الكاتب:
د. رفيق الحسيني
بعد مرور مائة يوم على هجوم اسرائيل على غزة للمرة الخامسة منذ انسحابها أحادي الجانب عام 2005، وبعد اعتراف قادتها، وبالرغم من القصف الجوي العنيف والهجوم البري الكثيف والخسائر الفلسطينية الهائلة في البشر والحجر، أن الحرب ستكون طويلة، يمكن أن يكون من المناسب أن نستعيد ذكريات المقاومة في فيتنام وما حدث فيها من سفك للدماء ودمار، وما تعلمناه منها من دروس وعبر منذ بداية انطلاقة المقاومة الفلسطينية في منتصف الستينيات، ومن ثم خلال اشتداد المحاولات الإسرائيلية للقضاء عليها في لبنان في السبعينيات، وما تلاها من حصار لبيروت لمدة 88 يوم عام 1982، ثم الانتفاضتان الأولى (1987-1991) والثانية (2000-2004) وأخيراً ما يحصل منذ مئة يوم في غزة من إبادة وقتل وتدمير وما يواجهه الجيش الاسرائيلي من مقاومة وتحدّي ومجابهة.
ولكن قبل محاولة استنتاج بعض الدروس والعبر التي يمكن لفلسطين أن تتعلمها وتستوعبها من تجربة فيتنام إن أرادت تحقيق الحرية والاستقلال، فمن المهم البدء بخلفية تاريخية تشرح حيثيات احتلال الاستعمار الغربي فيتنام منذ العام 1858م وأسباب خروج الاستعمارين الفرنسي والأمريكي منها خاليا الوفاض في عامي 1955 و1973 على التوالي، وبعد خسائر بشرية واقتصادية لم يستطيعا تحملها...
كان الاستعمار الفرنسي قد دخل إلى المنطقة التي عُرفت بالهند الصينية في العام 1858م، فاحتل فيتنام وعدد من البلدان المجاورة. وكأي استعمار، قديم أو جديد، كان الهدف الأساسي من احتلال فيتنام هو سرقة ثرواتها والسيطرة على اقتصادها وبناء قواعد عسكرية فيها لمنافسة القوى الاستعمارية الأخرى.
مع بداية القرن العشرين، أخذ الاحتلال الفرنسي، الذي كان معروفاً بقسوته وشراسته، يثير ضغينة أفراد من الفئة المثقفة والواعية من الشعب الفيتنامي، فبدأوا بالتفكير في الثورة. وكان أحد هؤلاء شاب يُدعى هوشي مِنْه، وقد ذهب للعمل في فرنسا في 1911 كعامل بناء ثم كطاه، وانضم خلال وجوده هناك إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي. وما لبث هوشي منه أن تبنّى الفكر الشيوعي وخصوصاً بعد أن قرأ كتابات لينين المعادية للاستعمار... ولكنه كان يعتبر نفسه وطنياً أولاً وشيوعياً ثانياً، مما أدى إلى توجيه انتقادات له من قبل الحزب الشيوعي الروسي حين ذهب هناك للدراسة.
في بداية الأربعينيات، عاد هوشي منه إلى فيتنام بعد أن قضى في الغرب ثلاثة عقود، فأسس تنظيم أسماه "عصبة فيتنام المستقلة" دعا من خلاله إلى تعبئة كافة فئات الشعب الفيتنامي من الفلاحين والعمال والتجار والتكاثف الوطني لهزيمة الفرنسيين. وقد انضم له مُدرّس تاريخ كان قد اعتنق الفكر الشيوعي يُدعى فو جياب (أصبح الجنرال جياب فيما بعد). وكان الأخير يكره الفرنسيين بشدة وبخاصة بعد وفاة زوجته في سجن فرنسي. وقد توافق الاثنان أن حرب العصابات هي الطريق الأسلم للقتال ضد الجيش الفرنسي، وهي ما سيحقق للثوار الفيتناميين النتائج على الأرض.
