الأحد: 17/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

بعد ثلاثة عقود من أوسلو ، إلى أين نحن ذاهبون ؟

نشر بتاريخ: 16/09/2023 ( آخر تحديث: 16/09/2023 الساعة: 10:03 )

الكاتب:





قبل محاولة الأجابة على هذا التساؤل المشروع عند كل أبناء شعبنا على اثر ما وصلنا له من انغلاق الأفق السياسي والأوضاع التي تسربت لقلاعها المياه وما يحدث في مخيمات اللجؤ من تدمير على أيدي قوى التكفير والظلام وتفشي تداعيات الانقسام على اثر الانقلاب الأسود ، لا بد من العودة إلى ما تحقق من تراكم لمراحل مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني بداخل الوطن وفي مختلف ساحات الشتات تحديدا مع بدء انطلاقة ثورتنا المعاصرة حتى الأنتفاضة الأولى الكبرى التي اشتعلت بفعل جماهيري ذاتي ، وتطورت بفعل مصداقية الحركة الوطنية وارتباطها بجماهير شعبنا زمن الأحتلال ووضوح برنامجها انذاك . فكانت هي العامل الأساس في حصاد نتائج سياسية وتحريك المسار السياسي وفتح آفاق التفاوض في مدريد ومن ثم في قناة أوسلو السرية وما تبعها من اتفاقيات لاحقة لم تلتزم بها دولة الأحتلال حتى يومنا هذا عن سابق اصرار ، فأفشلتها لأن حكامها ومجتمعها اليهودي الصهيوني لا يؤمنون حتى اللحظة بضرورات السلام العادل والحقيقي لانهاء الصراع التاريخي ، أو باقامة الدولة الفلسطينية وفق ما كشفته وثائق الأرشيف لديهم بعد ٣٠ عاما .

أن ما جرى خلال الأيام الماضية من خلافات وتصريحات متناقضة وزوبعة اسرائيلية حول تزويد الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعدد من المركبات العسكرية والسلاح الخفيف ، يسلط الضوء على مدى ضيق المجال أمام نتنياهو للمناورة في مواجهة احزاب اليمين الديني الصهيوني في حكومته. وتُظهر هذه القضية أيضا أن نتنياهو سيواجه صعوبة بالغة في تلبية المطالب السعودية المستقبلية بتقديم تنازلات تجاه شعبنا ، وهو شرط أساسي لاتفاق التطبيع مع المملكة العربية السعودية وفق ما تشير اليه التسريبات الصحفية .

أن تلك التجربة الثورية الغنية التي تمثلت بالانتفاضة الكبرى التي أعادت اهتمام العالم بحقوق شعبنا وعدالة قضيته واحرجت بل وعزلت اسرائيل امام العالم ما زالت ماثلة أمامنا حتى اليوم كما هي مفاصل كفاح ثورتنا الاخرى في ظروفها المتباينة ، وهي التي فتحت افقا سياسيا انذاك ، فرغم ان ما تبع الانتفاضة من اتفاقيات التي كان من الممكن أن تكون أفضل لو صبرنا قليلاً على مدى مسار الأنتفاضة وما كان ممكن أن يتمخض عنها ومن المؤتمر الدولي في مدريد . لكن لا يمكن لنا تقيم تجربة تاريخية ماضية في إطار ظروف الحاضر المتغير .

الا ان ما تحقق من تبعات اتفاق اوسلو وكنتيجة له من اقامة السلطة الوطنية لم يحقق انهاء الأحتلال وتجسيد الدولة ذات السيادة على الأرض الفلسطينية المحتلة بعد ٣٠ عاما ، رغم مخاض بناء مؤسسات الدولة العتيدة ، كما وعودة عدد لا بأس به من ابناء شعبنا ومقاتلين الثورة الذين تشتت بهم الاوضاع في اصقاع العالم العربي إلى أرض الوطن ليصبح مركز القرار فيه للبدء في فرض وقائع جديدة على الأرض من جانبنا تمهد لاقامة الدولة المستقلة .

لقد تم فتح مسار التفاوض في أوسلو كقناة سرية انذاك ، في وقت كان مؤتمر مدريد للسلام ما زال يعقد جلساته في زمن الحصار السياسي الذي كان مفروضا على منظمة التحرير في ظل الأوضاع الناشئة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتداعيات حرب الخليج وتفسخ الموقف العربي وإلغاء القرار الأممي بمساواة الصهيونية بالعنصرية ، لكنه برأيي لم يكن الخيار الأمثل.

