الكاتب: اسماعيل جمعة الريماوي
لعلّ أحد أهم التغييرات التي أحدثها الائتلاف الحكومي الإسرائيلي اليميني المتطرف، و أكثرها خفية عن العين وأبعدها عن النقاش: تحويل إدارة الضفة الغربية من سلطة عسكرية (الإدارة المدنية والجيش)، إلى سلطة مدنية (الوزير بتسلئيل سموتريتش)
داليا شيندلين وياعيل باردا ترصدان تبعات هذا التغيير "الكارثي" على حد تعبيرهما في صحيفة هآرتس الإسرائيلية ، و حديث عن انهاء "وهم" الاحتلال المؤقت للضفة الغربية وتشيّد نظام فصل عنصري أكثر وضوحا ينهي التزام إسرائيل وبشكل علني بحل الدولتين.
من المهم التأكيد على أن أول من تسلم زمام "السلطة المدنية" على الضفة الغربية، كانت الصهيونية الدينية في صيغتها الأكثر تطرفا، و الحريدية السياسية المتعصبة، وقيادات المستوطنين والحاخامات من أصحاب تفسيرات التوراة الأكثر عنصرية واستعمارية، وهذا بحد ذاته له تبعات قد لا تقل في أهميتها عن الانتقال إلى "سلطة مدنية".
منذ استلام سموتريش منصب وزير ثان خاص داخل وزارة الدفاع في شباط 2023، اتفقت الحكومة الائتلافية القومية المتطرفة في إسرائيل على دور هذا الوزير الجديد: حيث تولي سلطات مدنية معينة على الحياة في الضفة الغربية، والتي كانت في السابق من اختصاص الجيش الإسرائيلي بشكل حصري. هذا التغيير الإداري يعادل إعلان السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وهو انتهاك لميثاق الأمم المتحدة المتعلق باحتلال الأراضي الفلسطينية ، ثلاث منظمات إسرائيلية مدنية وحقوقية رائدة اعتبرت أن هذا التغيير البيروقراطي يعتبر ضماً قانونياً للضفة الغربية ، بل إن هذا التغيير يحطم الوهم بأن الاحتلال الإسرائيلي للضفة هو احتلال مؤقت ، وكما أنه يرسخ نظام الأبارتهايد والذي يشمل منظومتي قانون غير متكافئتين للإسرائيليين والفلسطينيين، ويقوي السيطرة الإسرائيلية الدائمة على الضفة الغربية.
إن نقل إدارة الضفة الغربية إلى سلطة مدنية هو في الواقع تتويج لعقود من السياسات التي كرست سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية ، لكن الحكومة الصهيونية الحالية تجاوزت الآن عتبة جديدة تمثل تحولاً بالغ الأهمية في موقف إسرائيل في ما يتعلق بالقانون الدولي ، لا حاجة لإسرائيل الآن إلى الإعلان رسمياً عن ضم الضفة الغربية ، فالضم قد انطلق بالفعل.
صلاحيات سموتريش الجديدة ، ستؤثر بشكل كبير على حياة الآلاف الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة ، فخطط المستوطنات والاستخدامات الإسرائيلية الأخرى للأرض تهدف إلى قلب حياة الفلسطينيين رأساً على عقب و يمكن لسموتريتش أن يطوّر خطط الاستيطان التي تتطلب حرمان الفلسطينيين هناك من الوصول إلى المياه والأراضي والبنى التحتية والمساعدة الإنمائية من الوكالات والشركات الدولية، وسوف يقوم بذلك كما هو واضح و يمكنه الآن القضاء على إمكانية كسب الارزاق للفلسطينيين في المنطقة "ج"، المنطقة التي تشكل 60 في المائة من الضفة الغربية وتشمل جميع المستوطنات الإسرائيلية في المنطقة ، هناك ما يقرب من 200 إلى 300 ألف فلسطيني يعيشون في المنطقة "ج". يعيش الكثير منهم على الزراعة أو الرعي حتى اليوم، حيث تمنع السلطات الإسرائيلية تصاريح بناء المساكن، وتهدم آبار المياه، وتدمر المدارس في هذه المنطقة ، ولكن الآن هذه القرارات سوف يتخذها مسؤولون مدنيون يحملون أيديولوجيات متطرفة ومن المؤكد ان الجناح اليميني في إسرائيل سيسعى إلى المطالبة بالمنطقة (ج) بالكامل للمستوطنين اليهود.
الزحف شيئاً فشيئاً!