خلال الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت الحرب على أشدها بين اليابانيين والأمريكان، حصل اتصال بين الأمريكان وعصبة فيتنام المستقلة، الأمر الذي أدى إلى تحالف بين الطرفين على طريقة "عدو عدوي صديقي". فتم تسليح العصبة من قبل الجيش الأمريكي لقتال القوات اليابانية وقوات فيشي الفرنسية (التي كانت تابعة للمحورالألماني). وفي سبتمبر 1945، بعدما أعلنت اليابان استسلامها إثر ضربها بالقنابل النووية وسقط حكم فيشي في فرنسا، وقف هوشي منه أمام مئات الاف الفيتناميين المحتشدين لرؤيته وسماع خطابه استقلال فيتنام، ولم يبدأ خطابه بقول مأثور لماركس أو لينين بل بعبارة للأمريكي توماس جيفرسون صاغها في اعلان الاستقلال بعد الانتصار في الحرب ضد انكلترا، بأن "كل البشر خُلقوا مُتساوين ... وقد منحهم خالقهم حقوقاً غير قابلة للتصرف ومنها الحياة، والحرية، والسعي من أجل السعادة".
كان الرئيس الأمريكي روزفلت، الذي توفي قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية بأشهر، قد صرح بأن أمريكا سوف تحترم حق كل الشعوب في الاستقلال بعد انتهاء الحرب. ولكنه توفي فجأة، فخلفه نائبه الرئيس ترومان الذي رأى، إثر نهاية الحرب العالمية، أن العالم قد تغيّر... فالتحالف الأمريكي - البريطاني مع الاتحاد السوفياتي ضد ألمانيا وإيطاليا واليابان قد انهار وبدأت الحرب الباردة ضد المعسكر الاشتراكي والحركة الشيوعية. كما تخوّف ترومان من أن انهيار الاستعمار الفرنسي في العالم سيؤدي إلى وقوع مستعمراتها الممتدة، ومنها فيتنام، بأيدي أنصار الشيوعيين السوفيات.
وفي أواخر العام 1945، وبالتوافق مع الأمريكان، دخلت قوات فرنسية "متجددة" تابعة للجنرال ديغول إلى سايغون وهانوي والمناطق المحيطة بهما. ولذلك، في 1946، ذهب هوشي منه إلى فرنسا للتفاوض من أجل قبول حكومة "فرنسا الحرة" باستقلال لبلاده، ولكن مساعيه لم تفلح. ولذلك، في ديسمبر 1946، عادت عصبة فيتنام المستقلة إلى المقاومة واندلع القتال بينها وبين الجيش الفرنسي. ولكن قوات العصبة لم تستطع الوقوف في وجه القوة الفرنسية العاتية، فاضطر هوشي وجياب إلى الاتجاه مع من تبقى من قواتهما إلى الجبال والغابات في شمال البلاد وأخذا يُعدّان للاستمرار بالثورة ضد الفرنسيين من جديد.
في العام 1950، اعترفت الصين الشعبية (بقيادة الزعيم الشيوعي ماوتسي دونغ) بعصبة فيتنام كحركة مقاومة مشروعة ضد الفرنسيين وبدأت بإمدادها بالسلاح والتدريب، فقرر الرئيس ترومان بالمقابل دعم الفرنسيين في فيتنام وأرسل لهم السلاح والعتاد. وبالتالي لم تعد أمريكا محايدة في الصراع في فيتنام بل أصبحت في معسكر القوى الاستعمارية المعادية للثوار.
وفي العام 1952، في عهد الرئيس ايزنهاور، قامت أمريكا بتغطية 30% من مصاريف الحرب الفرنسية في فيتنام، وبعد سنتين ارتفعت نسبة التغطية لتصل إلى 80%. ورغم ذلك، في العام 1953، وصلت خسائر الفرنسيين، بعد سبع سنين من الاحتلال والحرب، إلى أكثر من 100 ألف جندي بين قتيل وجريح، وفشل جيشها في احتلال معظم الريف والغابات والمستنقعات، رغم القسوة الشديدة واستخدام القنابل المحرمة دولياً ومنها النابالم. واصبح الجمهور الفرنسي المُنتمي لليسار يشتم الجنود العائدين من فيتنام وينعت الحرب فيها بـ"القذرة". وفي العام 1954، بعد معركة ديان بيان فو الشهيرة في شمال فيتنام، استسلمت القوات الفرنسية في الشمال لقوات الثوار، فقامت القوى الكبرى بالتدخل لاحتواء الموقف، وعقدت مباحثات في جنيف انتهت بهدنة وتقسيم فيتنام إلى قسمين (على نسق كوريا): فيتنام الشمالية بزعامة عصبة فيتنام المستقلة ورئاسة هوشي منه، وفيتنام الجنوبية بقيادة زعيم كاثوليكي يدعى نغو ديام نصّبه (وتحكّم به) الاحتلال الفرنسي (مع أن معظم سكان فيتنام بوذيون)، وعلى أن يتم عمل انتخابات شاملة في كافة البلاد في المستقبل القريب لتوحيد القسمين.
