الكاتب: جمال زقوت
انفجرت في الأيام الأخيرة حملة منظمة ضد رأي عبرت عنه مجموعة في بيان عرف "ببيان المئة"، وبغض النظر عن الاجتهاد ازاء ما تضمنه البيان أو غفل عنه، فقد انحدر الاسفاف في هذه الحملة حد استسهال التخوين، وهو الأمر الذي بات طاغياً في الحوار الداخلي بين مختلف الفرقاء، دون الانتباه لما يحدثه من انزلاق خطير بعيداً عن معركتنا الأساسية في مقارعة الصهيونية وطابعها العنصري، وفضح نفاق حلفائها في الغرب الاستعماري ، وهو الأمر الذي لم يعد قادراً على تحقيق اختراقات ازاء أهدافه باحداث التحولات المرجوة رغم ما يجري من تَغَيُّرٍ لصالح قضيتنا في الرأي العام في أوساط العديد من دول وشعوب العالم، ذلك بفعل أزمتنا الداخلية الطاحنة، وانحرافها عن بوصلة النضال والخطاب الموحد ضد الاحتلال والصهيونية، وأيضاً بفعل ما علق بالنظام السياسي الفلسطيني من مظاهر خلل باتت فاضحة، وتعيق الاستثمار السياسي لما يجري من تغيُّر في الرأي العام الدولي ذاته.
الأزمة الفلسطينية الراهنة تتعمق يومياً، وتبدو وكأنها في حالة انسداد عقيمة لا مخرج لها، ذلك يعود بشكل أساسي إلى اصرار القوى الانقسامية المهيمنة على المشهد رفض مراجعة الأسباب التي أوصلت الحركة الوطنية ومشروعها الوطني إلى ما هي عليه من فشل يقترب من الافلاس. ولكن علينا أيضاً ألا نغفل أنه، وبالاضافة لطغيان أولوية المصالح الأنانية والشخصية والفئوية لدى الممسكين بقرارنا الوطني من عنقه، فإن نفاق المحيطين ومحاولات تزيينهم لهذا الفشل، واختراع نجاحات غير موجودة أحياناً، أو الاكتفاء بقذف الاتهامات لأصحاب الرأي الآخر في كثير من الأحيان، الأمر الذي جعل القيادة ذاتها تبدو وكأنها معزولة عن الواقع، وعن مدى حاجتها لفكرة أو نصيحة قد تسهمان ولو في تدوير زوايا الأزمة إن لم يكن الخروج منها .
كان وما يزال من الممكن أن تكون أحد آليات البحث عن مخارج الأزمة الوطنية، بأن تلجأ القيادة إلى الدعوة لعقد مؤتمر وطني والاستعانة بعدد من المفكرين، بدلاً من ترك المنافقين يتمادون في حملة الردح والتخوين، وأن يشارك فيه أصحاب الرأي والخبرة وممثلين عن مختلف القوى السياسية والقطاعات الاجتماعية وقادة المقاومة الشعبية والحراكات الوطنية والاجتماعية التي تعلن يومياً مدى مخاطر الاستمرار بالسياسة الراهنة للسلطة و لهاثها حول مجرد التفاوض، وكذلك مخاطر سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المعتمدة، والتي تشكل البيئة الحاضنة للعزلة الشعبية التي تكاد تخنق السلطة وتجعلها فريسة لمخططات الاحتلال.
فالدعوة لهكذا مؤتمر ستشكل إشارة من القيادة لمدى الحاجة الوطنية لمراجعة المأزق وتداعياته الخطيرة على المصير الوطني ، و أن يؤخذ بمخرجاته كاستراتيجية عمل موحدة لاعادة هيكلة وتوحيد المؤسسات الوطنية الجامعة على صعيد المنظمة والسلطة، تمهيداً لاجراء انتخابات عامة تفتح الباب نحو اعادة بناء وتجديد الحركة الوطنية وبرنامجها الوطني التحرري. .
للاسف هذا لم يحدث، ويبدو أنه بعيد عن مجرد التفكير به، والأخطر كما يبدو هو حالة انكار الواقع والاعتقاد بأن الأمور تسير على خير ما يرام، وأن المشروع الوطني لا يعيش أزمة، ولا خطر على قضية شعبنا وضم أرضه وتصفية حقوقه، وأن المشكلة تكمن فقط في "المناوئين اصحاب الرأي في خدمة الآخر" وأن الحل يكمن فقط باقصائهم وفضح " أجنداتهم الخارجية !!!". وطالما أنه من المستبعد أن تتبنى قيادة السلطة والقوى الانقسامية المهيمنة على المشهد الدعوة لمثل هكذا مؤتمر، فعلى باقي الاطراف الأخرى أن تتحمل مسؤولياتها للتحرك بهذا الاتجاه .
هذه النمط من سلوك القيادة لا ولن يوصلنا إلى أي مكان، بل سيكون الطين الذي يدفن الانجازات التي حققها شعبنا المكافح على مدار ما يزيد على القرن في مواجهة العنصرية الصهيونية. فالافلاس الذي وصلنا إليه يشبه مقولة "اللي بيفلس بيدور على دفاتره العتيقة"، حتى لو تآكلت قيمتها . فمواجهة زيف الرواية الصهيونية التوراتية، وصون الرواية الوطنية وابقاؤها حية قادرة على الصمود يتطلب أولاً وقبل كل شئ توحيد واستنهاض طاقات شعبنا، اليوم وغداً ، وليس استبداله بمجرد الهروب إلى تاريخ لن يفيدنا اليوم بشئ إن لم يكن ضاراً بعدالة قضيتنا وقيمها الاخلاقية، والتي ترفض أي جريمة انسانية بحق أيٍ كان، مميزةً بين اليهود كيهود، وبين الصهيونية الكولونيالية العنصرية، سيما أننا الضحية التي تدفع ثمن ذلك التاريخ من حاضرها ومستقبلها . فأهداف الصهيونية واضحة، ومخططات يمينها التوراتي الفاشي العنصري تسير على قدم وساق وهي تسعى للاطاحة بوجودنا في هذه البلاد، والصراع الجاري ليس فقط على التاريخ، على أهمية ذلك، بل وعلى متطلبات وممكنات استنهاض عناصر القوة التي تعيننا على تغيير الحاضر والظفر بالمستقبل، كي نكون قادرين على مغادرة كوننا ضحايا لنستعيد مكانتنا في بناء الحضارة الانسانية ذاتها. فماذا نحن فاعلون ؟!.