الكاتب: المحامي ابراهيم الفارس
(قراءة في بعض الجوانب والتداعيات القانونية)
في 29 كانون الأول 2023، قدمت جنوب أفريقيا طلب ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات إسرائيل لالتزاماتها بموجب "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" تتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة. تم تأسيس هذا الانتهاك على مسألتين رئيسيتين الأولى تورط إسرائيل في جريمة الابادة ضد الفلسطينين والثانية فشل إسرائيل كدولة في منع وقع جريمة الإبادة الجماعية. وطلبت دولة جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية اتخاذ تدابير مؤقتة تقضي باصدار قرار بوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة لحماية الحقوق التي يتم الادعاء بها في الطل من خسارة وشيكة لا يمكن إصلاحها.
قبل الدخول للجوانب القانونية لابد من الإشارة أن لهذا الطلب تبعات سياسية كبيرة، حيث عارضته علناً الولايات المتحدة الأمريكية وأثار سخط الحكومة الإسرائيلية. إذ إن مجرد تقديم هذا الطلب ضد إسرائيل يضعها في موقف حرج أمام العالم، فقد جاءت اتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية بعد المحرقة التي راح ضحيتها ستة ملايين يهودي، واليوم تجد إسرائيل نفسها أمام تهمة الإبادة الجماعية مقدمة من دولة جنوب أفريقيا التي عانت في السابق من هذه الجريمة.
سوف يكون لهذه القضية تبعات قانونية مثيرة للاهتمام، ابتداء يتوجب على المحكمة معالجة نطاق التزام الدول الأطراف بمنع الإبادة الجماعية بموجب المادة الأولى من الاتفاقية. وفي سبيل الوصول للنتيحة قد تضطر المحكمة للإجابة على تساؤلات قانونية على درجة عالية من الأهمية مثل مسألة وجود الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، ومدى حق اسرائيل في الدفاع عن النفس، وجواز تطبيق هذا الحق على الدولة المحتلة وغيرها من القضايا القانونية الدولية الشائكة.
وفقًا للطلب، فشلت إسرائيل، منذ 7 أكتوبر 2023 في منع حدوث جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وفشلت في منع التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وانخرطت إسرائيل وفق الطلب في أعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين ومازالت هذه الأعمال في تزايد واستمرار ضد الفلسطينين في قطاع غزة.
لعل المتابع لهذه القضية يتساءل عن مدى توافر الصفة القانونية في دولة جنوب أفريقيا في تقديم مثل هذه الطلب لدى محكمة العدل الدولية، وعن الولاية القضائية للمحكمة، والتداعيات القانونية الناجمة عن قرار المحكمة في هذا الطلب.
أناطت المادة التاسعة من الاتفاقية الاختصاص القضائي بشكل مباشر لمحكمة العدل الدولية. ولانعقاد الولاية القضائية، يتعين على جنوب أفريقيا أن تثبت أن نزاعها مع إسرائيل يتعلق بتفسير أو تطبيق أو تنفيذ اتفاقية الإبادة الجماعية حسبما تقضي المادة التاسعة.
في الطلب المقدم للمحكمة أكدت جنوب أفريقيا مرات عديدة على التزامها كدولة طرف في الاتفاية بمنع وقوع الإبادة الجماعية بموجب الاتفاقية. ومن ذلك فقد أشارت أن " جنوب أفريقيا تدرك تمامًا حجم المسؤولية الخاصة ببدء إجراءات ضد إسرائيل بسبب انتهاكات اتفاقية الإبادة الجماعية. ومع ذلك، تدرك جنوب أفريقيا تمامًا أيضًا التزامها -كدولة طرف في اتفاقية الإبادة الجماعية - بمنع الإبادة الجماعية" (الطلب، الفقرة 3).
كما أوضحت دولة جنوب أفريقيا، عند طلبها اتخاذ تدابير مؤقتة لوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية، "أن النزاع يتعلق بانتهاكات إسرائيل لالتزاماتها بموجب الاتفاقية بما في ذلك فشلها في منع ارتكاب الإبادة الجماعية، والتزامات جنوب أفريقيا بموجب الاتفاقية بمنع الإبادة الجماعية، بما يشمل اتخاذ الإجراءات اللازمة للتأثير بشكل فعال على تصرفات الأشخاص المحتمل ارتكابهم جريمة الإبادة الجماعية" (الطلب، الفقرة 127).
