الكاتب: تحسين يقين
الخلاص الوطني والشخصي
سنجد أنفسنا في كل سيرة مع ما يحرك فينا من شعور وتفكير؛ لذلك فإن مشهد الراوي، العائد من يافا ليلا الى غزة، يختصر ما كان ويكون، لما فيه من عمق شعور وفكر معا. يخفي الليل الممتد على المكان بين يافا وغزوة دموع الراوي، لكنه يثير شجن الفكرة، في وصف العودة، التي كما يقول انها جاءت إثر اتفاق مرحلية، فليست عودة المنتصر إذن، تلك هي رومانسية النظرة الصادقة التي تختلف عن واقعية السياسة. تلك العودة الملتبسة، والتي أثرت على لغة محمود درويش حين وصفها بما فيها من نقص واكتمال.
لعلهما معا، الواقعية والرومانسية، لذلك عنون دكتور نبيل شعث الكتاب: عودة الى الوطن: سيرة ذاتية ورؤية تاريخية؛ كأن تلك الرؤية تبرر ما كان، ولا تقف فقط عند التوثيق، فقد سبق الكتاب كتابان من قبل الأول: "حياتي.. من النكبة إلى الثورة: والكتاب الثاني كان "من بيروت إلى فلسطين: عملية السلام في الشرق الأوسط،
إننا إزاء رباعية شعث، حيث سيتلو الكتاب الرابع ليوثق ويستأنف الرواية لعقدين. وفي كل سنجده مشتبك مع سؤال العودة بما ارتبط بها من بناء، وما أشكل في البناء وعليه.
من العم الى الخاص، هكذا بدأ الكتاب الثالث، ولكن اللفة التقريرية عن العام، ليست كحال اللغة الحميمية عن الذات، لكن لعل الكتاب هنا كان هدفه التوثيق، ضمن هوية المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة ذاكرة فلسطين كتاب عودة إلى الوطن. لذلك حين أنهيت هذه الصفحات، وجدت أن صورة الغلاف منسجمة مع الكتاب. ياسر عرفات ونصر يوسف وبينهما دكتور نبيل شعث، عرفات وشعث بابتسامة، ونصر يوسف بجدية العسكري، وهي من صور عودة "أبو عمار" الى الوطن.
وبالرغم من هوية الكتاب توثيق الذاكرة، إلا أنني وجدت نفسي مهتما بالذات، ليس بعناصر التكوين الأولى كما حضر ذلك في الجزء الأول من النكبة الى الثورة، ذلك الجزء الذي بدأ مع الطفل الذي كانه ابن عشر سنين وصولا الى نهاية العشرينيات من العمر.
ولعل الاهتمام بالذات هنا يأتي في جزء منه كاستدعاء المضي، كتجل لاستعادة المكان والزمان، ولو كان مبللا بالدمع.
في العودة، يزور البيت وأرض كان والده قد اشتراها، تذكره باستقبال والده الأستاذ علي شعث للعلامة المصري أحمد زكي عام 1946، وما لذلك من دلالة على شخصية الوالد والأسرة، كذلك على شخصية مدير مدرسة في ذلك الزمن.
ولعل استعادته لذلك الماضي في الجزء الثالث، له علاقة بالعودة الى الوطن، حيث أعادت زياراته للمدن الفلسطينية ذكرياته التي أطلت بشجن.
لذلك يستفيض هنا الكاتب بلغة قريبة في وصفه لملامسة الوطن بعد غياب، فيكون ربيع عام 1994، ربيعا جديدا على أمل إنجاز الحقوق الوطنية والعودة الكاملة.
استكشاف الوطن، واستعادة فلسطين الكاملة للطفل الذي كانه ابن 10 سنوات، حيث يستذكر جده تاج الدين شعث مؤسس بلدية بير السبع، حيث سيشعر بالإنصاف وببعض الرضى حين يتم ذكره هذه الحقيقية حين تم استقباله هناك في بئر السبع ضمن نشاط اقتصادي.
لكن ليافا النصيب الأكبر، بتفاصيل دقيقة عن المدينة، مرورا بلقائه بابنة عمه فدوى التي بقيت في يافا، والتي تعيدنا الى باقية إميل حبيبي وباقية سامية قزموز، وكل من كتب عن فلسطينيي عام 1948 الذين بقوا هناك بكل ما صاحب البقاء من آلام وأمل.
اللقاء مع فدوى يعيد الكاتب الى الوراء 47 عاما، كان ذلك عام 1994، ويعيده الى البيت السينما والمدرسة، الى تلك الحياة، والتي ما إن يهبط المساء ويعود الى غزة حتى يبدأ حزنا عميقا، لعله المشهد الصامت الأكثر تأثيرا.
