمسك بخيار التسوية على أساس من اتفاق أوسلو، وقد اجترح مقولات سياسية لا أساس لها في رؤية وبرنامج حركة فتح، خارجة عن مبادئها وأهدافها التي حذفت من وثيقة النظام الداخلي في المؤتمر السادس، وقيل أنها رحلت لهيكل البناء الثوري الذي لم يرى أحد أي نسخة منه، لتصبح فتح مؤهلة للتسوية السياسية، ومع اقتراب حركة حماس من خطاب المنظمة في وثيقة 2017، تم وضع محددات مانعة للوحدة الوطنية لا تتعلق ببرنامج منظمة التحرير، بل بالخلط بين برنامج منظمة التحرير المتعلق بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني خاصة حقه في قيام دولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس، وحق العودة للاجئين الفلسطينين، إلى الحديث عن التزامات منظمة التحرير وهي الالتزامات المتعلقة باتفاق أوسلو الذي تنصلت منه دولة الاحتلال، وأصبح التزام من طرف واحد، يدفع ثمنه الشعب الفلسطيني من دماء أبناءه يومياً ضمن علاقة باتت غير مقبولة من شعبنا وهي علاقة العدو الشريك، ورغم قرارات المجلسين الوطني والمركزي واللجنة التنفيذية نفسها بإنهاء العلاقة مع دولة الاحتلال وسحب الاعتراف بها، بل ومطالبة الأمم المتحدة سحب الاعتراف بإسرائيل " هذا من نص قرار اللجنة التنفيذية اقتباساً"، بينما التيار الأخر في الحركة الذي ذهب إلى مراجعات عميقة فكرياً وسياسياً بعد التعطيل المتعمد والمواعيد غير المقدسة للاتفاق، فأقدم على مواجهة عملية التطويع لحركة فتح وتمسك برؤية حركة فتح ومبادئها وأهدافها، وبالمقاومة والثورة ضد الاحتلال، التعبير الوحيد عن هوية حركة فتح ومبرر وجودها، وضدَّ موضعة الحركة خارج وظيفتها كحركة تحرر وطنية، وفي الغالب كانت سياسة التهميش والإقصاء تستهدف هذا التيار الذي دفع دماً من شهداء أبطال ومن أعمار أسرى من قيادات حركية آمنت بمقاومة الاحتلال ومارست إيمانها على أرض الواقع، ولا شك أن سياسة الإقصاء لم تقتصر على هؤلاء بل شملت كوادر كثيرة لأسباب متعلقة بصراع الأقطاب والنفوذ.
هناك عدد كبير من الأخوات والاخوة ومن مستويات قيادية مختلفة بينهم أعضاء في اللجنة المركزية والمجلس الثوري والاستشاري وأعضاء لجان أقاليم ومناطق ومكاتب حركية وأخوة وأخوات تستوعبهم الأطر التنظيمية وآخرين لا تستوعبهم الأطر الحركية وهم اضعاف من داخل الأطر. قرروا حفاظا على وحدة الحركة التعايش والتمايز داخل هذه الحالة الحركية في واقعها الملتبس بين التسوية والمقاومة. بمعنى التمايز بممارسة قناعاتهم المتعلقة بهوية الحركة ومهمتها وفقا لغاية الحركة التي أنشئت من أجلها ووفقا لمبادئها التي حددها النظام الداخلي في نسخته ما قبل المؤتمر السادس. ومع حالة الاستعصاء والتناقض بين هوية الحركة وفكرتها وبين الممارسة السياسية السائدة بغض النظر عن الاختلاف حول كونها ممر إجباري أو مستقر لضرورة عملية بسبب تعقيدات الوضع الدولي والاقليمي. فالثورة بحدِّ ذاتها نقيض لهذا الواقع التي يصر البعض على التسليم به. فإذا كان المقصود بسياسة التهميش والإصرار على الفصل التعسفي غير النظامي كما ظهر في رد الرئيس على أسئلة عدد من أعضاء المجلس الثوري، الأمر الذي سوف أتناوله في مقال لاحق، هو كسر هذه الصيغة، صيغة التمايز والتعايش، سواء على خلفية الموقف من الانتخابات المحلية والعامة أو ما سبقها من قرارات أو على خفية التمسك بخيار المقاومة من قيادات حملت روحها على كفها وحلقت في سماء المقاومة وشاركت في صد العدوان في معركة بأس جنين، وعوضت الغياب الرسمي عن مشهد المقاومة، أو كل أولئك الذين قرروا التمايز سواء بالمبادرة الفردية أو الحراك الجمعي وحفظوا للحركة هيبتها وهويتها وغطوا لغاية الآن بما سمي العمل الفردي والمبادرات الفردية الخلل في صورة الحركة أمام جمهورها وشعبنا الفلسطيني وجماهير الامة. وحفظوا لحركة فتح في موقعها ودورها في ميدان المواجهة. هذا هو جوهر الخلاف، بعيدا عن التحريف والتوظيف، وليس أبلغ من دعم وتأييد أعضاء الحركة وأبناء شعبنا لهذا التمايز ولهؤلاء المبادرين احتضان شعبنا لهم ولشهدائهم ورموزهم، إن عدد كبير من أعضاء الجيل الناهض الذين عبروا عن حضورهم في المقاومة سواء في كتيبة جنين وطولكرم أو عرين الأسود عدد كبير منهم من أبناء حركة فتح، بل إن عدد من الشهداء في عمليات ما سمي بالذئاب المنفردة أو من الكتائب هم من أبناء الأجهزة الأمنية، وهنا تبرز عبقرية التمايز في التعايش أثناء الخلاف في حركة تميزت بتعايش تيارات فكرية عريقة داخلها منذ نشأتها. وكانت دائما التنظيم القائد ولم تكن تنظيما لقائد، لا شك أن وحدة الموقف أفضل من التمايز فيه، ووحدة البرنامج أفضل من الاختلاف حوله، ووحدة القيادة أفضل من الصراع داخلها، لكن عندما يكون البون شاسع بين فكرة الحركة ومبادئها فإن التمايز والتعايش في ظلّ الاختلاف أفضل من الانقسام.