وفي هذه الجزئية من الطلب استشهدت جنوب أفريقيا بالفقرة الشهيرة رقم 430 من حكم محكمة العدل الدولية لعام 2007 في قضية الإبادة الجماعية (البوسنة ضد صربيا)، وهي مصدر التفسير الواسع لالتزام الدول الأطراف بمنع الإبادة الجماعية.
حيث فسرت محكمة العدل الدولية "نطاق الالتزام بمنع الإبادة الجماعية" المنصوص عليه في المادة الأولى من الاتفاقية في حكمها التاريخي لعام 2007 في قضية البوسنة ضد صربيا. وفقًا للمحكمة، فإن "التزام الدول بمنع الإبادة الجماعية له طابع مستمر ومتميز، وهو التزام متعلق بسلوك وليس التزامًا بالنتيجة، ولا يقتصر على إقليم معين بموجب الاتفاقية". أي أن المحكمة ترى الالتزام بمنع الإبادة الجماعية يقع على عاتق جميع الدول الأطراف، وهو ليس محدودًا إقليميًا ويمكن تحقيقه من خلال كافة الوسائل المتاحة بما فيها اللجوء للمحكمة وطلب اتخاذ تدابير مؤقتة لحماية الحقوق التي يُخشى ضياعها.
أعادت محكمة العدل الدولية النظر في "الالتزام بمنع الإبادة الجماعية" في قضاءها بشأن التدابير المؤقتة في قضية أوكرانيا ضد روسيا عام 2022، حيث أكدت المحكمة أنه وفق المادة الأولى من الاتفاقية، تعهدت جميع الدول الأطراف فيها "بمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، ولا تحدد المادة الأولى أنواع التدابير التي يجوز للطرف المتعاقد اتخاذها للوفاء بهذا الالتزام. وفيما يتعلق بوسائل منع جريمة الابادة الجماعية ربطت المحكمة في قضية أوكرانيا ضد روسيا للمرة الأولى في تاريخها بين الالتزام بمنع الابادة الجماعية (وفق المادة الأولى من الاتفاقية) والتدابير اللازمة التي يجوز لأي من الأطراف المتعاقدة اتخاذها عبر أجهزة الأمم المتحدة المختصة لمنع أفعال الإبادة الجماعية (وفق المادة الثامنة من الاتفاقية) واختصاص المحكمة بالنظر في ذلك (وفق المادة التاسعة من الاتفاقية).
وفي الطلب أشارت جنوب أفريقيا إن الأضرار التي ألحقتها الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد غزة منذ 7 أكتوبر تشكل أعمال إبادة جماعية. وبينت أن عدد الضحايا الفلسطينين يزيد عن عشرين ألف ومن بينهم ما يقارب ثمانية آلاف طفل، وما يزيد عن سبعة آلاف مفقود، واصابة ما يزيد عن خمس وخمسون ألف فلسطيني وأن إسرائيل دمرت ثلاثمائة وخمس وخمسون ألف منزل ودمرت أيضًا مناطق وأحياء سكانية كاملة. وعلى الرغم من أن الطلب يدين بشكل واضح استهداف حركة حماس للمدنيين الإسرائيلين واحتجاز الرهائن في 7 أكتوبر، لكن الطلب في ذات الوقت يقول إنه "لا يمكن لأي هجوم مسلح على أراضي دولة ما مهما كانت خطورته - حتى لو كان الهجوم ينطوي على جرائم وحشية - أن يعتبر مبرر محتمل لانتهاك أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية. (الطلب، الفقرة الأولى).
على الرغم من أن الطلب انصب في المقام الأول على سلوك إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023، لكنه يناقش أيضاً "السياق الأوسع لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين من خلال نظام الفصل العنصري الذي دام 75 عامًا، واحتلالها العسكري للأراضي الفلسطينية، والحصار على قطاع غزة المستمر منذ منذ 16 عامًا". (الطلب، الفقرة الثانية).
للتدليل على نية الإبادة الجماعية، تشير جنوب أفريقيا في طلبها إلى التصريحات المتكررة التي أدلى بها المسؤولون الإسرائيليون، بما في ذلك تصريحات رئيس الوزراء، وسير العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة، بما في ذلك "فشلهم في توفير أو ضمان الغذاء الأساسي للسكان في غزة والمياه والدواء والوقود والمأوى وغيرها من المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني المحاصر في غزة وقصفها المستمر الذي أدى لإجلاء 1.9 مليون شخص أو 85% من سكان غزة من منازلهم دون مأوى مناسب، والذين لا يزالون يتعرضون للهجوم والقتل والضرر". (الطلب، الفقرة 42). واقتبس الطلب مناشدات دولة فلسطين لزعماء العالم بوقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة مستشهداً بخطاب رئيس دولة فلسطين بتاريخ 18 تشرين الثاني 2023 والذي بثه التلفزيون الرسمي الفلسطيني ووثقته وكالة الأنباء الفلسطينية-وفا-. (الطلب، الفقرة 3).