راح الدكتور نبيل شعث بذاكرته المتوقدة يصف المدن: أريحا بيت لحم صفد المثلث الجليل، ويذكر خلال ذلك ما يطل من الماضي.
وهو وفيّ، فيما حضر من أسماء ورفاق الدرب، وهو محب لأسرته الكبيرة والصغيرة، في الشتات وفي العودة، حيث أن هناك اتجاها واضحا للربط بين الخلاص العام والشخصي، ما جعله يعيد تكوينها مرة أخرى في غزة.
لم يكن من السهل أبدا ألا تحضر مصر معها هنا، كإنسان عاش فيها، وسياسي أيضا، وهو هنا يذكر كل ذلك بمحبة صادقة، وكان وفيا فعلا في الوصف والتوثيق الدقيق الملتزم، والذي جعله يطل من نوافذ إيجابية محبة لفلسطين ومصر، ومتفائلة دوما بدور مصر، وأهمية العلاقات مع الشقيقة الكبرى.
ويبدو أن شهادته على النكبة طفلا، جعله مهتما بشكل أصيل بعالم الطفل في الأدب والفن، حيث كانت مؤسسة دار الفتى العربي علامة مؤثرة، تركت أثرها عليه، يظهر ذلك من خلال دوام تذكر تلك المؤسسة التي امتدت من بيروت الى القاهرة، والتي وصلت مطبوعاتها الى فلسطين المحتلة عام 1948، ما يعني من دلالة حضور فلسطين الكاملة.
لم تكن صورة ياسر عرفات في السيرة كسيرة قائد، بل بما باح به من علاقة شخصية يجعل هذا القائد قائدا له وملهما له، لعل هناك ما يمكن أن يكتب ليضاف عن هذه العلاقة، حيث كان شعث من الذين كان عرفات يعتمد عليه في أمور مهمة.
أبدع الكاتب هنا في ترتيب تفاصيل الحل المرحلي وما ارتبط به من نشاطات ولقاءات، خصوصا أنه كان من القريبين جدا لما دار ويدور، لذلك يشكل الكتاب للباحثين عن هكذا تفاصيل مصدرا مهما كونه واكب العملية السياسية، بما فيها من مفاوضات وتأسيس السلطة الوطنية، ووزارة التخطيط والتعاون الدولي. لذلك فمن المهم وجود كتاب يجمع هذه التجربة، ودلالاتها من قبل ومن بعد: المشاعر والرؤى والمستقبل.
ربما نحن نحتاج لتأمل العلاقة مع الجانب الإسرائيلي، من خلال ما عرضه من وصف أمين للقاءات شارك فيها شخصيا.
يصف الكتاب أكثر ما يقيّم، وحسنا فعل في ترك القارئ ليطلع ويرى بنفسه، ليفكر بما كان ويكون، لأن المستقبل أمامنا جميعا للبدء بخطوات واثقة وقوية.
بقي أن نقول إن الكاتب بالرغم من فهمه لسياق العلاقة الصعبة مع الاحتلال، إلا أنه كما يبدو كان متفائلا في سنوات طويلة أن تستمر العملية السياسية لقطف ثمار مهمة لشعبنا في طريق التحرر.
ما قرأنا من تفاصيل توثيقية عشناها من خلال وسائل الإعلام، وجدنها هنا قريبة أكثر، بما ينثره الكاتب من ذكر بعض التفاصيل السياسية، جعلت الكتاب مشوقا أكثر من مجرد التوثيق.
570 صفحة، وثقت حياة مرحلة مهمة من حياة شعبنا، ومن العملية السياسية، تكشف لنا ما كان من اجتهادات وسياقات فلسطينية وعربية ودولية، لعلنا فعلا نتعلم من دروس الماضي، وكلنا أمل نخطو بجدية نحو التحرر.
والكتاب وهو ينير على حياتنا من جانب، فهو ينير على شخصية سياسية من طراز خاص، لنا أن نتعلم منها الكثير، في المتابعة والتنظيم والتوثيق والجدية والروح الوطنية، والقدرة المدهشة على خلق علاقات دولية ذات فائدة لمشروعنا الوطني، كونه من الساسة الذين فهموا مبكرا كيفية الخطاب مع العالم العدو والصديق.
مرة أخرى، لعلي أختتم بضرورة قراءة ما ذكره الكاتب من تفاصيل، لفهم السياقات النفسية والفكرية والاستراتيجية لدى الاحتلال، فما زلنا في مرحلة اشتباك صعبة.