إن مواجه التحديات الخارجية التي تواجه عقد المؤتمر العام لحركة فتح، تتعلق بالنجاح في حسم الاختلافات الداخلية في بعديها السياسي والمصلحي الذاتي على مراكز القوة والنفوذ التي لا يتوقع أحد اختفائها تلقائيا، أو بالنصح والإرشاد والاقناع، بل إن ذلك يتطلب قرار مسؤولاً وشجاع من مؤسسات الحركة من المجلس الثوري أولاً ، وفي حال عجزه عن ذلك الأمر الذي يصعب تفهمه ضمن الصلاحيات التي يمنحها النظام للمجلس الثوري، ليس سوى لقاء جامع لمؤسسات الحركة مركزية وثوري واستشاري وأمناء سر الأقاليم والمكاتب الحركية، لوقف صراع الأقطاب في الحركة وعليها، وإن ضمن صيغة التمايز والتعايش حتى يقوم المؤتمر بنفسه بكف أيدي أطراف الخلاف، واختيار قيادة أعلى انسجاماً، ومراجعة العلاقة مع الاحتلال وتحديد رؤية الحركة وهويتها وموقفها من وهم التسوية السياسية ومن المقاومة، بما يعيد للحركة دورها الريادي في قيادة عملية التحرر الوطني، لأن الحيز الحقيقي للمقاومة قابل أن يشغل ممن يثبت أنه قادر على شغله، ولا يعقل أن تترك حركة فتح موقعها الذي شغلته على طول مسيرة النضال باستحقاق، وتلوم غيرها على شغله في حال أخلائها ذاك الموقع، فتح تؤمن بالشراكة الوطنية والمقاومة، شركاء بالدم شركاء بالقرار.
إن مسؤولية الأخ الرئيس في الحدِّ من عملية التقاطب الداخلي هي أساس أي توجه لاستعادة الوحدة الداخلية للحركة بالوقوف على مسافة واحدة من أعضاء الحركة، بعيدا عن أي حساب أخر، إنني أتوجه بنداء للأخ الرئيس مع دعوتي له بالعمر المديد، لم يتبقى هامش من وقت لتحقيق آمال الشعب بالنصر ، لذا فإن المهمة التاريخية التي أمامك هي أن تأخذ شعبنا إلى انتقال آمن بالحكم عن طريق الانتخابات التشريعية والرئاسية بحياتك وليس بعدك، حيث لا يضمن في ظل الصراع داخل النظام السياسي وعليه، أن يتحقق انتقال آمن بعدك، كما أدعوك للعمل على استعادة وحدة حركة فتح، من خلال مؤتمر موحد يُعيد فتح لموقعها الذي يليق بتاريخها، الأخ الرئيس التاريخ يرصد خطواتنا ونحن نريد لك أن تشغل موقع يليق بك في تاريخنا الفلسطيني، الأخ الرئيس قبل 150 عام لم يكن هناك دولة اسمها المانيا، جاء بسمارك من رئيسا للوزراء ثم أول مستشار لها، في ظل واقع من التفتت والانقسام في أكثر من 300 دويلة، وخلاف داخل الجيش وبين الحكومات والبرلمان، وبين القوى والشخصيات ذات المصالح والنفوذ، حدد رؤيته، ورؤية القادة أشبه برؤيا الأنبياء، قال سوف أوحد الوطن، دخل بسمارك التاريخ موحداً لألمانيا، الأخ الرئيس أبو مازن إن صفحات كثيرة كتبت في مسيرتك القيادية وما زالت أهم صفحة لم تسطر بعد، ولنا أمل أن تسجل فيها أن الرئيس محمود عباس استعاد وحدة الوطن ووحدة الشعب ووحدة النظام السياسي وحمى القضية الوطنية من التصفية والهلاك وأخذ شعبه إلى تغير ديمقراطي آمن، في ظل واقع دولي معقد. إن المؤتمر العام الثامن ليس شأنا حركيا فقط، بل إنه مدخل للنهوض بالحركة والشعب والقضية، صحيح أن التغير غالبا هو نتاج لتفاعل عوامل متعددة، غير أن للفرد من موقع القرار دوراً قد يكون حاسماً في التاريخ كما قال الفيلسوف الديمقراطي الروسي بلخانوف، الأخ الرئيس لإن اللحظة حاسة لا تحتمل إلا الحسابات الكبرى، بيدك أن يكون المؤتمر الثامن قدر فتح الأخير، وبيدك أن تصنع التاريخ.
عنوان المقال القادم المؤتمر الثامن لحركة فتح بين سيادة النظام وسيادة الرئيس