الكاتب: د. مصطفى يوسف اللداوي
ثلاثون عاماً مرت على اتفاقية أوسلو "للسلام"، الاتفاقية التي ظن الفلسطينيون الموقعون عليها أنها ثمرة المقاومة وخاتمة الصمود، وأنها إنجازٌ وطني ونصرٌ تاريخي، فهي ستحرر الأرض، وستعيد الشعب، وستفضي إلى دولةٍ ووطنٍ، وسيادةٍ وعلمٍ، وستخلق للفلسطينيين لأول مرةٍ وطناً حقيقياً على أرضهم، وسيكون لهم فيها على مراحل محددة زمنياً، على حدود الرابع من حزيران دولة وحكومة وقرار وطنيٌ مستقل واقتصادٌ ذاتيٌ حرٌ.
وظنوا أن "الجانب الإسرائيلي" سيحترم كلمته، وسيحفظ عهده وسيلتزم ببنود الاتفاقية، التي صاغها وفقاً لأهدافه وبما يحقق مصالحه ويحفظ أمنه واستقراره، وأنه سيمنح الفلسطينيين ما وعدهم به، وسيحقق للموقعين على الاتفاقية أحلامهم "الصغيرة" في كيانٍ عربيٍ إلى جانب كيانٍ يهودي "إسرائيل"، وأنهما سيعيشان معاً جنباً إلى جنبٍ، وسيتعاونان على استقرار المنطقة، وخلق مناخاتٍ اقتصادية واعدة.
في حين وصفها المعارضون لها بأنها خيانة تاريخية، وأنها أشد من النكبة وأسوأ من النكسة، فالأخيرتين رغم مرارتهما إلا أنهما لم تفضيا إلى اعترافٍ بالعدو، ولم تقسما الشعب الفلسطيني، ولم تجزئا أرضه، ولم ترغما الفلسطينيين على التنازل عن جزءٍ كبيرٍ من أرضهم التاريخية، والاعتراف بها دولةً إسرائيلية شرعية، لها حق الوجود والبقاء، والاستمتاع بالأمن والسلام، وهو ما كان يحلم به الإسرائيليون دائماً ويخططون له دوماً، إذ كانوا يتمنون أن يعترف الفلسطينيون بهم، وأن يتقبلوا وجودهم، وأن يعيشوا إلى جوارهم بأمنٍ وسلامٍ شأنهم شأن دول المنطقة في المحيط العربي.
الحقيقة أن قطاعاً كبيراً من الفلسطينيين قد أدركوا منذ الأيام الأولى لتوقيع الاتفاقية، أنها شؤمٌ عليهم، وأنها لعنةٌ أصابتهم، وسبةٌ لحقت بهم، وعارٌ لطخ تاريخهم، وانحرافٌ أثر على قضيتهم، وأن التاريخ لن يرحم الموقعين عليها والمبشرين بها، وأن شعبهم لن يغفر لهم، وأن أجيالهم لن تسامحهم.
فهي فضلاً عن أنها تنازلت عن أكثر من 70% من أرض فلسطين التاريخية، وشرعت استيطان اليهود فيها، فقد جزأت ما بقي منها وصنفت القليل الذي لم يعترف الكيان الصهيوني بالسلطة الفلسطينية المطلقة عليها، بل نازعها السلطات والصلاحيات، فكانت مناطق ثلاث متنازعٌ عليها، كان الفلسطينيون فيها هم الأضعف، والكيان هو الأقوى وصاحب اليد الطولى والكلمة الأخيرة، وقد بدا أنها تنتقص كل يومٍ من أطرافها، وتنهش قصداً وعمداً من قلبها، ولا تقوى السلطة الفلسطينية على منعهم أو اعتراض سياستهم.