بالنسبة لنا كانت المرحلة الانتقالية التي نص عليها الاتفاق هي ترجمة لشعار إقامة السلطة الوطنية على اي شبر يتم تحريره الذي رفعته منظمة التحرير في إطار البرنامج المرحلي ، وكان الأمل بأن تكون هي الممر كمرحلة نفرض فيها بناء مؤسساتنا العامة نحو الوصول الى تجسيد الدولة المستقلة بعد انتهاء الفترة الانتقالية التي حددت بخمس سنوات .

اما بالنسبة لدولة الأحتلال ، فكانت اتفاقات أوسلو تهدف إلى إنهاء الانتفاضة الجماهيرية التي كان من الممكن ان تحقق نتائج سياسية متقدمة نحو فضح الأحتلال على طريق دحره ، كما وهدفت الى تكريس مفهوم الحكم الذاتي المحدود بعيدا عن جوهر الدولة ، والى تفسيخ وحدة الموقف الفلسطيني وترسيخ الانقسام الناتج عن الانقلاب لمصلحتها ، ومحاولاتها انهاء قضية اللاجئين والعودة وتكريس تهويد القدس والاستيطان والسيطرة على المعابر والمصادر الطبيعية والهروب من النتائج التي قد تترتب على الاستمرار في مؤتمر مدريد وبما له علاقة بتنفيذ القرارات الاممية ذات الصلة .

باختصار فإن ما وصلنا اليه اليوم من اوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية وما اصبح ينخر مجتمعنا من مظاهر سلبية مختلفة من الفساد والقبلية والعشائرية وارهاق ديون المواطن والبطالة هو ما كانت دولة الاحتلال تهدف له من خلال أوسلو وتلك الاتفاقيات التي تبعتها ، من خلال سياسات مبرمجة ورؤية واضحة وبدعم وانحياز الولايات المتحدة الأمريكية الكامل لقرارات دولة الاحتلال سرا وعلناً لمنع تنفيذ الحقوق الوطنية السياسية لشعبنا وانهاء كل ما له علاقة بالأرث الكفاحي لمنظمة التحرير وعمودها الفقري "حركة فتح" ، ومحاولة كي الوعي الوطني الفلسطيني باتجاه ترويض افكار جديدة تحمل مسميات مختلفة تهدف الى خلق ما يسمى "الانسان الفلسطيني الجديد" الذي روجت له الأوساط الأمريكية للوصول إلى قبوله بما يسمى " تحسين الاوضاع من خلال التعايش مع الاحتلال دون انهائه" ، والبحث عن حلول لقضايا حياتية هامشية هنا وهنالك تتعلق بجوانب أمنية واقتصادية غير ذات قيمة أمنية لحماية شعبنا من المستوطتنين او تنموية مستدامة دون قاعدة انتاج وتشغيل ، بل إلى زيادة أنماط المجتمع الاستهلاكي وترسيخ الاعتماد على التشغيل في دولة الأستعمار ومستوطناتها .

ان قواعد الاشتباك بين مفهومنا ومفهوهم كانت متناقضة في اطار صراع يومي شائك ، وان الظروف منذ ذاك الوقت قد أصبحت اكثر تعقيدا بفعل تصاعد جرائم الاحتلال وزيادة الاستيطان وأعمال التهويد بالقدس والخليل والاغوار بشكل يومي لتتفيذ المشروع الصهيوني التوراتي في أرض فلسطين التاريخية "الانتدابية" بل وعلى نطاق جغرافي اوسع ، وبفعل غياب مؤثرات ومصداقية المجتمع الدولي الذي هيمنت على قراره الولايات المتحدة طيلة العقود الثلاث الماضية ، واتباع الغرب لسياسات ازدواجية المعايير والنفاق السياسي المتعمد ، وتمكين إسرائيل بالحصانة من اي عقاب ، إضافة إلى ما يمارسه الاحتلال من حصار على السلطة الوطنية التي اقتصرت مخرجات اتفاقية أوسلو على حصرها في المربع الذي حدده لها الاحتلال ، كما والعمل المستمر من جانب الاحتلال لاضعافها أن كان بالأمس أو اليوم ، رغم محاولات عديدة خاضها شعبنا للخروج من حدود ذلك المربع دون ان يحالفها النجاح دائما كما حدث في تجربة الانتفاضة الثانية لمحاولة خلق واقع جديد يتجاوز نصوص اوسلو التي انتهت اصلاً مع اغتيال رابين ، وينهي الأحتلال كهدف لمرحلة التحرر الوطني التي ما زلنا نخوضها .

