الكاتب: هيثم زعيتر
يُجسّد رحيل الفنان المُناضل حسين علي مُنذر "أبو علي"، العروبة من بابها الواسع، فهو لبناني الهوية، فلسطيني الإلتزام بالقضية، وسوري الإقامة الجغرافية.
برحيل قائد "فرقة العاشقين"، لا تخسر الفِرقة فقط ركناً أساسياً، بل القضية الفلسطينية ولبنان وسوريا والعروبة.
تعرّفتُ إلى الراحل "أبو علي" مُنذ عقودٍ، وبلقاءاتٍ في محطّات مُتعدِّدة، وكانت آخر مُشاركاته الهامّة مع "فرقة العاشقين"، بعد إعادة تجميعها، بمُبادرة من رئيس "مجلس الأعمال الفلسطيني" في دبي مالك ملحم، حيث أُقيم الحفل في "دبي أوبرا" بدولة الإمارات العربية المُتّحدة، بتاريخ 21 كانون الأول/ديسمبر 2019، بحضور "محبوب العرب" الفنان محمد عسّاف، الذي قدّم الحفل.
استمر التواصل مع العزيز "أبو علي"، الذي كان يُقيم في سوريا، ويتردّد بين الحين والآخر على لبنان.
رحل كبير، وهو في قمّة العطاء، لكن ما يُعوّض هذه الخسارة الكبيرة، هو الإرث الفني الوطني الكبير الذي تركه، بما يفوق 300 أغنية تُجسِّد محطاتٍ نضالية مُنذ الانتداب البريطاني لفلسطين، والاحتلال الإسرائيلي، وانطلاق الثورة الفلسطينية، التي شكّلت فرقة "أغاني العاشقين"، ركناً نضالياً أساسياً فيها، بالكلمة واللحن والأغنية، كشريك مع البندقية، والموقف السياسي والنضالي لأقدس قضية.
قد تكون من الصُدَف أنْ يرحل "أبو علي" في مثل تلك الأيام، التي شهد فيها العالم على أغنية "إشهد يا عالم علينا وعَ بيروت"، حيث وثّقت انتصار الثورة الفلسطينية بإفشال مُخطّط العدو الإسرائيلي بالقضاء عليها، خلال غزوه لبنان في حزيران/يونيو 1982، لتُحاكي الصمود الأسطوري اللبناني - الفلسطيني بالتصدّي للمُحتل الإسرائيلي.
امتاز الراحل "أبو علي" بصوته الجبلي الراعد، الذي يُمكِن تمييزه من بين الأصوات، حين يجدّوا وهو مُرتدياً البدلة الزيتية للفدائيين، مُتّشحاً بـ"الكوفية الفلسطينية" ورافعاً علم فلسطين.
رغم أنّ سنواتٍ عدّة مرّت على إطلاق هذه الأغاني، إلا أنّها بقيت تُشكّل نبراساً وجرس إنذار، نحو وعي القضية الفلسطينية، المُستندة إلى التاريخ والجغرافيا، والحضارة الثقافية والأدبية والأغنية بمُواجهة زيف ادعاءات المُحتل.
على مدى عقود عدّة، استطاعت فرقة "أغاني العاشقين" مُنذ تأسيسها في العام 1977 مع عبدالله الحوراني، والمُوسيقار حسين نازك، والشاعر أحمد دحبور وآخرين بتحقيق الهدف من التأسيس، بالمُساهمة بإحياء التراث الفلسطيني، وبعمل مسرحي وأغنية "اللوز الأخضر"، ومن ثم فيلم سينمائي.
ونجحت فرقة "أغاني العاشقين"، التي كانت تُجسّد الوحدة الفلسطينية - اللبنانية والسورية، بتطوير عملها وأدائها بحيث أصبحت تعتمد العمل الفنّي الجماعي من خلال تنوّع مهامها، عبر تعليم وتدريب الفن الشعبي الفلسطيني ونشره، وإعداد البرامج والمُشاركة في المهرجانات والمُناسبات.
هذا مع التركيز على أنْ تكون الفِرقة إنتاجية، تُعنى بالجديد، وليس استهلاكية تكرارية..
من أهم المحطات في تاريخ الفرقة التي أصبحت تحمل اسم "فرقة العاشقين"، أنّ أعضاءها رفضوا الانصياع لمُحاولات تسييسها بعد الانشقاق الذي قاده العقيد "أبو موسى" في العام 1983، فبقيت "العاشقين" مُلتزمة بـ"مُنظّمة التحرير الفلسطينية"، وإنْ توزّع نجومها على أماكن عدّة.
لكن مع اندلاع "الانتفاضة الأولى" - "انتفاضة الحجارة" في العام 1987، انفجرت "فرقة العاشقين" مُجدّداً بإعادة تشكيلها بطلبٍ من الرئيس ياسر عرفات، مُنطلقة من الأردن، ثم إلى دول عربية عدّة، قبل أنْ تعود إلى التفكّك في العام 1991.
أُعيد تجميع الفرقة وانطلاقها بقوّة مُنذ العام 2009، بدعم رجل الأعمال الفلسطيني مالك ملحم، وكانت من أبرز نشاطاتها إطلالاتها في دولة الإمارات العربية المُتّحدة في العام ذاته، ثم في لبنان والأردن.
كذلك الاحتفال الهام تزامناً مع تقديم طلب عضوية دولة فلسطين إلى الأُمم المُتّحدة، بتاريخ 23 أيلول/سبتمبر 2011.
لكن أبرز المحطات كان إحياء احتفال رسمي برعاية وحضور رئيس دولة فلسطين محمود عباس في رام الله، لمُناسبة الذكرى السادسة باستشهاد الرئيس ياسر عرفات بتاريخ 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2010.
كذلك إحياء "فرقة العاشقين" الذكرى الـ48 لانطلاقة الثورة الفلسطينية في غزّة بتاريخ 4 كانون الثاني/يناير 2013، التي احتشد فيها أكثر من مليون وربع المليون شخص في "ساحة الرئيس ياسر عرفات" - "ساحة السرايا"، بعدما انتظروا لساعاتٍ وصولها.
منح رئيس دولة فلسطين محمود عباس الفنان حسين مُنذر وسام الثقافة والعلوم والفنون "مُستوى الابتكار"، تقديراً لمسيرته الفنية النضالية المُشرفة وتثميناً لعطائه وإنشاده المُلتزم في "فرقة العاشقين" وإيصاله بصوته رسالة فلسطين إلى العالم.
وقد قلّد سفير دولة فلسطين لدى الجمهورية اللبنانية أشرف دبور، الفنان مُنذر "الوسام" بحفل أُقيم في سفارة دولة فلسطين في بيروت بتاريخ 1 تشرين الأول/أكتوبر 2018.
أدرك المسؤولون عن "فرقة العاشقين"، المسؤوليات الجِسَام الواقعة على عاتقها، من خلال تطوير أغانيها، وإصدار ألبومات لها تروي حكاية شعبٍ وثورة.
يرحل الفنان المُناضل حسين مُنذر، تاركاً إرثاً وطنياً يتناقله الأجيال تأكيداً لما للثقافة والأغنية من دورٌ في المسيرة النضالية لقضية فلسطين.