الجمعة: 20/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

رقصة صاحب الارض

نشر بتاريخ: 23/11/2023 ( آخر تحديث: 23/11/2023 الساعة: 09:02 )

الكاتب: د. أحمد رفيق عوض

الشاب الطويل الفارع , الغض النضير , كان يعرف انه قد يقتل برصاصة تأتيه على حين غرة , من جندي في مثل عمره , و لكن الشاب الملثم الذي انتشى لرؤية سحابة ملونة فوقه , و لنسمة باردة تلمس جسده , و لحماسه الشباب حوله و هم يغنون للبلاد المقيدة و المسيجة , انتشى لكل ما يرى , للجموع الحالمة , و للعصافير و الاناشيد و المدى المسحوب على طول الجدار و طول البحر معا , نشوة انسابت في قلبه , فنبض بها , فانتشرت في عروقه كلها , وصلت قدميه , دقه بهما الارض التي انتبهت لوليدها , تبادلا الوشوشات و الاسرار , فتحت له كراسها العميق و حكاياها البعيدة , قالت له الارض: ارقص لي ايها الفتى , ارقص في حضني افرح بين ذراعي .

الفتى , من جهته , امتد و استطال , مد ذراعيه بحجم الفضاء كله , استوعب المشهد , تناهت الى اذنيه اصوات الجموع من حوله , احس بلوعة القلوب الواجفة و الدماء الراعفة , ضجت في شرايينه موسيقى جليلة , تحرك على ايقاعها , شاغل بها الارض قليلا , دفعته الارض بحنان كبير , شعر بحنانها الدافق الدافىء , دق صدرها مرة اخرى , فتدافعا , كأم و وليدها . يتلامسان , و يتهامسان , لا يقصدان من ذلك سوى تاكيد المحبة و الالفة .

الشاب الطويل الفارع , الغض النضير , و المزنر برموزه و اشاراته , اندمج في مشاغباته و مشاغلاته مع امه الممتدة و العميقة و القديمة و الغامضة , تعاطى معها الاسرار و الحكايات , فرد جسمه في الفضاء , و مد ذراعيه الى اقصاهما كانه ينادي كل شيء حوله , فرحا و القا و انتصارا و فخرا و عزا و كرامة , دار حول نفسه , و دق قدميه في الارض كانه يزرعهما , شعر بخفة ما بعدها خفة , و اريحية عجيبة تجعله كالطير , و طرب داخلي يدفع به الى نسيان كل ما حوله سوى هذه اللحظة العجيبة التي تشده الى سرة هذه الارض و سرها , اندمج في لحظته المذهلة , نسي سنوات سجنه الثلاثة , و شقيقه الشهيد و قصف مخيمه بدون تمييز , و حكايات جده عن الطرد و اللجوء , و فقره و ضيق منزله , و نسي ما قيل عن الوحدة الوطنية او يقال , و ما يشاع من نمائم عن فلان و علان ,ولم ير صف الجنود المختفين وراء كوى جدار قبيح و كالح , و لم ير اطارات السيارات و هي تحترق تنفث رائحة ثقيلة في الجو , و لم ير الجرحى و هم بتساقطون حوله , نسي الشاب الفارع الطويل , الغض النضير , كل شيء , و اندمج في رقصته , يطير بها و يمتد و ينتشر و ينطوي و يموج و يهيج و يتموج في لحن مذهل يمسك تلابيب قلبه و دماغه , لحن لا مثيل له , اشبه بالحفيف او الخرير او العزيف او الخشخشة او الزلزلة , لحن يصهل في الدم , يتفجر و يتبعثر و ينتعث كذرات التراب او التبر لا فرق , اللحن استولى على الشاب الفارع الطويل , الغض النضير , استولى عليه تماما , فما عاد يدري من دنياه سوى هذا الالق و الوهج العجيبين اللذين يقودانه و يبعثرانه ثم يجمعانه من جديد على صدر الارض الوارث الرحيب .. الارض التي رأت وليدها يغيب في عليائها و يندغم في تضاعيفها , حنت الى قبلة منه لترتاح و يرتاح هو ايضا .. الشاب الطويل الفارع , الغض النضير .