الكاتب: المتوكل طه
الطيورُ الجارحةُ الساخطةُ ؛ أحَلَّت الظلامَ مرّةً أخرى،
وأيقظتنا من نَوْمنا الحجريّ.. لعلّنا نخرجُ من الكهوف المعتمة.
*
البحرُ الساطعُ، وغرفُ القمر، وأغنياتُ ليلِ الأمواج، وحليبُ العرائسِ الساخن، وأثرُ السجودِ على التراب،وموقدةُ شايِ النعناع،وضحكةُ الرضيعِ النائم،ورضى الأُمّهات،والنايُ الجارح البعيد،وألوان الحقيبةِ المدرسيّة،والقُبْلةُ المخطوفة تحت الدّرج،وصباحاتُ العيد، وانفعالُ الحمائمِ على البيدر،ومقلاةُ النارِ الحريفة،وفرحةُ النّجاحِ في الثانوية، وضجيجُ الأعراس القريبة، والزّنكُ المشطوف بعد المطر،وعناقُ الجيران، واللّمة في شهر رمضان، والسهرُ على مصاطب الرّصيف،وشبكةُ الصيّاد الطافحة، والعرقُ البارد على ثوبِ الطين، وطقطقةُ الكانون،ومرآةُ المفاتنِ في الليل،والنمائمُ البريئة،وقميصُ المناسبات الوحيد، وشهقةُ المانجو على الأغصان،والهرولةُ وقتَ صلاة الجمعة، والرجوعُ المطمئنّ إلى الدار.. راحت إلى غير رجعة! ربمّا ستعود، ولكن بإيقاعٍ مكسور.
*
يقفُ الماءُ على أبوابِ المدينة، وينظر خلفَه.. ويتذكّر الغيمةَ، التي جاء منها، والرّعدَ الذي صاحبه في النزول..وسيدخل المدينةَ، ليعطيَها باقةَ البَرقِ، التي حملها.
*
الانفاقُ الشمسيّة تزحف كل يوم ،نحو الشروق.
*
إنّه الدوران في الدوّامة المتّسعة، التي تحاولُ الوصول إلى حفل البراءة.
إنّهم يفتحون بوّابات الفوضى على العالم.
ويطلقون المدّ الملطّخ بالدماء..
*
سترتفع الحجارةُ وتغنّي،
ويمتلىء عشُّ الأحلام،
وستخرج الطيورُ من تحت الانقاض..
*
"سوف نضاجع الأفعى بعد أن نمسك برأسها"؛هذا ما كان يعلنه البدائيون قبيل حربهم على الغابة، ثمّ يتركون الأشجارَ محروقةً حتى التراب، أو لها ألوان الصدأ.
*
أرني بطلاً.. وسأريك مأساة..
*
هي المعركة السرمديّة بين أنبياء الأرض ومصّاصي الدماء، وبين الزيتون والنار ، بين ثقافة الكرامة والأنفة والحياة والخلاص والحلم والانتفاضات العبقرية ، القائمة على ثقافة"إقرأ" السماوية، وبين ثقافة الإحتلال المتمثلة بالهدم والحرق والقتل والتخريب والجهل والضيق والموت والحصار والخرافات الدمويّة والاستلاب والشطب والإلغاء، وتطوير كل أشكال القمع عبر التاريخ ، وإعادة إنتاجها بساديّة ، على كلّ ما هو فلسطيني !
*
المُلثّمُ الجسور؛ اسمُه يقرعُ الجَرَس،
وشَبَحهُ قويّ،
وبعض الوَحيِ في متناول يده!
*
أيها السامع المرتبك! لا تكتم أنفاس ضميرك، واسْمَع القصف كما ينبغي. كانت بيوت غزة أغنية للبحر ، تحبّ البرتقال ، وتنام على وردة التعب ! لكنها شمعة كونيّة، يتحلّق حولها الضوء والملائكة ! وكان شعبها حقيقيا يسكن في ترابه وسمائه..لكنّ الاحتلال الاسرائيلي سعى،منذ عقود لفرضِ مقاربة إذلالٍ مستحيلة عليه.. فرفض! والحقيقة واضحة للذين يرون! لكنّ السيدة العمياء(العدالة) لم تنتبه، وظلّ الفلسطينيون في الحصار ، وتحت بساطير الجنود والاستهداف. ومنذ شهر ونصف رأينا الجوارح الوحشية قد اجتاحت مداخل غزة، واتخذت هيئة الانقضاض .. ولم يبقَ شيء في المدينة غير مخلّفات الطائرات والجنود وقنابل الفسفور! وها هو جنرال الموت يعلن بأن هارمجيدو قد بدأت.. وستفيض الطرقات بالجثث والديدان.
