الكاتب: يونس العموري
تأتي الذكرى كما هي العادة السنوية في اجندة المناسبات الفلسطينية، ويأبى ايلول الا ان يحمل معه ذكرى بشاعة القتل، وممارسة الذبح، وابداعات السطو على الجسد الفلسطيني، والإمعان بتمزيقه بشتى السبل والوسائل... وايلول هذا قد صار شهرا ينزف فيه الجرح منذ ان اعتلى القاتل منصة السادة الكبار، وصار يلوح بقبضته متوعدا فقراء العصر، والمطاردين بين ازقة احلامهم، والمطرودين من جنتهم، واللاجئين الى جنان ارض الغير ليتشكل المشهد الإنساني الجديد، فلا يمكن ان تستقيم دنيا الانسان دون لجوء الفقراء من جنان ارضهم الى جنان الأخرين، وحيث ذلك فلابد من شهر للذبح والقتل وممارسة بشاعة المجزرة حتى يستوى فعل القتل وحتى نتذكر ان للإنسان اللاجئ ارض وربما جنة يبحث عنها وسط معاني التذكر والتذكير بالهم البشري، وللباحث عن وطن يستقيم معه فعل صراخه وممارسة ألمه وحبه ، والقليل من فعل الشياطين....
تأتي ذكرى المجزرة والسؤال مازال مطروحا، واجاباته معلومة ولا مجاهرة بالحديث او كشف اللثام عن واحدة من اروع وأبشع الإبداعات في القتل والهمجية... وعلى لوحة لم يستطع غبار الزمن إخفاءها ولم يستطع التاريخ طمس معالمها... رغم القهر... رغم المعاناة... رغم الألم مازالت صبرا وشاتيلا على قيد الحياة وها هي المجزرة رغم السنون مازالت شاهدة لم تستطع النسيان.
مجزرة صبرا وشاتيلا... الجرح النازف ... جرح شعب مازال يجمع أشلاءه... جرح أرض مازالت تأن وتصرخ كما هي الحال في مجازر الفعل اليومي لممارسات اخوة القيد والمعاناة وحلفاء الشيطان الجديد، التي نشهدها بالظرف الراهن في ازقة ما يسمى بالوطن الفلسطيني المحروم من استكانة ولو قليلة للملمة ذاكرة بشاعة القتل الذي كان في كل أمكنة لجوء من يحاول ان يحيا فوق الأرض وان يمارس فعله الإنساني وحقه بأن يصرخ بأن له وطن وجنة على ارض تسكن هناك بين ثنايا انياب الشيطان...
بعد كل هذه السنوات نمارس فعلنا الأولي والمتواصل بأن نكتب مرثياتنا من جديد وبلغة قد نفهم ابجدياتها وربما نتوه بالمعاني واساليب صياغة المفاهيم. بالعرف الفلسطيني يرتبط مفهوم القتل والذبح وفعل المجزرة بممارسة العدو وهذا العدو قد يكون ذاك الشيطان او من يتحالف مع سدنته وخدامه المتطوعون في بلاط سادة القتل ووأد الحلم ان حاول ان يتشكل، او ان يعبر الذاكرة وان كان كمحاولة لاستكانة الذات او ارضاء غرورها بأن تطوف عند قبور الأولين الذين صنعوا مجد اسطورة الزمن الجميل...
تبدأ القصة حينما تسللت الأنوار والأضواء الكاشفة بذاك الليل الحالك عتمة وسوادا لتخترق العتمة ليبدو مشهد القتل والذبح أكثر وضوحا.. وأكثر ايلاما للضحية وللمقتول ولمعصوب العينين وكأن المشهد الدرامي لابد من تسجيله وسط صرخات الثكالى ما بين الأضواء الكاشفة... وهنا تكمن حقيقة الأشياء الصارخة.. القتل لابد ان يكون تحت الأضواء الكاشفة والفاضحة لكل العورات... وسيد القتل لابد له من ان يراقب تفاصيل التفاصيل لكشف المستور وتوجيه القاتل وادواته المغروزة باللحم الحي... كان لابد لهم من ان يرعبوا الضحية ورعب الضحية لا يستوي الا بفعل نصل السكين والذبح بالسيوف والبلطات... وحتى تستوي الأمور اكثر لابد من شهود ليخبروا من بقي حيا من ابناء وسخ المخيمات، فكان النجاة الذين عزفوا شهادتهم على دفاتر ازمانهم عويلا وبكاء وصراخا والشيء من الضجيج لعل مضاجع سادة العرب والعجم يتنبهوا ان ثمة مجزرة ترتكب هنا ورائحة الموت تنتشر بالمكان ولا ضير ان كان القليل من عطر الموت قد أزكم الأنوف... فالقاتل بحاجة لمن يوقفه عن القتل ويستصرخ كل ضمائرهم ان تعالوا واقفوني عن ممارسة القتل لذلك لا ضير ان تسلل القليل من ابناء الوسخ في ذاك المخيم....
