الكاتب:
عواد الجعفري
ظهر شخص يقدم نفسه على أنه محلل سياسي على فضائية عربية، وقت إعلان إسرائيل التعبئة العامة في بداية العدوان على غزة. استوقفني قوله معلومة سمعتها كثيرا.
المحلل قال إن القرار يعبئ 18 في المئة من الشعب اليهودي. في الحقيقة، هو نسخ بشكل حرفي تصريحا أدلى به رئيس أركان الجيش المصري الأسبق، الفريق سعد الدين الشاذلي عام 1999 عن مَقْتلين تواجههما إسرائيل في الحرب الطويلة هي التعبئة المطولة التي تشل الاقتصاد والخسائر البشرية.
والحقيقة أيضا أن هذه المعلومة متداولة على نطاق واسع في الإنترنت وحتى على تطبيق "تيك توك" للفيديوهات القصيرة، الذي جمهوره الأكبر من اليافعين.
طبعا، المحلل عينه لم يكلف نفسه أن يراجع المصدر الرسمي الإسرائيلي بشأن أرقام عدد الجنود الاحتياط المستدعين للخدمة أو التقديرات الخارجية بهذا الشأن، ولا العدد الإجمالي لهذه القوات ويجري بعد ذلك عملية حسابية بسيطة، ستخرج قطعا بنتيجة مختلفة عما قاله الشاذلي.
هذا مجرد مثال بسيط لعينة من الأشخاص يظهرون على الشاشات بوصفهم محللين، لكنهم لا يؤدون واجبهم على نحو صحيح، وبكل تأكيد، لا نقصد التعميم، فثمة من يملك الكفاءة والمعرفة.
لكن الكلمة في حد ذاتها إشكالية. ما معنى محللين أو مراقبين؟ ماذا يصنعون في حياتهم؟
الصواب أن تصف وسائل الإعلام الشخص الذي يقدم تحليلا، لنقل موضوعيا لا محايدا، بطبيعة عمله ومصدر رزقه، فهذا يقطع باب التشكيك أو التأويل، وهو أقرب إلى الحقيقة، كأن تقول إن فلان أستاذ للعلوم السياسية في جامعة كذا أو علان باحث متخصص في موضوع ما في مركز ما.
ولماذا الحديث عن المحللين الآن؟
في كل أزمة، يهرع الجمهور إلى وسائل الإعلام، ولا توجد أزمة أكبر من العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة منذ 7 أكتوبر الماضي.
الفضائيات تلجأ إلى المحللين أو الخبراء، أو سمّهم ما شئت، في حال الحروب والأزمات السياسية لأن المعلومات شبه معدومة، وهي أي الفضائيات ملزمة بأن تظل في موجة مفتوحة على مدار الساعة، وتحتاج إلى كلام يرافق الصور المتدفقة من الميدان.
وفي هذه الحالة، ينتعش المحللون إذ تقبل عليهم وسائل الإعلام وخاصة الفضائية، ومنهم من يكسب شهرة، ومنهم من يكسب مالا. لا يعلم البعض أن الفضائيات تقدم مكافآت تصل إلى مئات أو آلاف الدولارات إلى هؤلاء نظير ما ترى أنه خلاصة الجهد الذي يقدمه هؤلاء عبر تحليل الأحداث.
لا بأس في ذلك ولا عيب، لكن على هذا الشخص مسؤولية. القناة الفضائية استعانت به والجمهور ينتظر منه أن يساعده على فهم الأحداث، وقد يكون لهذا الخبير أو ذاك موقف أو وجهة نظر، غير أن ذلك لا يعني أبدا الشطط أو الاستخفاف أو كل ما يبتعد عن الواقعية.
والتحليل لغة يعني تقسيم الكل إلى أجزائه ورد الشي إلى عناصره، وفي السياسة التحليل يُعنى بتحديد الأسباب التي أدت إلى وقوع الأحداث، ودوافع السياسيين وراء قراراتهم وصولا إلى استشراف المستقبل.
بكلمات أخرى التحليل يجيب عن أسئلة حاسمة من قبيل: كيف ولماذا؟ وماذا بعد (السيناريوهات).
لماذا التحليل السياسي مهم؟ إن المشكلة الرئيسية في السياسة هي انعدام والوضوح فيها، فالسياسيون يضفون الغموض على نواياهم الحقيقية، على فرض أن كشفها يعرّض مصالحهم للخطر.
من وجهة نظري المتواضعة، فإن التحليل يقوم على عاملين، بناءً على ما تقدم: الأول هو المعلومات فهي أساس أي تحليل، والثاني المبادئ الأساسية للعلوم السياسية.
الأول يعني أن يواكب المحلل أحدث المعلومات المتدفقة من الميدان أن وتلك الخارجة من أفواه السياسيين وبياناتهم الرسمية ويميز بين ما هو حقيقي وما هو مجرد دعاية غاياتها مثلا الاستهلاك الإعلامي، والثاني يشمل قاعدة المعلن والمخفي، ففي السياسة ما يقال علنا ليس بالضرورة هو السياسة الحقيقية، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل طبيعة تركيبة النظام السياسي والشواهد المتوفرة، والتجارب التاريخية.
نعود إلى موضوع غزة لكي نرى هل هناك توافق بين مبادئ التحليل والنتائج التي خرجت بها بعض التحليلات. مثلا كانت هناك تحليلات تتصور شكل اليوم التالي في غزة بعد الحرب متجاهلة حركة حماس باعتبار أنها في حكم المنتهي. بكل تأكيد، هذا التحليل قائم على الرغبات وبعيد كل البعد عن الواقع، ثانيا هذه التحليلات تكسر أهم مبادئ العلوم السياسية والعسكرية، إذ يستحيل توقع نتائج معركة محتدمة على الأرض، ولا مجال للقطع نهائيا بسيناريو واحد.
وفي وقت لاحق بدأت هذه النوعية من التحليلات بالتراجع. إن تقدير الموقف الذي تعده مراكز الأبحاث (نوع من التحليل السياسي السريع الذي لا يتجاوز في العادة صفحتين) يقدم سيناريوهات متعددة ولا يقدم سيناريو واحدا على أنه واقع لا محالة، لأن هذا ببساطة يتفق مع المنطق.
فريق من المحللين يورد مصطلحات كبيرة دون أن يوضح المقصود بها، كان يقول "قواعد اللعبة". حسنا، ما هي هذه القواعد؟ يقولون على سبيل المثال لا الحصر "المطبخ السياسي"، دون أن يفصحون عن الجهات التي تطبخ هناك ولا المقادير ولا التوابل الموجودة على طاولة الطهاة.
ليس هذا فحسب، بعض المحللين يغيرون من كلامهم وفق القناة التي يظهرون عليها، فيقولون ما يناسب الخط التحريري لهذه القناة أو تلك، ولو دققت فيما يقوله الواحد منه تجد نفسك أمام شخصين منفصلين أو شخص أصابه انفصام في الشخصية.
نحن نعيش في عهد الإنترنت وشبكات التواصل، وولى ذلك الزمن الذي تحتكر فيه وسائل الإعلام التقليدية المعلومات، فخرجت أصوات الناس التي تنتقد هؤلاء المحللين، لا بل إن هناك من يصنع فيديوهات تقارن تصريحات متناقضة لهم، لذلك، نقول للمحللين انتبهوا جيدا واتقوا الله في عملكم وراعوا عقول الجماهير.