الكاتب: تحسين يقين
وليس فقط هدنة لبضع أيام، لا تكفي لانتشال الشهداء من تحت الأنقاض.
لم يعد متقبلا أبدا استمرار الحرب على غزة.
وليس هناك بديل من حل سياسي يعترف بالحقوق المشروعة لشعبنا، على رأسها حق تقرير المصير.
ستقف الحرب، لأن القتل لم يحسم الأمر، وسترضخ إسرائيل للمجتمع الدولي، بل للرأي العام الشعبي المندد باستنكار لما كان ويكون، فلن تحتمل إسرائيل خسارتها الاستراتيجية عالميا، وكل ما تحتاجه بعض حفظ ماء الوجه.
لو كان هناك فعلا قادة عظام لما استمر قتل المدنيين في غزة، لكن للأسف اكتفوا بالتباكي على المدنيين، ومضت الأسابيع الأكثر دموية، وهم يتوسلون لإسرائيل بالسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول للمنكوبين.
بجرائم الحرب التي أمام العالم، خاصة الحرب القذرة على المستشفيات، "والشوف مش زي الحكي"، تكون إسرائيل قد بعثت للعالم بأسرة رسالة سخرية به وبمواثيقه، كذلك تبعث رسالة "تخويف"، لكل من يجرؤ على التفكير بالرد على اعتداءاتها. لقد وصلت الوقاحة برئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه لن تتوقف الحرب حتى يضمن أن نعلم أطفالنا التعاون مع إسرائيل، وهو وحكومات إسرائيل المتعاقبة لم تتوقف يوما عن اتهامنا بالتحريض في المناهج، ترى هل يحتاج أطفالنا لنصوص بعدما عاشوا القتل بكافة أشكاله في ظل إبادة تكاد تعم قطاع غزة.
بدأت الحرب قبل موسم الزيتون، وها هو في نهاياته، ولم تنته بعد، خشية ظهور إسرائيل والولايات المتحدة بموقف الهزيمة، وهذا ما يذكر بالحرب على لبنان عام 2006، وما زالت صور قادة الحرب ماثلة أمامنا بعد الاضطرار لوقف إطلاق النار، بعد أن لم ينفعهم التشجيعين الأمريكي والبريطاني.
ليس أيام الهدنة القليلة هي ما تحتاج غزة، بل تحتاج لحكومات عالمية تحترم نفسها، فتقوم بإنقاذ غزة وإغاثتها على مدار عقد من السنوات على الأقل، في ظل خسارة المدينة الكبرى.
والآن الآن لم يعد مقبولا أبدا استمرار قتل المدنيين الأبرياء، فإن كان هدف إسرائيل الثأر فقد تحقق، ولكن على شكل جرائم حرب حقيقية.
والآن، ما دمنا في عقد دولي عالمي، وفي ظل استمرار وجود للأمم المتحدة، فإن العالم لم يكن مطالبا كما هو اليوم للتدخل الفوري، ويبدو أن بعض الدول قد بدأت تضيق جدا بما تقوم به إسرائيل من إجرام ليس له أدنى مبرر، وأنه لا بد من وقف الحرب، لأنه هدف القضاء على المقاومين في غزة صعب المنال. وليس المهم جدل العالم في وصف المسلحين، بل المهم وقف القتل للمدنيين. ولعلنا نشهد دورا عربيا أكثر حضورا، فإن أراد العرب فإنهم مجتمعين سيحققون ما يريدون.
أصبح، ليس العالم فقط، بل حتى الإسرائيليون والأمريكان وأوروبيون غربيون، مقتنعين بضرورة تنفيذ حل الدولتين، فيبدو أنه سيصعب حل القضية الفلسطينية بدون إنجاز حل الدولة الفلسطينية، في ظل رفض حل الدولة الواحدة للجميع الذي تخشاه إسرائيل. وليس حل الدولة الواحدة ما تخشاه، بل إن أي حل سياسي له استحقاقات على الأرض والبحر والجو ترفضه، مفضلة الحل بقوة السلاح، وسياسة الأمر الواقع في تهويد القدس والاستيطان، وسرقة المياه، ورفض عودة اللاجئين.
لقد حاولت إسرائيل إغراء عدة أطراف بحكم ما صنعته من كانتونات منفصلة في الضفة الغربية، لكن حتى الآن لم يقبل أحد بذلك العرض، وها هي الآن تعرض حكم غزة لآخرين، وهي تعرف في قرارة نفسها، كما يعرف الجميع، بأن حكم الفلسطينيين شعبا وأرضا، خاص بالفلسطينيين أنفسهم.
وعليه، وفي ظل توقعنا بقرب البدء بخطوات تأسيس الدولة الفلسطينية، فلا بد من خطوات "لإزالة آثار عدوان 2023"، وفق أولويات، لإعادة الوضع لما كان قبل السابع من أكتوبر. وهذا له خطوات عملية واستراتيجية.