من المؤكد أن إسرائيل تتجه منذ عقود نحو ضم الضفة الغربية ببطء، وإن كان ذلك بطرق أقل وضوحا فمن ناحية، أنشأت إسرائيل أنظمة قانونية منفصلة وغير متكافئة في المنطقة، ووضعت الفلسطينيين (نظرياً، جميع الأراضي المحتلة) تحت الحكم العسكري في محاولة لتصوير السيطرة الإسرائيلية على أنها مؤقتة فقط في الوقت نفسه، طبقت إسرائيل بشكل متزايد القوانين المدنية على المستوطنين اليهود، لجذب المزيد منهم ، وتشجيعهم على الحياة "الطبيعية"، وترسيخ وجود إسرائيل في الأراضي المحتلة .
في الحقيقة، لم يكن الجيش الإسرائيلي وحده يحكم الفلسطينيين فقد خلقت إسرائيل صورة نظام احتلال مؤقت – منفصل عن الدولة – كخدعة. فالخط الفاصل بين السيطرة المدنية والعسكرية في الضفة الغربية ضبابي منذ بداية الاحتلال عام 1967.
فمنذ سيطرت إسرائيل على الضفة الغربية في حرب العام 1967، وفي غضون عام بدأ الإسرائيليون في إقامة المستوطنات هناك ، وتدخل المستوى التشريعي الإسرائيلي في عملية الاحتلال على الفور، و بحلول تموز 1967، أقر الكنيست أول قانون يطبّق القانون الجنائي الإسرائيلي على مواطنيها في الضفة الغربية – وهذه خطوة أولى نحو إخضاع الإسرائيليين في المنطقة للولاية القضائية للقانون المدني الإسرائيلي العادي، في الوقت الذي يخضع فيه الفلسطينيون للقانون العسكري الإسرائيلي.
ما بين عامي 1967 و1981، أدار الجيش الإسرائيلي بشكل مباشر الشؤون المدنية والعسكرية للأراضي المحتلة لكن في العام 1981، أنشأت الحكومة الإسرائيلية "الإدارة المدنية" للضفة الغربية وقطاع غزة تحت قيادة الجيش الإسرائيلي ، لكن من الناحية العملية، حكمت الوزارات الحكومية الإسرائيلية الحياة الفلسطينية في نهاية المطاف بشكل غير مباشر، على سبيل المثال، من خلال وضع السياسة الاقتصادية ووضع اللوائح الصحية وبناء الطرق وبمرور الوقت، وبينما ينفذ الجيش سياسته تجاه الفلسطينيين، تمكنت السلطات المدنية الإسرائيلية من تطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنين اليهود وخلق ممارسات منفصلة ومختلفة لليهود الذين يعيشون في الضفة الغربية المحتلة ، حيث استفاد المستوطنون من التأمين الوطني وحقوق التصويت والوصول إلى الموارد لكن السلطة القانونية التي تحكم الحياة اليهودية في المستوطنات بقيت من الناحية الفنية في أيدي الجيش.
تمكنت السلطات المدنية والعسكرية الإسرائيلية من إدارة حياة الناس في الضفة الغربية، ولكن أيضاً إدارة مصير الأراضي من خلال الإجراءات القانونية التي نفذتها الهيئات العسكرية والمدنية على السواء، وبدعم من المحكمة العليا في إسرائيل، تصرفت إسرائيل بصفتها مالكة لأجزاء شاسعة من الأراضي في الضفة الغربية، والتي تستخدمها للأغراض العسكرية، أو الزراعة، أو المستوطنات – أي شيء عدا تطوير حياة الفلسطينيين.
باختصار، منذ نهاية حرب 1967 تقريباً، كانت الفروع الثلاثة للحكومة الإسرائيلية متورطة في الاحتلال ، في السنوات الأولى، لم يكن من الواضح إلى متى يمكن أن يستمر الاحتلال الإسرائيلي، ولكن بعد فوات الأوان، كان التورط العميق لجميع أذرع الدولة الإسرائيلية نذيراً بأن إسرائيل دخلت الضفة الغربية لكي تبقى في كل مكان !
ربما كان من المفترض أن تكون مخططات الضم الإسرائيلية واضحة منذ البداية بعد ان ضمت القدس الشرقية رسمياً في العام 1980 (بعد ضمها فعلياً في العام 1967)، وضمت إسرائيل مرتفعات الجولان في العام 1981، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
لكن إسرائيل تمكنت من إقناع المجتمع الدولي بأنها تحكم الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال نظام عسكري متميز وقابل للانعكاس [أو التفكيك]. لقد فعلت إسرائيل ذلك من خلال تسليط الضوء على تاريخها في إزالة المستوطنات عند الحاجة ، في العام 1979، حين وقعت إسرائيل اتفاق سلام مع مصر وتخلت فيه عن سيطرتها على سيناء وفككت مستوطناتها هناك.