هنا جلس من كان في المكان على تلة من الجثث محاولا ان يستعرض المشهد من جديد... وفي محاولة لأن يفهم مجريات النسق السياسي الذي تبدل... وحيث هو يتفكر يأتيه من يلقي على مسامعه بيان العصر الجديد... وأساطير حكاية الضحية والجلاد... وتغير الأزمان... وكيف يصبح من ينطق بلهجة الفقراء على هامش البيان الرشيد....
وهنا حاول من حاول من اطفال البزازة ان يتنزعوا حلمات امهاتهم ليأخذوا منها قطرات من حليب.. فكان للقتل الفعل الرحيم لأمهات سئمن الصراخ والعويل وكان ان جاءهن القتل بغفلة وهن يرضعن اطفال البزازة بذاك لمساء حيث كن يحاولن سرد حكايا أقاصيص الرجال الراحلين للتو ببواخر كل اقاصي الدنيا.. وقهقة من يعتلي منصة المكان تختصر كل بلاغات اوامر فعل التنفيذ....
وكان ان يأتي القائد المرصع بكل نياشين الأطفال الرضع ان استنكر وانكر فعل المجزرة.. وما هي الا سنوات حتى عاد بطلا من ابطال تلك الأزمنة .. ليكون احد لاعبي لعبة الرئاسة من جديد في بلد المجزرة وحاضنة الوسخين بوسخ مخيمات الشقاء والبؤس... وما هي الا سنوات حتى يعود من جديد من تولى اضاءة الأضواء الكاشفة ليقرأ علينا الشيء اليسير مما كان يتوعد ويتهدد في ظل انفلات وانقلاب موازيين الحلال والحرام في بلد الجبل والبحر والنساء الجميلات والكثير من عنفوان مقاومة الأشباح المتسترين خلف الأسماء ليهوذا الساكن بالمكان منذ ان بدات المجزرة تؤتي ثمارها... حيث توالت ما بعدها كل المجازر وصار القتل للوسخين من ابناء المخيمات مشروعا وممكنا... بل لا تستوي حسابات ذاك البلد الطائفية وتلك المذهبية وحتى الأثنية والجمالية الا من خلال ضرائب الدم التي لابد من ان تدفعها مخيمات الوسخين وهذا ما كان وما سيكون ايضا حتى الأن...
هي قصة المجزرة وهي قصة ابادة الحالمين.. ومحاولة لاستئصال فلسطين من ذاكرة المؤمنين بالأرض السمراء ... وكل هذا من سفر تكوين حكاية المهاجرين باستمرار والقابضين على مفاتيح البيوت المعلقة بالصدور منذ ان كان العبور للزمن المجهول.... وهذا الطبيعي فلا هجرة دون اشتياق، ولا عبور دون ان يتكون ويتشكل المجهول بالأذهان، ولكن ان نرتكب نحن المجزرة وتنقلب على ذاتها الضحية وتحاول ان تمارس فعل الجلاد... فهذا ما حاول ان افهمه واتفهمه هذه الأيام... وان نمارس القتل والذبح بحد السكين وعلى مرأى ومسمع من القاتل المتبختر الأن في شوارع البيروت والقادم الى فعل السيادة والحرية والاستقلال، فهذا ما لا استوعبه الأن... وما عسانا سنقول لكل من يحاول ان ينصر دماء شهداء المجزرة التي تكومت اجسادهم جبالا بالطرقات ونحن نمارس ابشع افعال القتل اليومي بحواري غزة وخانيونس ولربما ايضا هنا حيث القدس الأقرب الى مرمى الحجر....؟؟؟
بعد كل هذه السنين نعجز عن فضح القاتل من جديد، وممارسة فعل البكاء والعويل حيث ان الأحمر القاني ينزف الأن في حوارينا وعلى ارض البرتقال... وقد صار القتل محللا باعتي الفتاوى الشرعية لجهابذة الخلوات الشرعية...
المجزرة الأن اصبحت خلف الحقيقة بعدما غابت تلك الحقيقة خلف الأفق كالشمس في ظل حقيقة القتل الأنية والراهنة لحملة بنادق ما يسمى (بالوطنية الجديدة) .... فها هي المجزرة من جديد متواصلة بلا اسم ... بلا عنوان... بلا قضية ...محت أمواج الصمت الألوان ومات صدى الدماء في جوف الأرض.... لنحاول ان نجمع تراث المجازر ونحصي اسماء القتلي ولربما ايضا الشهداء...