الأربعاء: 20/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

سؤال صغير في حرب كبيرة

نشر بتاريخ: 24/10/2023 ( آخر تحديث: 24/10/2023 الساعة: 13:42 )

الكاتب: وليد الشيخ

عندما زرتُ غزة لأول مرة ، حاولتُ إزاحة ما ربته المخيلة ، كي أسمح للمكان بالدخول حراً الى الذهن ، متحرراً من أية تصورات سابقة، التصورات التي شكلَتها نشرات الأخبار والأصدقاء وكتب التاريخ .

كل ذلك كان حاضراً وأنا أطل على بحرها، مدركاً أن الحمولات العاطفية تضفي على البحر معان قد لا تكون مقصودة، مثل أنه يأتي اليها كاملاً، وأن الألفة التي حملتها السنوات بين مخيم الشاطيء والبحر، جعلت منه صديقاً قديماً ، إعتادت عليه أقدام الصغار التي تجري على رمله و ماءه بلا شروط .

مع الحرب الآن ، صرت أستعيد صوت رأفت صالحة، وهو يشير الى ممكنات الجمال في غزة، فقط حسب رأيه " لو أخذت فرصتها ! ".

لا أريد أن أتحدث عن ذلك الآن.

ما يشغل البال وقت الحرب ، سؤال صغير ، أظن أنه متوفر بكثرة في جيوب الناس الذهنية :

أن ترسل الولايات المتحدة سلاحها ورئيسها ، تماما كما فعلت لاحقاً دول اوروبية كثيرة بريطانيا ، فرنسا (والتي طالب رئيسها بناء تحالف دولي للقضاء على حركة مقاومة فلسطينية )، المانيا وغيرها، التي تطوعت بكامل ارادتها، لتمد يد العون المعنوي والمادي لدولة الاحتلال، فهذا أمر يمكن أن نفهم مقاصده ، بإعتبار أن دولة الاحتلال هي ذراع الإستعمار الغربي ومخلبه ، والدفاع عنه هو دفاع عن ثقافة الاستعمار الأبيض، القديم والجديد والذي سيأتي .

ما لا يمكن فهمه ، ولا مسوغ لاستيعابه ، أن أثنين وعشرين دولة عربية ، لم تتمكن على مدار ثلاثة عشر يوماً من إدخال الدواء ، الدواء فقط ،لا شيء غيره، وعندما سمحت دولة الاحتلال، بمرور عشرين شاحنة فقط ، فرضت على الدول العربية التي لا علاقة لها بكل ذلك ، فرضت عليها أن تكون معبراً جغرافيا مجرداً من أي معنى سياسي .

جاءت الأمم المتحدة بموظفها الكبير،الأمين العام ليقف وظهره للمعبر، ويناشد "بأدب جم" السماح بإدخال الدواء ، لينتظر الجميع إشارة دولة الإحتلال ، التي لوحت لهم باصبعها ( للأمم المتحدة والمنظمات الدولية) لتشرف على تمرير الشاحنات وتوزيعها، واستجابوا بأدب بالغ لإشارة اصبعها.

سؤال صغير بسيط وسهل : هل كان لمصر ولكل الدول العربية من خلفها ، أن تدخل المعونات الطبية على الاقل من اليوم الأول، وأن تبلغ اسرائيل أن الاعتداء على المعونات ( الطبية فقط) هو اعتداء عليها ؟

هل تستطيع دولة عربية أن تفرض ادخال دواء، دواء فقط، من حدودها الى الفلسطينيين المذبوحين والنازفين في القطاع ؟

لا أتحدث هنا فقط ، عن المنظومات الحاكمة ، لكن عن المنظومات المعرفية التي تقف خلف تلك الكيانات ، ومنظومتها الرئيسية الثقافة العربية ، التي هزمت تماماً . فلا يمكن لثقافة بحمولات تاريخية وجغرافية وديمغرافية ، أن ترسب بهذا الشكل المخزي ، دون أن تكون في جوهرها ثقافة تحمل روح الهزيمة حتى وإن إدعت عكس ذلك.

أتحدث هنا عن الثقافة التي انتجت أنظمة استطاعت البقاء رغم سقوطها المروع في امتحانات الكرامة، لا أتحدث عن أفراد أحرار، بل عن الناظم المشترك بين الأفراد ، اي عن المجتمعات ,والتشكيلات التي تمثلها (الأنظمة السياسية) ، أي حين يكون العربي عضوا في الجماعة وخاضعاً لثقافتها وتصوراتها ومحكوماً لمنظومتها القيمية الشاملة.

العربي كفرد خارج نطاق المنظومة الثقافية الجامعة والمتوارثة، إنسان حر وخلاق( هذا ما أشار له أدونيس)، لكن في جماعته المحكومة بالأنظمة المعرفية المتوارثة من مئات السنين، يصبح تابعاً وعاجزاً ، كما يحدث الآن.

تداعت دول العالم لمد دولة الاحتلال بالدعم الكامل والعلني والاستعراضي والمبتذل بشكل يثير الغثيان، ولم يتمكن العرب ، كل العرب ، من ادخال دواء ودواء فقط . إن ما حدث في ذلك الإمتحان البسيط والسهل مدة اسبوعين منذ بداية الحرب تقريباً ، يعطي اجابة تاريخية ونهائية ، اجابة مطلقة ومفجعة: ارادة الدول العربية فرادى ومجتمعة ، إرادة مسلوبة .

والجميع يعرف ما يمكن أن يحدث للإنسان عندما يكون عارياً من إرادته .

كما يعطي اجابة واضحة للفلسطينيين ، أن معركتهم هم أصحابها، وأن عليهم أن لا ينتظروا أحدا من جهة الشرق، وأن أرادتهم الحرة وتمسكهم بحقهم التاريخي في البلاد، ووحدتهم المبنية على وحدة دمهم وهدفهم ، هي الشروط القادرة على تحقيق النصر.