وفي عام 1955، قرر الفرنسيون الانسحاب من فيتنام الجنوبية بشكل نهائي، فأعلن ديام نفسه رئيساً على جمهورية فيتنام الجنوبية وعاصمتها سايغون. وفي الوقت نفسه، قام باعتقال وسجن عشرات الالاف (وقتل المئات) من المتعاطفين مع الشمال، مما أدى إلى ردة فعل عنيفة من ثوار الشمال ضد المسؤولين الجنوبيين.
وفي نهاية 1960، ولدى انتخاب جون كيندي رئيساً للولايات المتحدة، أنشأ الحزب الشيوعي الفيتنامي منظمة جديدة لاسقاط نظام ديام في فيتنام الجنوبية عرفت باسم جبهة التحرير الوطنية "فيتكونغ". وبالمقابل أكد كينيدي في خطاباته أن الولايات المتحدة ستكون جاهزة هي الأخرى لتحمل أي ثمن من أجل "الحرية" أي ضد الشيوعية، مع أنه كان مقتنعاً بعدم جدوى الحرب في فيتنام وبدأ يسعى لسحب القوات الأمريكية من فيتنام.
وفي نوفمبر 1963 تم اغتيال كينيدي فيما بدا كمؤامرة من جهات عديدة بمشاركة قادة وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيق الفيديرالي ولوبي السلاح. وتسلم لندون جونسون الرئاسة، فعكس، فيما عكس، سياسة الرئيس كينيدي التي كان يدرس الانسحاب الأمريكي من فيتنام.
ومع حلول العام 1967، أصبحت الولايات المتحدة متورطة تماماً في فيتنام، فارتفع عدد الجنود الأمريكان من 10 الاف "خبير" عسكري في العام 1960 إلى 200 ألف جندي مقاتل. ورغم القصف العنيف جواً وأرضاً وبحراً واستخدام النابالم وغيره من الأسلحة المحرمة دولياً وقتل مليون فيتنامي، إلا أن زيادة الخسائر البشرية الأمريكية في تلك الحرب والتي وصلت إلى 50 ألف جندي قتيل وأكثر من 100 ألف جريح ومعاق، اضافة إلى الحملة الشعبية الكبيرة ضد الحرب داخل الولايات المتحدة، اضطر الرئيس الأمريكي نيكسون إلى التفاوض مع قادة الثوار في العام 1973 ومن ثم سحب القوات الامريكية برمتها من فيتنام الجنوبية مع الاستمرار بالدعم العسكري والاقتصادي والسياسي لها، إلى أن اجتاحت قوات فيتنام الشمالية والفيتكونغ فيتنام الجنوبية في العام 1975، وتم توحيد القسمين من جديد.
بعد دراسة لأحداث الثورة الفيتنامية واستيعاب العبر التي ساعدت الفيتناميين في التخلص من الاحتلال الأمريكي (والفرنسي من قبله) قبل نحو خمسين عاماً، ما هي أهم عشر عبر، تكتيكية واستراتيجية، يمكن لفلسطين أن تستفيد منها؟
بعد التقسيم عام 1954، كان النظام الكمبرادوري الحاكم في فيتنام الجنوبية موالياً للاستعمار الفرنسي، ثم انتقل بولائه إلى الاستعمار الأمريكي في العام 1955 بعد انسحاب فرنسا. (أقامت الولايات المتحدة أنظمة متعاونة معها على نفس النسق في كوريا الجنوبية وتايوان وأفغانستان وغيرها). وفي فلسطين، دعم الاستعمار البريطاني الحركة الصهيونية التي قدمت له الولاء والطاعة في البداية، ولكن ما ان قرر البريطانيون الرحيل في العام 1948 (كما فعلت فرنسا في فيتنام عام 1955)، إلا وانتقلت الحركة الصهيونية (ومن ثم اسرائيل) إلى الحضن الأمريكي. ولم تتوقف فرنسا وأمريكا عن دعم فيتنام الجنوبية إلا عندما أجبر الثوار دولتي الاستعمار على دفع ثمن باهظ من قتلى وجرحى، فقررتا الرحيل إلى غير رجعة، غير آبهين بعملائهما ومؤيدهما في جنوب البلاد.
