الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

دور المنظمات الاهلية الفلسطينية اثناء الصراعات والحروب: إعادة الاعمار وبناء السلام

نشر بتاريخ: 19/01/2024 ( آخر تحديث: 19/01/2024 الساعة: 18:55 )

الكاتب:

د. عيسى سميرات

ينبغي الحذر من الاعتقاد بأن المنظمات الاهلية الفلسطينية يمكن أن تكون في وضع يمكنها من التعامل بفعالية مع جميع أنواع المشاكل والتحديات في ظل حالة الصراع الذي طال أمده منذ العام 1948، الا انه يُعتقد أن جهود منظمات المجتمع المدني يمكنها جعل الحياة أقل إيلامًا وتقليص المعاناة التي كان من الممكن تصورها لو كانت الأمور على خلاف ذلك. ويبدو انه من الصعب تحقيق السلام وتعزيز حالة آمنة ومستقرة وحياة طبيعية دائمة وتلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية ضمن استراتيجيات تعالج الأسباب الأساسية للصراع وتضمن الحاجة للأمن والنظام وترسيخ مستوى معيشي معقول يدعم كرامة الإنسان وحقوقه.

وغالبًا ما تكون الصراعات شديدة الاستقطاب مما يؤثر على فعالية منظمات المجتمع المدني في استجابتها لحالات الصراع وانتهاكات حقوق الإنسان أو ممارسة نوع من اللامبالاة في ظل الموارد الشحيحة. الا أن مساهمة منظمات المجتمع المدني في بناء السلام وإعادة الاعمار بعد الحرب أمر مرغوب فيه وهام للغاية، إلا أنه لا يمكن اعتباره بديلاً لدور الدولة. ولذلك، من الضروري أن يكمل ويعزز كل من (الحكومات ومنظمات المجتمع المدني) بعضهما البعض بدلاً من الانخراط في منافسة غير مبررة. لتقليل اثار الحرب على هذه المنظمات، لقد اقتصرت بعض المنظمات الاهلية اهتمامها على العمل التنفيذي ولكن الحاجة لا زالت قائمة إلى التركيز على دورها في المراقبة والإشراف على عملية إعادة الإعمار بعد الحرب. ومع وجود سجل ناجح في دعم وتنفيذ الإصلاحات في مختلف المجالات يستطيع المجتمع المدني سد ثغرات الحكم التي تفاقمت بسبب الحرب، وفي مهمتهم الرامية إلى تطوير الأساليب الأكثر فعالية لإعادة الإعمار، يجب على الحكومة الفلسطينية والمجتمع الدولي الاستفادة من خبرة منظمات المجتمع المدني. ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى تسهيل تطوير المؤسسات التي تحظى بثقة الشعب الفلسطيني وتعزز الحكم الجدير بالثقة والشفاف والعادل.

وفي ظل التغيرات الجذرية في المجتمع التي ذكرتها المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة وغيرها في أعقاب الإبادة الجماعية المستمرة في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 فان هناك حاجة ماسة لوجود إرادة سياسية متزايدة يمكن من خلالها لمنظمات المجتمع المدني زيادة مساهماتها في هذا الصدد. ويمكن ان يتم ذلك بإنشاء منتديات مشتركة بين الحكومة ومنظمات المجتمع المدني يمكن أن تكون مفيدة في إجراء حوار مبدئي بشكل دوري حول القضايا ذات الاهتمام المشترك كوسيلة لبناء الثقة المتبادلة التي لا غنى عنها لإقامة الشراكة والتعاون الوثيق. ويمكن ان يفضي ذلك الى فهم صحيح لإمكانيات منظمات المجتمع المدني والقيود المفروضة عليها. حيث يمكن لها ان تلعب دورا أثناء الحرب وبعدها لتحقيق التعافي الاجتماعي واللجوء إلى مجموعة واسعة من التدابير مثل مراقبة حالات حقوق الإنسان، والدعوة إلى ضرورة مساءلة مرتكبي جرائم الحرب على أفعالهم، وتوفير الخدمات الأساسية والضرورية والمساعدات الإنسانية للمحتاجين، وتحسين سبل العيش وتوفير الحماية للمدنيين من سوء المعاملة اثناء الحرب وبناء السلام.

