الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

بين الأسَرْفَلَة والأسَرْعبة

نشر بتاريخ: 07/01/2024 ( آخر تحديث: 07/01/2024 الساعة: 10:42 )

الكاتب:

برهان السعدي

فكرت مليا في مصطلح ينسجم مع من يشكلون هرولة في المسارات الإسرائيلية، فيكونون إسرائيليين أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، في خدمة التوجهات الإسرائيلية بترسيخ احتلالها ووجودها، وامتدادها السرطاني المتسارع في المنطقة العربية والشرق أوسطية. ورأيت أن مصطلح الأسرلة، لا يخدم الحالة.

فاستحدثت في كتابتي مصطلح "أسَرْفَلَة"، وفعلها الخماسي أَسَرْفَل، ومضارعها يسرفل بضم حرف المضارعة، ومصدرها أسرفلة، وبنفس المنهج مصطلح أسرعب، يسرعب، أسرعبة. حيث لم أجد أفضل من هذا المصطلح لأصف به سلوك كثيرين ممن يتقنون فنون كي الوعي من أبناء جلدتنا، والتشكيك في بطولات مقاومة لقنت العدو درسا، شكّل ولأول مرة في تاريخه تهديدا حقيقيا لوجوده، فشن عدوانه لسببين الأول حماية وجوده وتبعيات ذلك استعماريا، والثاني تغليف صورة السابع من تشرين أول بأية صورة لتلصق في أذهان الإسرائيليين والمجتمعات الأخرى بدلا من تلك الموجعة لحاضرهم والمعتمة لحاضرهم ومستقبلهم قصير الأمد.

فلن تستقر في أذهان البشر صورة بديلة دون أن تكون أكثر تأثيرا من صورة السابع من تشرين أول، فجاءت صورة المجازر وقتل الأطفال والمدنيين وهدم المشافي والمدارس، لتكون حديث الناس والإعلام، على أمل محو صورة هزيمة منظومتهم العسكرية والأمنية والمعلوماتية وغير ذلك.

وسلوك كثيرين آخرين من المبدعين في فنون الفذلكة والنفاق، محددين مواقفهم المعادية لكفاح شعبنا التحرري للخلاص من الاحتلال بعبارات ومواقف مشروخة، تعكس انهزامية واستسلاما وإذعانا وبإصرار، ضمن شهية وقريحة مفتوحة بنهم لتلقف الدعاية الإسرائيلية وفلسفتهم الاحتلال الإعلامية والدبلوماسية بشيطنة أي عمل مقاوم، ويصب في كنس الاحتلال، والتحرر من هيمنة الدول الاستعمارية، التي تستحوذ على مقدراتنا وقرار حكوماتنا في الوطن العربي الكبير، الذي بتحرره يصبح الدولة العظمى في العالم، بما يمتلكه من مصادر طاقة واتساع جغرافيته، والتنوع في مناخه.

فسلوك الصنف الأول يأتي لعدم إغضاب إسرائيل، وإرضاء للإدارة الأمريكية، وتزلفا للغرب الاستعماري، أما الصنف الثاني فيهدف إلى تزلف أسيادهم من الصنف الأول، ليبقوا بطانة رخيصة، وحاشية مقززة.

وعليه، لم أجد مصطلحا يليق بهم، ويعطيهم وصفهم أفضل من مصطلح "الأسَرْفَلَة"، فنحن بين أسرفلة المواقف وأسَرْعَبَتها.

فالأسرفلة تعني إذن التأثير الإسرائيلي على فكر وثقافة فلسطينيين، فتحدد مجمل سلوكهم ومواقفهم خدمة لمصالح الاحتلال، مقابل عدة امتيازات لهم ولأسرهم.

أما مصطلح الأَسَرْعَبة، فهو التأثير الإسرائيلي على فكر وثقافة العرب، فتحول مثقفون وأكاديميون وإعلاميون وبعض ذوي التأثير المجتمعي إلى مدافعين وعرابين لمصالح الاحتلال وتدجينهم لعقول الناس في بلدانهم وغيرها بأفكار ومفاهيم مسمومة، كمداخل للتوسع الإسرائيلي الصهيوني في الإقليم. وثمن هذه المواقف امتيازات شخصية، وليكونوا بطانة للحاكم العربي بامتيازات شخصية لهم، وليكونوا نجوما في بعض القنوات، أو استقبالهم في دولة الاحتلال أو أماكن أخرى، وقد يكون البعض منهم، إن لم تكن غالبيتهم قد سقطوا في شباك الموساد أو أجهزة أمنية صديقة أو حليفة للموساد، ويكون لهم دور مهم أيضا، في شراء العقارات للإسرائيليين وإسهامهم في سن قوانين وتشريعات لحماية الوجود اليهودي – الإسرائيلي في بلدانهم واستثماراتهم في كل المجالات التي تجعل منهم الحكام الفعليين في البلد.

أما على صعيد الحكام، فمن السهولة بمكان، خلق مخاطر تتهدد أنظمة حكمهم وبلدانهم، ليكونوا هم الجهة الحامية والمنقذة لهم ورافعة الخلاص لهم، ببيعهم أوهاما بحماية بلدانهم من مخاطر إقليمية مضخمة استشربوها بهدوء ومنهجية محكمة، وغالباً لا تكون موجودة سوى في أذهان الحكام. مع تأكيد الأسياد على دورهم الحامي لمصالح الأنظمة من أية مخاطر محلية ممكن أن تتهدد بقاءهم في سدة الحكم حتى من شعوبهم، وذلك كله هو الثمن كضمانة لبقائهم في مواقع الحكم.

وكلا الصنفين أكثر خطورة وتأثيرا من آلة القتل والفتك الصهيونية، حيث تخلق حالة الاستسلام والإذعان للسياسات الإسرائيلية، وتعطي القوة للحكومة الخفية التي تسيطر على مفاصل البلاد، فتظهر جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني والأمة العربية ومقدساتنا كحق دفاع مشروع لوجودهم المهدَّد من مجموعات لا تريد سلاما، ولا أمنا وأمانا لشعوبنا العربية، بل وتسعى لخلق حالة من اللا استقرار في المنطقة، تكون تداعياتها نكوصا في الاقتصاد، وسببا في ارتفاع منسوب البطالة، ونشرا لثقافة العنف والتطرف والإرهاب الديني بدلا من التسامح الديني والإنساني.

وعليه، أرى أن مهادنة هذه المفاهيم مهما كان أسماء أو انتماء أصحابها ومروجيها خدمة لترسيخ الاحتلال والمصالح الاستعمارية الامبريالية والكولونيالية. فلا بد من ترميم ثقافة وأقلام الكتاب والمفكرين والمبدعين.

نحن اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى، لثورة ثقافية ملتزمة، لتشكيل حالة الوعي الديني والقومي والوطني، بشكل يلغي التناقض بين هذه المفاهيم والمصطلحات، فكوني مسلم أو مسيحي لا يتناقض مع عروبتي ووطنيتي. فجميع ذلك هو حاضنة للفكر المقاوم، والثقافة الملتزمة، التي تكرس الهوية الوطنية النقيضة للاحتلال وكافة أشكال الاستعمار والاستحواذ على مقدرات وثروات وطاقات الوطن.

ولا بد من إبداع في الإنتاج الفكري والثقافي والأدبي والفن التشكيلي والتعبيري، ليرسم في الوعي العربي أن الذئب لن يكون صديقا أو حاميا للخراف.