الإثنين: 23/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

معرض الكتاب ... كرنفال للثقافة الوطنية

نشر بتاريخ: 17/09/2023 ( آخر تحديث: 17/09/2023 الساعة: 09:17 )

الكاتب: نهاد أبو غوش

اعتدنا على طغيان الأخبار والتعليقات السلبية والمتشائمة على صفحات الأخبار ومساحات الإعلام بما في ذلك مقالات الرأي، مردّ ذلك هو أن الأعمدة والمقالات تركز غالبا على أخبار السياسة الوطنية وقضاياها الشائكة، وسط تحكّم الاحتلال في بيئتنا العامة وكل تفاصيل حياتنا. يوجد نصيب مهم كذلك للقضايا الاجتماعية والتربوية والخدمية المختلفة، لكن معظم المعالجات تركز على الانتقادات وإبراز السلبيات، ولا بأس في ذلك إن كان المقصود هو الإصلاح والتطوير وتلافي أوجه الخلل والقصور. لكن اكتمال صورة أحوالنا الوطنية والاجتماعية يقتضي إبراز الإيجابيات والصور الجميلة كذلك، وهي كثيرة فعلا لكنها غالبا تضيع في زحمة المعاناة اليومية من جرائم الاحتلال.

من بين الفعاليات التي تستحق الاهتمام والتنويه، معرض فلسطين الدولي للكتاب، الذي نظمت دورته الثالثة عشرة هذا العام تحت شعار " من جيل إلى جيل فلسطين تقرأ"، وسط اهتمام شعبي ملحوظ، وبمشاركة واسعة من دور نشر محلية وعربية بالإضافة إلى مؤسسات وهيئات نوعية تعرض إصداراتها الخاصة بها.

المعرض نظمته كالعادة وزارة الثقافة بالشراكة مع دور النشر، وإدارة المكتبة الوطنية الفلسطينية التي استضافت المعرض والفعاليات في مقرها في بلدة سردا، وكان يمكن توسيع دائرة الشراكات لتشمل مزيدا من الهيئات والمؤسسات الرسمية والأهلية والقطاع الخاص، ولا سيما مع الإدراك المتزايد لدور الثقافة في الحفاظ على الهوية الفلسطينية واستنهاض روحها المناضلة، وتعزيز القيم والاتجاهات الإيجابية. هذه الحقائق تعني أن الثقافة ليست مجرد اهتمامات جانبية لبعض النخب من منتجي الثقافة الإبداعية والمشتغلين بها، بل هي شأن عام شامل يترك آثاره المباشرة وغير المباشرة على كل مناحي حياة الشعب، وبالتالي فإن تطوير بيئة الثقافة وتعزيز انتشارها وازدهارها يسهم إسهاما عظيم في مسيرة الشعب الفلسطيني نحو انتزاع الحرية والاستقلال، وبالتالي فإن مهمة دعم الثقافة والكتاب والمثقفين هي مهمة السلطة وجزء من مسؤولية القطاع الخاص الاجتماعية، ولا ينبغي إطلاقا تركها لقوانين السوق وأحكام العرض والطلب.

المعرض ليس مجرد سوق للكتب، يعرض فيه الناشرون إصداراتهم كسلع لبيعها، فقد وجدنا ناشرين يتركون كتبهم ومعارضهم وينتهزون أدنى فرصة لزيارة القدس والتعرف إلى فلسطين ومناطقها وناسها. ويبدو أن الأمر كان بالنسبة لبعضهم أشبه بحلم تحقق بالنسبة لهؤلاء الأخوة والأخوات القادمين من دول عربية شقيقة وبعضهم فلسطينيون، وكلهم روحهم مسكونة بفلسطين. كما أن الأنشطة التي رافقت المهرجان من ندوات وفعاليات توقيع كتب وقراءات شعرية، ومعارض فنية تشكيلية، وعروض مسرحية للأطفال أضفت مزيدا من البهجة والتنوع. وبذلك تحول المعرض إلى كرنفال واسع للثقافة الوطنية الفلسطينية لا يملّ المرء من التجول في جنباته والتدقيق في تفاصيله حتى لو زار المعرض عدة مرات.