في العام 2005، سحبت إسرائيل مستوطناتها من غزة أيضاً، بعد أكثر من أربع سنوات من الانتفاضة الفلسطينية [الثانية] جعلت هذه التحركات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنات تبدو قابلة للانعكاس لكن في كلتا الحالتين، تمكنت إسرائيل في نهاية المطاف من ترسيخ سيطرتها على الضفة الغربية ، فقد أدى السلام مع مصر إلى تخفيف الضغط عن إسرائيل للتخلي عن الأراضي الفلسطينية ، وانسحاب المستوطنات من غزة أدى إلى الانقسام في الساحة الفلسطينية.
فسر العديد من الفلسطينيين انسحاب إسرائيل من غزة على أنه دليل على أن الاستراتيجيات العسكرية قد نجحت، مما أدى إلى فوز حماس في انتخابات العام 2006 والسيطرة على غزة، بينما ظلت الضفة الغربية تحت حكم السلطة الفلسطينية ، هذا الصدع، بالإضافة إلى إغلاق إسرائيل شبه المحكم لغزة، مزق المجتمع الفلسطيني .
كما سمحت عملية السلام واتفاق اوسلو لإسرائيل بتصوير احتلالها للضفة الغربية على أنه احتلال مؤقت في التسعينيات، بدأت إسرائيل تشير إلى نيتها إنهاء الحكم العسكري، لكنها تشبثت بالغموض بشأن ما يعنيه ذلك ، اتفاقيات أوسلو في التسعينيات لم تذكر أبداً دولة فلسطينية أو أي ترتيب للوضع النهائي من شأنه أن يحسم حدود إسرائيل النهائية، وينهي التوسع الاستيطاني، أو يحدّد مصير اللاجئين الفلسطينيين منذ العام 1948، أو يعالج مطالبات الفلسطينيين بالقدس الشرقية.
لقد حددت اتفاقيات أوسلو فقط عملية تفاوضية عبثية من شأنها أن تتعامل في النهاية مع المخاوف الأمنية الإسرائيلية ، في حين استمرت عجلت الاستيطان بالتسارع ومع حلول الوقت بدأت بفرض الأمر الواقع على الفلسطينيين والعالم .
خطة "الرب"؟
لماذا نقلت الحكومة الإسرائيلية السيطرة على الضفة الغربية إلى سلطة مدنية الآن بالذات؟
لقد خدم الغموض إسرائيل جيداً على مدى عقود ولكن السياسيين اليمينيين المتطرفين في الحكومة الائتلافية الحالية يسعون في تحقيق النجاح بعد فوزهم بأغلبية برلمانية ثابتة في انتخابات تشرين الثاني 2022، وهي فرصة يعرفون أنها قد لا تأتي مرة أخرى في أي وقت قريب ، إنهم و بلا شك مدفوعون بمبادئ دينية ومهووسون بالسيادة اليهودية التوراتية.
إن الهدف الحقيقي لخطة الإصلاح القضائي من خلال نزع المصداقية عن القضاء هو إزالة العقبة الأخيرة أمام السيادة اليهودية الدائمة على الشعب الفلسطيني في جميع الأرضي المحتلة ، يريدون إقامة نظام حكم ثيوقراطي واستبدادي بشكل عام وسمعة الديمقراطية الإسرائيلية ليست همهم حتى ولو كانت زائفة ، علاوة على ذلك، يتوق سموتريتش وحلفاؤه إلى تحرير المستوطنين من التضييقات التي تسببها السيطرة المزعومة للجيش الإسرائيلي على الضفة الغربية ، هناك أيضاً بُعد رمزي لهذا التحول ، بالنسبة لبعض المستوطنين، فإن حكمهم من قبل الجيش وبشكل مختلف عن المواطنين الإسرائيليين داخل الخط الأخضر هو إذلال واستهزاء بمخططات الله لليهود.
في حين ، أن الحكومة الإسرائيلية نجحت في جذب تركز العالم على الهجوم على جهاز القضاء الإسرائيلي وعلى العنف بين إسرائيل و الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية و بدأت تفرض سيطرتها الكاملة بضم الفعلي و العملي ، فقد بنت نظام سيطرة دائم وفعلي ، وذا مستويين يميز بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الأرض الواقعة بين غرب نهر الأردن والبحر المتوسط .