إن الغزاة ، بكلّ حمولتهم الفولاذية الحداثية الحارقة، قد استهدفوا كلّ مناحي الحياة؛ من ماء وكهرباء ومخابز ومشافي وتموين، في مشهد عريض يذكّر بالتطهير العرقيّ والمذابح المفتوحة، ودون رحمة! وليدفعوا الجموع لأن تخرج من أحيائها ، وتتجه نحو نكبة جديدة، وتقيم خيامها على أرض أخرى ليست لهم ، في سيناء.
فماذا سيقول العالَم الذي خذل نفسه، قبل أن يخذلنا، ولم يستطع أن يحمي آلاف الأطفال والنساء والشيوخ؟ وقد رأى القوانين والأعراف والقيم، تُداس ببسطار المحتلّ الفاشيّ الاسرائيلي؟
إن كل مَن يساند الاحتلال بالذرائع أو الدعم المادي أو السياسي، أو يصمت أمام المجازر.. هو شريك في هذه المجزرة المروّعة، غير المسبوقة!
وماذا سنقول لإمرأة هدموا بيتها ، وترى كلّ أولادها ممدّدين في قبر جماعيّ؟ فهل سيحتمل التاريخ دموعها الكاوية، التي تماثل الزجاج المطحون أو معدنٌ مصهور يغلي؟
إن أعداء غزّة، على اختلاف عصورهم ووجوههم وألسنتهم، كانوا يأتون من الرماد، ولا يشربون إلاّ الدم ! وهذا الذي سيجعلهم ينصرفون عنها، فأرضها لا تحتمل القراصنة، وطعام شهدائها من الجنّة .
.. إننا نكتب، والنار بين أصابعنا.
*
ثمة دبيب في رَحْم الشوارع، وثمة نبض يخفق في الجدران، وثمة انفجار قادم في كل مكان ، بدأ من القدس ،إلى جنين ، وتوقّف في غزّة، لكن صداه سيكون في المرايا القريبة والبعيدة!
*
يحمل الشهيد فسيلة خضراء لها صورة السكين ، فيواجهه القتلة بالرصاص والهروات والفزع والفسفور،والتّعدي المنفلت المسعور، على الشيوخ والنساء والصغار والبيوت، وبالرصاص المجنون والغاز المسيل للعار؟، ثم بالقصف السافر الممتد الذي لا ينتهي.. لكن لسان حاله يقول : يكفي أن أزقة البلاد تغتسل بدمي ! أنا الهنديّ الأحمر، راكب الريح، وصديق الشجر، أنا شقيق الموج وأقواس قزح . قطوفُ البراري أنا ، ومعلّقة الإيقاع وغفوة النار، وعصا الخرافة وغزال التعويذة وجموح القطيع الطائر .أنا الرامي جدائله بعد سلخ فروة رأسه، والطاعن في السهوب حين رمَتْه السهامُ المسمومة . موتي ذريعة المحتل الأخلاقية المفضوحة، ومرافعته المُخزية، وحضارته الزائفة ، وأنا الشاهد على تخاذل العالم المنافق الكذّاب ، الذي يفعل عكس ما يقول ، بل يمدّ القاتلَ بأسلحته الباطشة .. ويتفرّج على حليب الرّضّع الأحمر الشاخب على الحيطان .
أنا الأوّل، هنا، والخالد في المثَلَ الباكي وفي بذور المكان . وأنا بصمة الجَمْر، وأغنيتي الصعبة مكابرة وإصرار . أنا الهندي الأحمرالجديد الذي سيبدّل نهاية الحكاية، ويبقى في عناد الحياة وقوّتها الباقية .
*
أيّها المُسجّى على الهتافِ المشتعل بالقلوب ، والمُرصّع بأنابيب التغذية الجبرية المُحرّمة ، خوفاً من موتك الحاسم الزلزال .
أيُّها الصاعدُ على استطالةِ المآذنِ وشعلة الجُلّنار .
أيّها المتماهي بغيم الجنّةِ الُمتناسخِ ،من أثوابِ الساحل الشاميّ إِلى سدْرة المُنتَهى .. وصولاً إلى مدية الغاضب ورصاصة الشجاع .
أيتها الزّفةُ الرانخةُ بَعِرق الملائكةِ في صَهْد العُرْسِ المستحيل ، والأيّلُ بقرنيه البرقيّين ، يُطْلقُ شِعابَ الرّعدِ في السماء .
أيّها الفصيحُ المتلعثمُ من فرْط اتّساع عيون الغزالةِ ، التي تأخُذكَ إلى شالها المُطهم بالشّهد .
أيّها المسكونُ بالشمس لتمحوَ ظلْمةَ النهارِ ، وتجعلَ الليلَ نهارياً مثلَ ملامحكَ الواضحةِ في العتمةِ وبين الغرباء .
أيُّها الحيُّ المقتولُ الذي لا يموت ، وصورتهُ في البيوت..
إنك حيٌ ، ولا يليق بك الغياب .