أثبت جميع رؤساء امريكا الذين دعموا حرب فيتنام أنهم، إذا ما تعلق الأمر بمصالحهم الشخصية أولاً وأهمها أعادة انتخابهم للرئاسة، لا يتورعون عن الكذب واخفاء الحقيقة، ومستعدون لخداع شعبهم. ولذلك، كما عبّر الرئيس مبارك في آخر أيام حكمه، فإن "المتغطي بالأمريكان عريان". وعندما رأى الرئيس الأمريكي نيكسون أن مصلحة بلاده (ومصلحته الشخصية) تقتضي الانسحاب من فيتنام، باع حلفائه في فيتنام الجنوبية بدون أن ترمش له عين، وتركهم يتعلقون بالقوارب والطائرات في يوم الانسحاب، مثلما سحب الرئيس بايدن الجيش الأمريكي من أفغانستان، تاركاً خلفه جماعات المتعاونين مع الأمريكان يتساقطون على مدارج الطائرات... هذا يعني أن أمريكا أو غيرها لن تتخذ موقفاً سلبياً من أي من عملائها في أي مكان في العالم، إلا إذا تعرضت مصالحها (أو مصالح رؤسائها) للخطر.
أدى القصف الجوي الأمريكي (عن طريق طائرات بي 52 والصواريخ والمدافع وغيرها من أسلحة الدمار) إلى قتل وجرح وتدمير وإيذاء المقاتلين والمدنيين الفيتناميين (مع أن تأثير القصف كان له أكبر الأثر على المدنيين)، ولكنه لم يؤدي إلى تحقيق الانتصار في الحرب الفيتنامية. وقد استوعبت الولايات المتحدة بعد فترة أنه لا يمكن كسب الحرب إلا عبر الهجوم البري واحتلال الأرض شبراً شبرا، فأرسلت عشرات الاف الجنود إلى الأرياف والغابات. وهناك تساوى المقاتلون وتعادلت القوى وكمنت الفرص، وأصبحت العوامل الأساسية في المعركة (إلى جانب السلاح والتدريب) هو الاقدام والجسارة والشجاعة الفردية.
اعتبرت المقاومة الفيتنامية أن حرب العصابات التي انتهجتها هي الطريق الأنجع والأسلم للقتال ضد الجيوش عالية التسليح كالجيشين الفرنسي والأمريكي، وقد حقق عنصر المفاجأة والكمائن نتائج كبيرة على الأرض، وحطّم الروح القتالية للجنود الأمريكيين، بحيث تواجد مقاتلو حرب العصابات، كما وصفهم جندي أمريكي مخضرم، "في كل مكان وفي لا مكان".
حفر الثوار الفيتناميون الأنفاق واستخدموها بذكاء خلال المعارك، فلعبت تلك الانفاق دوراً مهماً في حماية المقاتلين من جهة ومباغتة العدو من جهة أجرى. ولم يستطع الجنود الأمريكان التقدم بسهولة على الأرض، لأنهم – كما قالوا - كانوا يحتلون الأرض بالنهار ويجدون أنهم – بسبب الأنفاق - يخسرونها بالليل.
شكل الأسرى العسكريون الأمريكيون الـ 550 الذين وقعوا في يد ثوار فيتنام نقطة ضعف كبيرة بالنسبة للقيادة الأمريكية التي اضطرت للتعامل مع الأسرى الفيتناميين بشكل مقبول، ومن ثم تنازلت عن الكثير من شروطها خلال المفاوضات من أجل ضمان اطلاق سراحهم أحياء. بالطبع كان جميع الأسرى الأمريكيين من العسكريين وبالتالي لم يستطع الاعلام الامريكي أو الغربي استخدام سبب وجودهم في الأسر ضد الثوار، سوى اتهام الفيتناميين بتعذيب الأسرى فيما أسموه بهيلتون هانوي (كان من بينهم جون ماكين المرشح الجمهوري الذي خسر أمام أوباما عام 2008).