كما كانت اتفاقية أوسلو سبباً في انقسامٍ حادٍ بين الفلسطينيين في الوطن والشتات، أثر على مكانتهم وسمعتهم، وأضر بهم وأساء إلى قضيتهم، وإن كان أغلبهم ضدها وعارضها بمختلف الوسائل والطرق، وندد بها واستنكرها، ونظم الفعاليات المناهضة لها، وتحمل الكثير من الأذى والعنت بسبب موقفه منها، إلا أن فريقاً آخر وإن كان أقلية، آمن بها ودافع عنها، واستفاد منها وانتفع بها، وأباح لنفسه استخدام جميع الوسائل لحمايتها ومنع سقوطها، فاستغل السلطات "الشكلية" التي منحته أوسلو إياها في البطش بالمعارضين والتنكيل بهم، فزجت بالكثير منهم في السجون والمعتقلات، وكممت الأفواه وقيدت الحريات وتعاونت مع العدو ونسقت معه، بحجة الدفاع عن "المشروع الوطني"، ومنع التآمر عليه لإضعافه وإسقاطه.
أوسلو اللعينة شوهت قضيتنا وقيدت نضالنا، وحرفت جهودنا، ومزقت صفوفنا، وبعثرت شعبنا، وتنازلت عن حقوقه، وفرطت في مقدساته، وأدخلتنا في متاهاتٍ غريبةٍ، وأقحمتنا في مسالك بعيدة، وجعلت بأسنا بيننا شديداً، وقسمتنا إلى مجموعاتٍ متصارعة، وأحالت بعضها رحماء مع عدونا، كراماً معه تصدقه وتؤمن به وتعترف، وتنسق معه وتتفق، وتفتك بشعبها لتكسب رضاه، وتعتقل أبناءه لتضمن أمنه، وتتنازل عن حقوقه لتحقق أهدافه وتنجز مشروعه، حتى غدت مع الأيام قيداً يقيد الفلسطينيين كلهم، ويكبلهم بالأغلال والأصفاد جميعهم، ويجرهم إلى حمأة الخيانة بالأشطان والحبال، ويقيد حريتهم بالسلاسل والجدران.
إلا أن العدو الذي نعم بأوسلو وهلل لها، واستفاد منها وضمن إلى حينٍ استمرارها، لم يعد راضياً عنها، ولا مكتفياً بما كسب منها، أو مقتنعاً بما حقق من خلالها، فهو اليوم ينتقدها ولا يريدها، ويعمل على وأدها والتخلص منها، ولا يريد أن يتنازل عن النزر اليسير الذي بقي للفسطينيين، ولا يعترف بالشريك الذي فاوضه ووقع معه، ولا يحترم الذي اعترف به وطبع معه، بل يحرجه ويخزيه، وينكس رأسه ويفضحه، ويضيق عليه ويعاقبه، ويحشره ويضعفه.
يرى العدو أن أوسلو قد أصبحت عقبة أمام مشاريعه، وعائقاً تعطل مخططاته، ولا تستجيب إلى رغباته ولا تحقق أحلامه، فمهد عملياً لإسقاطها ودفنها، والتراجع عنها وعدم الالتزام ببنودها، ورأى أنه قد آن الأوان للاعتراف بأنها أصبحت لاغية، ولم يعد لها وجود على الأرض، وأنه ينبغي استبدال السلطة التي نشأت بموجبها بأخرى تناسب المرحلة وتخدم الهدف، ولا يكون لديها سقوف وطنية أو طموحات قومية.
آن الأوان لأن ننعتق من اتفاقية الذل هذه ومن كل الاتفاقيات التي تبعتها وأكدت عليها، وأن نثور عليها ونتحلل من شروطها ونتخلص من بنودها، فالخلاص منها وحدةٌ واتفاقٌ، والحفاظ عليها فرقةٌ وضياعٌ، فهذه قضيةٌ مقدسةٌ مباركةٌ، نص عليها قرآننا الكريم وأوصى بها رسوله الكريم، وقد ضحى في سبيلها عشرات الآلاف من العرب والمسلمين، فلا يملك حق التصرف فيها أحد، ولا يجوز التنازل عنها مهما كان السبب، وأي تصرفٍ فيها لا يتفق مع الأصول، ولا يحفظ الثوابت والحقوق، ولا يحقق العودة والتحرير، هو تصرفٌ باطلٌ غير مشروع، واتفاقٌ فاسدٌ غير مقبول، لا قيمة له ولا التزام به.