لكن الأمر لا يتعلق من وجهة نظري بالتسميات والمسميات ، وانما بجوهر الواقع المعاش ومن مدى اقترابنا من تحقيق اهدافنا بالحرية والاستقلال ومن تحديد مهامنا كحركة تحرر وطني تخوض صراع شرس مع احتلال كولنيالي بشع لم يتخلى عن ما ورد تاريخياً من اهداف في تراث وفكر الحركة الصهيونية وتفسيراتهم التوراتية المزعومة حتى اليوم والتي اعتمدت على سبيل المثال تسمية غزة واريحا اولاً لما تحمله من معنى توراتي لهم حين كانت اريحا ملعونة وغزة يسكنها قبائل الفلسطينين لم يدخلها اليهود باوائل تاريخهم .

ولذلك علينا أن نفهم التاريخ التوراتي الذي يشكل احد اهم محدداتهم في تنفيذ قهرهم واضطهادهم لنا واستعمارنا الاحلالي ، وإلا فلن نفهم المعادلة أو نتقن البقاء والهجوم .
يجب أن نعرف تماماً أين تقع حدود أرض الميعاد من وجهة النظر الصهيونية الاسرائيلية، وأين تقع الأراضي التي تقاسمها الأسباط الاثني عشر بعد احتلال يوشع لأرض الكنعانيين؟ وهل هذه الأراض تقع في فلسطين وحدها أم تمتد بحسب الخريطة الموجودة على الموقع الألكتروني لوزارة الخارجية الاسرائيلية الى أراض في لبنان وسوريا والأردن ومصر؟ كما يعلنها دائما سموتريتش وبن غفير .

واليوم وبعد ٣٠ عاما من اتفاقيات أوسلو وما تبعها من ملاحق لم تؤدي إلى ما كنا نصبو له رغم النجاح النسبي في بناء عدد من القطاعات المؤسساتية . وربما كنتيجة خداع مبرمج لتصفية جوهر القضية الفلسطينية مارسته إسرائيل وحلفاؤها ، نجحت خلاله باشاعة التباين بالموقف العربي بالعلاقات معها على حساب حقوقنا بل وحتى الى نجاح سياسات التطبيع الرسمية التي ما زالت تسعى الى توسيعها لفائدة استراتيجية الولايات المتحدة ومصالحها وتفوقها هي ، وإظهار نفسها طيلة تلك الفترة بأنها تشارك في عملية سلام سياسية خدعت العالم بها ورفعت خلالها عن نفسها العزلة الدولية حتى بات العالم يتعاطى معها كشريك في عملية سلام وبمبداء المساواة بين الضحية والجلاد ، بل ويُحملنا البعض منه نحن مسوؤلية ما اَلت اليه الأوضاع من خلال اتهامنا باتخاذ إجراءات احادية تعيق السلام . أو ربما لأننا نحن أيضا خاطبنا العالم وفق تلك الافتراضية من وجود مسار لعملية السلام ، فرفعنا بذلك العزلة عن إسرائيل كدولة احتلال عنصري بالنتيجة خلال الفترات الماضية ، حتى بات جزء من هذا الغرب المنافق إلى حد ما مقتنع بوجود مسار سياسي يُحملنا نحن مسوؤلية اعاقته .

لقد اَن الأوان أن لم يكن منذ زمن ، بأن نقف بوضوح مع أنفسنا لنقيم نقديا تلك التجربة من مراحل كفاح شعبنا الوطني ، وأن نراجع الأداء بجرأة ليس من باب جلد النفس ، لكن من دواعي معرفة إلى أين نحن ذاهبون ، ومن أجل الخروج من دائرة الدوران حول الذات احيانا أو مربع تكرار التجارب التي ثبت فشلها.

أن استمرار التعاطي بردود افعال مع سياسات الغير بحقنا لن تجدي نفعا أن لم نتمكن من صياغة فعل جاد مبني على وضوح رؤية واستراتيجية سياسية كفاحية كان قد لخصها وقدمها الأخ الرئيس أبو مازن سندا لقرارات هيئات منظمة التحرير مرارا أمام المجتمع الدولي والمحافل الدولية خاصة بمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة . وإيجاد الأدوات اللازمة والبرامج لتنفيذها وفق روح المبادرة التي يجب أن نتحلى بها خاصة مع هذه التطورات والمتغيرات المتسارعة الجارية بالعالم وعلى مستوى النظام الدولي على قاعدة الاستفادة منها مع افول الهيمنة الأمريكية وانتهاء دور الرباعية . كما والاستفادة من الازمات التي تعيشها المجتمعات بالولايات المتحدة وإسرائيل اليوم وتباين المواقف الأوروبية من القضايا الناشئة على أثر المحاولات الجارية ضد الشرق وانعكاساتها على اوضاعها الداخلية .