في 3 كانون الثاني 2024، أي بعد أقل من أسبوع من تقديم جنوب أفريقيا طلبها، أعلنت المحكمة أنها ستعقد جلسات استماع عامة بشأن طلب التدابير المؤقتة يومي الخميس والجمعة من الأسبوع المقبل (11 و12 كانون الثاني). وستقرر المحكمة بعد ذلك ما إذا كانت ستفرض تدابير مؤقتة. وقد يستغرق هذا القرار أسابيع أو أشهر. وفي القضية بين أوكرانيا وروسيا، جاء قرار المحكمة بشأن التدابير المؤقتة بعد ما يزيد قليلاً عن شهر من تقديم أوكرانيا لطلبها وبعد حوالي أسبوعين من جلسات الاستماع العامة.
وفي قرارها بشأن التدابير المؤقتة، ستحدد المحكمة ما إذا كانت تتمتع باختصاص قضائي، وستقرر في الصفة القانونية لجنوب أفريقيا استناداً لأحكام اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وستقرر أيضاً إذا كان هناك خطر وضرر لا يمكن إصلاحه وحالة استعجال تستدعي اتخاذ تدابير مؤقتة. وفي حال انتقلت المحكمة للبحث في موضوع الطلب، سوف تعقد المحكمة جلسات استماع علنية بشأن الادعاءات وتصدر حكمها النهائي بحصوص ما إذا كانت أفعال إسرائيل ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية ام لا. ومن التجارب السابقة قد يستغرق هذا الحكم النهائي سنوات - في قضية غامبيا ضد ميانمار، استغرقت المحكمة ما يقارب من عامين ونصف.
على خلاف ما يعتقد البعض، فإن التداعيات القانونية لهذه القضية سوف تكون كبيرة في حال كان قرار المحكمة لصالح جنوب أفريقيا، سواء في التدابير المؤقتة أو في الحكم النهائي.
ومن هذه التداعيات، يحظر القانون الأمريكي المعروف باسم قانون ليهي (Leahy Law) تقديم المساعدة العسكرية لأي قوات عسكرية أجنبية متورطة في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وإن كان هذا الأمر حالياً مثار جدل في الولايات المتحدة الأمريكية ولكن بعد صدور قرار محكمة العدل الدولية فإن الدعم المالي والعسكري الأمريكي لإسرائيل ينطوي على مخاطر قانونية مؤكدة غير خاضعة للنقاش. والولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي سوف تواجه هذه المخاطر بل هناك دول غربية ستجد لزاماً عليها مراجعة دعمها لإسرائيل.
سوف يشكل قرار المحكمة في هذا الطلب، خطوة متقدمة في تنفيذ الاتفاقيات الدولية وضمان التزام الدول في تنفيذ أحكام الاتفاقيات الموقعة وضمان عدم وجود أي دولة فوق القانون الدولي.
ومن التداعيات المتوقعة رفض الامتثال لقرارات المحكمة- وهو أمر متوقع في هذه القضية- الأمر الذي يؤدي إلى تقويض مشروعية المحكمة بشكل كامل. كما أن تنفيذ قرار المحكمة من خلال الأداة التنفيذية للأمم المتحدة وهو مجلس الأمن واحتمال ستخدام الفيتو الأمريكي أمر قائم أيضاً. ولن يكون سهلاً على الإدارة الأمريكية التصدي لقرار محكمة دولية وتقويض شرعيتها أمام العالم. فهذا ليس مشروع قرار مقدم من دولة عربية أو غربية بل قرار متعلق بمشروعية النظام القضائي الدولي. وهذا ما قد يفسر حالة الغضب والتنديد القائمة ضد جنوب أفريقيا من طرف الولايات المتحدة الأمريكية.
لذلك يعتبر هذا الطلب سابقة قضائية أمام محكمة العدل الدولية، حيث تعترف دولة طرف في الاتفاقية بالتزامها بمنع الإبادة الجماعية في إقليم دولة يقع خارج نطاق ولايتها بآلاف الكيلو مترات. وقد وضعت هذه القضية المحكمة والاتفاقيات الدولية والدول الموقعة عليها أمام تحديات ونقاشات قانونية سيكون لها تأثير إما سلبي أو إيجابي على القضاء الدولي وعلى الأمن والسلم الدوليين.