احتفى المعرض برموز الثقافة الوطنية الفلسطينية فانتشرت صور محمود درويش وسميح القاسم وغسان كنفاني، وإميل حبيبي وتوفيق زياد وابراهيم طوقان وابو سلمى، وخليل السكاكيني، وأطلق اسم الأديبة التي رحلت هذا العام سلمى الخضراء الجيوسي على القاعة التي احتضنت نقاشات الكتب والندوات، كما خصصت زاوية للشاعر الراحل زكريا محمد، وزُيّنت واجهات المعرض بلوحات بانورامية للقدس ومقدساتها وأسوارها وأبوابها، وكان للقدس حضورها المميز حتى في الكتب المعروضة عن القضية وكذلك في معارض الفنون البصرية.

من الأمور المبهجة مشاهدة الزيارات المكثفة (والمنظمة غالبا) لوفود متلاحقة من فلسطينيي الداخل على الرغم من بعد المسافات، وكذلك الوفود الجماعية للأطفال وطلبة المدارس، وزيارات عائلية من مختلف المحافظات، كما شكل المعرض فرصة جميلة للقاء الناس والأصدقاء والمعارف من المهتمين بالثقافة والكتب، وكل ذلك يعيد الاعتبار للكتاب المطبوع في حياة الناس بعد التحولات العاصفة في وسائل الاتصال التي تركت آثارها السلبية على الكتاب المطبوع ومكانته.

جرى توفير بعض التسهيلات الضرورية كالمقاصف والحمامات العامة، ولكن لوحظت بعض المشكلات اللوجستية المحيطة بالمعرض كأماكن وقوف السيارات، وكان يمكن حل هذه المشكلة أو تخفيفها بالشراكات مع مختلف الجهات، والانطلاق من حقيقة أن مسؤولية الجهة المنظمة لا تقتصر على إدارة المعرض وتنظيمه من داخله، ولكن في اتخاذ جميع الخطوات والتدابير المؤدية إليه ما في ذلك الاطمئنان على توفير مواصلات سهلة، والترويج للمعرض ومحتوياته قبل بدء المعرض بفترة كافية، وتطوير تطبيقات حديثة تمكن من الاستدلال على دور النشر والموضوعات المعروضة والكتب وأسعارها.

ولعل المسألة الجوهرية التي تستحق الاهتمام واتخاذ قرارات وطنية جريئة بشأنها، هي أسعار الكتب وكلفة اقتنائها بالنسبة للغالبية العظمى من الشغوفين بالقراءة، وهم في الغالب من محدودي الدخل الذين لا يطيقون شراء أكثر من كتاب أو كتابين. ومعروف أن كلفة إصدار الكتب ونشرها ترتفع يوما بعد يوم، والحفاظ على حقوق المؤلفين والناشرين يتطلب أسعارا عالية،. ولكن إذا أخذنا في الاعتبار أن الثقافة ليست مجرد علاقة حصرية بين المؤلف والقارئ بل هي فعالية وطنية وإنسانية تسمو بالأخلاق والسلوك، وترتقي بالجموع وتساهم في حفظ الحقوق، وتكتسب أهمية استثنائية في حالة شعب خاضع للاحتلال كشعبنا، لولا الثقافة لما نجح في استرداد هويته الوطنية من مهاوي الشطب والطمس والاستلاب والإلغاء. إلى جانب ذلك ليس من العدل تكبيد دور النشر العربية أعباء السفر وتفريغ الموظفين المرافقين للكتب وحجز الأرضيات ليعود هؤلاء بعد كل ذلك ولم يظفروا إلا بشرف المحاولة، سيفعلون ذلك مرة أو مرتين ولكنهم لن يكرروها، ولذلك تصبح مسؤولية السلطة والهيئات العامة والخاصة دعم الكتاب، بدءا من دعم المؤلف والناشر والموزع وصولا إلى دعم المواطن التواق للقراءة بحصوله على الكتاب بأقل الأسعار. يمكن للحكومة شراء نسبة معينة من معروضات الناشرين، أو نوعية معينة من الكتب، وتوزيعها على المكتبات المدرسية والبلدية، كما يمكن الاحتفاظ بجزء مهم من المعروضات ونتاجات دور النشر والطواف بها على المدن والقرى، والذهاب بالمعرض إلى حيث الناس لا الاكتفاء بانتظار مجيئهم إلى رام الله.