أما الخطوات العملية، فإنه يقتضي البدء بالجرحى والمصابين، فما نتج من إعاقات ليس من السهل على الأهالي تحمله وحدهم، لا ماليا ولا طبيا، خاصة مع أولئك الذين تعرضت أطرافهم للبتر. وتجهيز مأوى ملائم لحياة كريمة في حدودها الدنيا، ولعل الجمهورية التركية، من خلال تجربتها مع التعامل مع الزلزال الذي ضربها، تستطيع فعل ذلك بتمويل تركي وعربي ودولي. تراعى فيه تقديم الطعام والماء، والتعليم أيضا، بالتعاون مع وكالة الغوث الأونروا. في ظل ذلك يتم ترميم ما يمكن من خطوط الماء والكهرباء والصرف الصحيّ، يتلو ذلك، إعادة البناء وفق خطة مدروسة، حيث سيكون للشقيقتين مصر والأردن دور في توريد مواد البناء والآليات التي يمكن أن يتم تأجيرها أو التبرع بها لفلسطين. ويضمن ذلك تشغيل الغزيين في عملية البناء. وتتطلب إعادة البناء مراعاة البنية التحتية خاصة الطرق. وبالطبع فإن المهندسين الغزيين سيقودون عمليات التخطيط العمراني بدعم من المهندسين الخبراء من الدول الشقيقة والصديقة.
وجنبا الى جنب، يتم عمل المنشآت العامة وفق العصر، حتى تكون للمستقبل بما يجدّ فيه، أي مراعاة المعايير الحديثة، بما يضمن إيجاد المباني العامة القادرة على تزويد الخدمات.
أما التمويل، فسيكون بالتعاون، اذا بتوزع الحمل بنشال"، وهو يبدأ من الفلسطينيين، ليكونوا قدوة، فكل وما وهبه الله، ثم ليمتد عربيا ودوليا، ومن موّل الذخائر العسكرية بالمليارات يمكن له أن يكفّر عن ذنبه، فيتبرع بعشر ما قدم من سلاح قتل المدنيين، لإغاثة المدنيين.
أما استراتيجيا، فالطريق واضحة، تبدأ بدعم حكومة وحدة وطنية تتمتع بحرية التنقل بين الضفة وغزة، بعيدا عن معيقات من الاحتلال، خاصة في الموضوع المالي. إن وجود حكومة وحدة وطنية بتوافق وطني، لن يضطرنا لانتخابات في ظل ما نعانيه من نزيف وجروح، لأن من مهام السلطة الوطنية اليوم هي كسر الطريق على احتلال، في التفكير بملء الفراغ المتوهم. الوحدة الوطنية ستجبر إسرائيل على ترك السلطة الوطنية لتشرف على عملية الإعمار، بالتعاون مع المانحين، من خلال خطة مالية شفافة وواضحة. ويمكن الاستفادة من تجربة الأشقاء في لبنان بعد عدوان تموز 2006.
في ظل الخطوات العملية والإستراتيجية، صار تأسيس ميناء غزة وترميم مطارها، والاتفاق مؤقتا على مسألة التشغيل، أمرا لازما، فمن غير المقبول إحكام هذا الإغلاق؛ فالبحر كبير والفضاء أكبر.
إن الجدية الآن وغدا مطلوبة منا جميعا، ومن كل ما له صلة، في ظل تحييد إسرائيل وكف أذاها، في الوقت الذي تجري فيه تفاهمات بوقف إطلاق النار مستقبلا، في ظل التزام إسرائيل بالعملية السياسية التي يشارك فيها الكل الفلسطيني، حيث يمكن للدول العربية والدول الكبرى هنا ممارسة الضغط على إسرائيل، حيث انه لا بدّ مما ليس منه بدّ، فليس من الحكمة نفي أي طرف فلسطيني، تماما كما تعمل إسرائيل سياسيا في ائتلافاتها الحزبية المشكلة للحكومة.
فلسطينيا، ليس أمامنا إلا إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير، بالانضواء تحت لوائها، حيث سيسهل ذلك حركة المنظمة عربيا ودوليا؛ فوحدتنا الوطنية ستجبر إسرائيل على مفاوضتنا معا وجميعا؛ فالكل للواحد والواحد للكل، ذلك خلق الفرسان الذي صار لزاما أن نتحلى به الآن.
الجدية هي ما نحتاجه، وتحرير المستقبل صارا ضروريا لاستمرار الحياة.
رحم الله الشهداء، وشفى الجرحى، وفرّج عن الأسرى الذين سنشهد تحررهم جميعا يوما قريبا. أما النازحون فصبر جميل، وسيعودون للبيوت يعمرونها من جديد.