الأحد: 22/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

فقط في فلسطين، صوت الحقيقة، وصمت الإرادة

نشر بتاريخ: 20/12/2023 ( آخر تحديث: 20/12/2023 الساعة: 00:26 )

الكاتب:

ثروت زيد الكيلاني

الثّلاثاء 19 ديسمبر 2023

تلاشت على مشارف بحر غزة ظلال الحريات، وجروح انطفأت في الروح على صفحات الرمال الصفراء، وشرخ أصاب الإنسانية، ولم يتبقَّ منه إلا مظاهر زائفة مختلف عليها؛ لارتباطها بخصوصيات الشعوب، وهوس فوضى قيمية للقابعين على حافة الزمن المنسي، لكن في فلسطين تلتحم الأوردة، وتتقد الذاكرة في ضمير شعب يبثّ الحياة في الجلد العالمي المتهالك من طول الانتظار، وتضخّ أرض هاشم دماء تلوّنت بمواطن العروبة والإسلام، أما وسائل الإعلام فتزخر بالشجب والإدانة والاستنكار، وتردّد في مزاد الأوهام بين نهار يضحك وليل يحمل الأوزار، متناسية ما يُحاك في أروقة الظلم من تشكيل للغد وجغرافية المكان، وكثبان الحقيقة تعجّ بالبؤس والدمار.


إنّ انسياق عدد من الحكومات الأوروبية حامية شعلة الحقوق والقيم خلف السياسة الأميركية (سياسة القطيع)، ُيفقدها الحق في التدخل أو نصيحة أيّ مجتمع بضرورة الالتزام بالحقوق والقيم الإنسانية، فقد جاؤونا ببضاعة شبعت موتاً تجاوزت معاني النفاق وازدواجية المعايير، وعزّزت مفاهيم العنصرية، وبرزت المخالب الوحشية للاستعمار الأكثر دموية في التاريخ، واستنفرت كلّ اختراعاتها ونفوذها السياسي في دعم اعتداءات الاحتلال الهمجية، مؤكدين على التزامهم بنصرته بالمال والذخائر وصواريخ الدمار الملتهب، وحاملات الطائرات، وتقنيات التجسس على اختلافها، إضافة إلى مساندتها في المحافل الدولية لأبشع مخترعاتها واستثماراتها المتمثلة بالاستعمار الاستيطاني (الاحتلال) غير الأخلاقي الذي يتنافى مع أحكام القانون الدولي.


إنّ التغاضي، وتشجيع السلطة القائمة بالاحتلال على ارتكاب المجازر بحقّ المدنيين العُزل واستهدافهم في قطاع غزة والضفة والقدس، وارتقاء آلاف الشهداء معظمهم من النساء والأطفال، واستهداف الأعيان المدنية من هدم المنازل على رؤوس قاطنيها، وتدمير المدارس ودور العبادة والمستشفيات وسيارات الإسعاف، واستهداف المسعفين والصحفيين والنازحين، وحرمان المواطنين من المتطلبات الأساسية للحياة الإنسانية، والسماح بإدخال كميات محدودة، أقلّ من الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية؛ بهدف تحقيق أهداف سياسية وعسكرية، وليست باعتبارها أحد حقوق المواطنين المدنيين التي يكفلها القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وغيرها من الانتهاكات التي ترتقي إلى جرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية.


طلب الغزيون الأمان، فوقعوا صرعى بين أنياب الوحوش البشرية التي حرمتهم قليلاً من الخدمات المناسبة التي تضمن لهم البقاء على قيد الحياة، ولم يخفّف من فيض وجع امرأة تروي حكاية طفل قتلته يد الغدر قبل أن يتنفس، بعد أن جابت طول الأرض وعرضها لعلها تحمل البشرى بغلام، وهبت حياتها لحلم وحيد بلحن طفل يناديها (ماما)، ولكن ليس لأوتار الألم صدى عندما يكون الانتظار بوعد أكيد، وتوقظ ثورة انتصرت في صمت الأمكنة المُخيفة، طالما افترضت أنّ النفس الخالية من الآهات تفتح أبواب التأويل.


تُعَدّ انتهاكات الاحتلال بحقّ الفلسطينيين واحدة من شواهد يمنحها الغرب دعماً غير مقيّد لتنفيذ سيادة الموت والدمار باستخدام أسلحة فتاكة؛ من قصف همجي على المحافظات الجنوبية (قطاع غزة) هزّ أركانها كافّة، ومداهمات جيش الاحتلال وعصابات المستعمرين الاستيطانيين المدن والبلدات والقرى والمخيمات في المحافظات الشمالية (الضفة الغربية بما في ذلك القدس)، وتشديد الإجراءات العسكرية عبر إغلاق الحواجز، وتعريض حياة المواطنين للخطر بالضرب، والتعذيب، والاعتقال، إضافة إلى التدمير الواسع للممتلكات واغتصابها، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل على نحو لا تبرره ضرورات عسكرية، إلا أنّ الخذلان ما زال شيمة عالم يعطّل إرادة إعمال قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ومبادئهما بمحاسبة الاحتلال، ولجم انتهاكاته الجسيمة، بعد أن تنكّر لحقنا في تقرير المصير، وإقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة الكاملة السيادة، وعاصمتها القدس.


لا يخفى على أحد أنّ للشعب الفلسطيني الرازح تحت نير أطول استعمار في التاريخ الحق في الدفاع عن نفسه بكلّ الوسائل الممكنة؛ للتخلص من الاحتلال؛ باعتباره عدواناً مستمراً، وانتهاكاً صارخاً لحق تقرير المصير، فقد تلاشى الاستقرار والهدوء من فلسطين منذ عقود، وَبَات القتلة المهووسون بِالفَتْك يثيرون حَفيظَة الموت، ولم يكفل القانون الدولي حقّ الاحتلال في الدفاع عن نفسه ضدّ أصحاب الحقّ الشرعيين، وإنّ دعم الدول الغربية للاحتلال ككيان فوق القانون، وتأويله حقّ الدفاع عن النفس، يدمر المنظومة الدولية، ويُفقدها المصداقية والموثوقية، لتغدو كشجرة خريفية جفّت أوراقها.


إنّ سادية الاحتلال وإمعانه بإذلال الفلسطينيين وحرمانهم من نيل حقوقهم، وتسبّبه في أزمة عدالة في الأرض الفلسطينية المحتلة؛ ما يتطلب الرد على حالة إفلاته لفترات طويلة من العقاب، وإنفاد الإجراءات المتعلقة بالتحقيق وَفق المعايير الدولية، والملاحقة القضائية لمرتكبي الجرائم والانتهاكات المستمرة والخطيرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، فالخطب الرنانة لا توقظ من اطمأن إلى السّكون والدَّعَة.


تساوقُ بعض المثقفين والإعلاميين المطلق على المستوى الدولي بمقاربة السير مع القطيع كما تلقي الخراف بنفسها إلى الجحيم في سلوك ميكانيكي يضعف فيه الجهد الذهني، أو الانسياق خلف السلوك الجمعي دون إعمال العقل والتفكير بالنتائج أو المخاطر، وربما يكون الفعل إرادياً متسقاً من رأي الجماعة لتحقيق مكاسب ذاتية وآنية، وقد تكون غير ضرورية أو غير إنسانية؛ حتّى لا يوسم بخروجه عن السلوك العامّ للجماعة، أو تحاشياً لمخالفتهم، كلّ هذا وذاك أخطر ما يهدّد المواطنة المسؤولة، ويعزّز مفاهيم الابتعاد عن القيم الكونية، ويعيق التحول نحو مجتمعات قادرة على تحقيق أولوياتها.