اهتم الثوار الفيتناميون بالاعلام، ليس فقط بالاعلام الرسمي الموجه نحو تعزيز صمود الشعب، وإنما شجعوا الاعلام الصديق ودعموا الصحافة الحرة وأمدوها بالمعلومات، وبخاصة ما يتم نشره في بلد العدو الأمريكي، والناطق بلغته، والفاهم لعقليته. وقد استطاعت صورة واحدة نشرتها بعض الصحف الأمريكية لطفلة فيتنامية قُصفت بالنابالم، فحُرقت ملابسها وأجزاء من جسدها (مما اضطرها الى الركض عارية بعيداً عن القصف وهي تصرخ من الألم) ... استطاعت تلك الصورة أن تؤثر على الرأي العام الأمريكي أكثر من عشرات الخطب والمقالات والتصريحات الرنانة للقادة الأمريكيين!
منذ منتصف الأربعينيات، أسس ثوار فيتنام "عصبة فيتنام المستقلة" التي دعت إلى تعبئة كافة فئات الشعب الفيتنامي من فلاحين وعمال وتجار، وتكاثفها لهزيمة الفرنسيين، ومع أن بعض الفيتناميين قد إنحازوا إلى فرنسا (وأمريكا)، إلا أن هؤلاء مثلوا طبقة صغيرة جداً أسماها ثوار جنوب شرق آسيا بالكمبرادور، وهي الفئة المنتفعة مباشرة من وجود الاحتلال. ولذلك فإن تجميع كافة فعاليات الشعب الفيتنامي المناهضة للاستعمار تحت اطار سياسي واحد كان الطريق الأضمن والأقصر لتحقيق الانتصار.
بالنسبة للفيتناميين كان الانتصار في الحرب نابع عن اقتناع بالحق والاحساس بالذل والظلم وضرورة الصمود في وجه القوة العاتية ولو كانت النتيجة جدوث خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات. وبالفعل تحمّل الثوار والشعب الفيتنامي الويلات من أجل الحرية والاستقلال والتخلص من الاستعمار. وقد بلغت الخسائر البشرية الفيتنامية في حربها ضد الولايات المتحدة أكثر من مليون شخص (2.5% من السكان)، 60% منهم من المدنيين و40% من الثوار.
جنح الثوار الفيتناميون للمفاوضات مع الاحتلال ثلاث مرات: الأولى مع الفرنسيين في العام 1946، بعد أن كانوا قد حصلوا على استقلاهم خلال الحرب العالمية الثانية بمساعدة الأمريكان، ولكن الفرنسيين أبوا إلا أن يعاودوا احتلال بلادهم للمرة الثانية في العام 1945، وقد عاد الفيتناميين (بقيادة هو شي منه) من المفاوضات خاويي الوفاض واضطروا إلى الانسحاب نحو غابات الشمال ومستنقعاته والعودة للمقاومة من جديد. أما المرة الثانية، فكانت المفاوضات مع المحتل الفرنسي أيضاً (جنيف، 1954) ولكن بعد أن أوقع الثوار فيهم خسائر فادحة، وقد تواجد الأمريكان والبريطانيين من جهة والروس من الجهة الأخرى كأطراف في التفاوض،فقد كانت القوى العظمى تريد تهدئة الأوضاع في فيتنام على نسق كوريا، فتوصلوا إلى تقسيم فيتنام إلى شمالية تحت حكم الثوار، وجنوبية بيد الفرنسيين وحلفائهم من الكمبرادور. وبعد عام واحد قرر الفرنسيون الانسحاب من فيتنام الجنوبية، تاركين الساحة للأمريكان. أما المرة الثالثة، فكانت في باريس في العام 1973 حيث أدت إلى انسحاب الجيش الأمريكي من فيتنام الجنوبية، وسقوط الأخيرة بيد الثوار في العام 1975. لقد استوعب ثوار فيتنام أن الدخول في مفاوضات مع الفرنسيين أو الأمريكيين لا يجب أن يبدأ إلا بعد أن يكون موقفهم قد أصبح قوياً على الأرض... ولذلك، بعد الفشل في المفاوضات الأولى، لم يذهبوا للتفاوض مع أعدائهم إلا بعد أن أصبح موقفهم قوياً على الأرض... عندئذ رفع الثوار سقف مطالبهم وتفاجئوا بما قبله الاحتلال بعدما أنهكته المقاومة ولم يعد يحتمل المواجهة.