بعد ٣٠ عاما من اتفاقية أوسلو التي قد غابت معظم نصوصها عن التنفيذ بحكم أفشالها المستمر عمدا من جانب حكومات الأحتلال الأحلالي ، رغم أنها لم تكن هي الأمثل حتى في حينه ، وما حملته بعض جوانبها من سلبيات وعبئ ثقيل الظل على الواقع الفلسطيني . الا انه يتوجب علينا اليوم أن نعمل ذاتيا على إعادة تحديد ملامح وهوية ودور ووظيفة السلطة الوطنية ، باعتبارها استحقاق وطني ووممر كان اجباريا في حينه . وتحديد مرجعياتها في إطار منظمة التحرير وفق التوافق الوطني الكفاحي بما يحقق لشعبنا الصمود المقاوم بعيدا عن كل ما جاء في تقيدات وتعقيدات أوسلو الذي يستخدمونه هم لتحقيق مصالح استدامة احتلالهم الاستيطاني واضطهادنا وقهرنا واستمرار اعمال القتل وفق معدل شهيد كل يوم كما هو الحال منذ بداية العام الحالي .

لذلك فإن الضرورة والمصلحة الوطنية تقتضي اولاً الحفاظ على شعبنا من الهلاك بل وحمايته من احتمال النكبة الثانية وجرائم ومخططات الاحزاب الصهيونية المتنافسة اليوم على مدى اراقة الدم الفلسطيني والاضرار بحقوقنا وتصفيتها في تعاطيها مع الأزمة البنيوية والدستورية الجارية الآن . كذلك العمل الفوري ضمن ما تتيحه الظروف الموضوعية والذاتية الممكنة التي أشرت لها لإعادة تصويب المسار باتجاه اصول حركة تحرر تكافح من أجل إنهاء أطول احتلال استيطاني بالعصر الحديث .

ان حركة الجماهير والتفافها حول القيادة السياسية في بيئة من الوحدة وتبادل الثقة وتجسيد المشاركة الشعبية الوطنية الواسعة من خلال الآليات الديمقراطية في صناعة القرار هو العامل الأساس للانتقال إلى مرحلة الفعل الفلسطيني لاستعادة المبادرة لخلق واقع جديد يفتح آفاق تحريك العملية السياسية من خلال أشكال مقاومة الاحتلال والاستيطان التوسعي على الارض وجعله مكلفاً بهدف تحقيق انهائه اولاً . كما ومن خلال ألارتقاء باشكال الدبلوماسية المقاومة امام العالم وبعلاقاتنا مع الدول والشعوب والأحزاب والمنظمات الدولية التي تطالب بمقاطعة إسرائيل ، حتى لا يكون سقف مطالب اصدقاؤنا أعلى من سقف مطالبنا نحن أصحاب القضية . والعمل على مراكمة بناء تنفيذ حقنا بتقرير المصير والاستقلال الوطني واسقاط الابرتهايد الذي اصبحت إسرائيل تتصف به خاصة حين تأتي تهمة الأبرتهايد من قلب المؤسسة الحاكمة المتمثلة
في تصريحات الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي تامير باردو لوكالة "أسوشيتد برس" ، عن أن إسرائيل تطبّق نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) في الضفة الغربية المحتلة ، حيث تكمن قوّتها أنها تشكّل لائحة اتهام لمجمل السياسة الرسمية لدولة الأحتلال من داخل صفوفهم .

انها فرصة لنراكم الكفاح وفق هذا الواقع الصهيوني اليوم بعيدا عن سراب الحلول التي يخدعنا بها الغرب لاطالة مبداء إدارة الازمة والصراع دون حلها ، وهو ما يشكل الاجابة لسؤال عنوان المقال ، خاصة مع اقتراب مشاركة الاخ الرئيس أبو مازن باجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة وما يتوجب باعتقادي من ضرورات الأعلان عن دولة فلسطين ، كدولة تحت الأحتلال والعمل وفق هذه التسمية بعيدا عن مسمى السلطة الوطنية وفق قرارات المجلس المركزي حين تم انتخاب رئيسا للدولة ، وطلب الحماية وفق البند السابع لنظام الأمم المتحدة من الجمعية العامة لها سندا لاعترافها عام ٢٠١٢ بدولة فلسطين كدولة غير عضو مراقب وسندا للأعترافات الدولية الثنائية بدولتنا .