فقد أدت الحرب على غزة إلى نزوح أكثر من 2 مليون فلسطيني داخليًا، وأجبرت أكثر من 3 ملايين فلسطيني على العيش في ظروف قاهرة وأودت بحياة أكثر من 25000 مدني منذ الغزو الاسرائيلي في 7 اكتوبر/تشرين اول2023، وقد تسبب الصراع في أضرار للبنية التحتية، بما في ذلك الأضرار التي لحقت بالمباني السكنية والمنازل والقطاعات الاقتصادية الاخرى. وعلى الرغم من هذا الدمار فقد أظهرت الحرب صمود الشعب الفلسطيني المذهل. الا ان عملية إعادة البناء في مرحلة ما بعد الحرب سوف تكون مكلفة ومعقدة، ولكنها تشكل أيضاً فرصة لفلسطين لإعادة البناء بشكل أكثر قوة فيما يتصل بالتحديث الاقتصادي والحوكمة.

وتواجه فلسطين بالفعل العديد من التحديات بسبب تكرار الحروب، بما في ذلك إرهاق الجهات المانحة وتباطؤ الاقتصاد ونقص الطاقة، وحالات الطوارئ المتعلقة بالإمدادات الغذائية والفساد. ويمكن لكل هذه التحديات أن تتسبب في أكبر ضرر على المدى الطويل لعملية إعادة الإعمار إذا تركت دون معالجة، مما يترك المجال أمام القلة للاستفادة من المساعدات الخارجية المستقبلية لتعويض الأصول التي فقدوها طوال الحرب. علاوة على ذلك، من المعروف أن الصراع المسلح يزيد من الفساد القائم، وخاصة مع تحويل المنظمات تركيزها إلى توفير خدمات البقاء الأساسية للمواطنين المتضررين من الحرب، فمن المؤكد أن هذا يشكل خطرا في فلسطين. ولحماية عملية إعادة الإعمار من الفساد، ستحتاج فلسطين ما بعد الحرب إلى هيئة حاكمة قوية لمراقبة استخدام المساعدات الإنسانية، ونظام محاكم قوي ووسائل إعلام مستقلة لمواجهة التضليل حيث ان للمجتمع المدني في فلسطين أهمية بالغة لتحقيق هذه المعايير وللتعبئة حول المستويات العالية من المشاعر الوطنية وشبكات المتطوعين الواسعة التي تشكلت في غزة والضفة على مدار الحرب وقبل الحرب.

مكافحة الفساد وتعزيز الديمقراطية في فلسطين

على الرغم من التحسن في الحوكمة الذي طرأ على مدى السنوات الأخيرة في فلسطين من خلال الهيئات الرسمية والاهلية، الا ان الفساد الطارئ في فلسطين لا زال مصدرا لقلق المستويات الرسمية والأهلية منذ انشاء السلطة في عام 1994 وتعزز ذلك بعد غياب المجلس التشريعي. وفي حين بذلت الحكومة جهودًا لمواجهة الفساد، إلا أن المشكلات المتعلقة بشفافية الحكومة ومساءلتها لا تزال قائمة. وتعتبر شريحة واسعة من الفلسطينيين ان تراجع الاداء والحوكمة هو القضية الثانية بعد الاحتلال التي تواجه بلادهم وتهدد مستقبلهم ونجاح الإدارة العامة. ولا زالت الثقة التي ظهرت في أداء المؤسسات محل تخوف ونقاش في بعض الأوساط الفلسطينية، إذ يعتقد الفلسطينيين أن الرشوة تُمارس ولو بشكل ضيق في في بعض المؤسسات.

ومن الممكن أن يساعد المجتمع المدني النابض بالحياة في مواجهة التحديات التي تواجه نجاح الحكم الديمقراطي في فلسطين من خلال الإشراف على أنشطة المؤسسات والتشريعات وإصلاح السياسات وعدالة التوزيع وتمكين المواطنين وتشجيعهم على المشاركة في مختلف العمليات السياسية، وممارسة الضغوط على المؤسسات الحكومية، ونشر النشاط التشريعي والقضائي من خلال الصحافة الاستقصائية. فقد قدمت منظمات المجتمع المدني الفلسطينية التطوعية عقب اغتيال الحفيين خلال الحرب على غزة معلومات وتحليلات حول أهمية الصحفيين أثناء الحرب والطرق التي تتأثر بها حرية التعبير نتيجة محاولة إخفاء الحقائق حول جرائم الحرب.

كما حققت منظمات المجتمع المدني في فلسطين طوال العقد الماضي تقدما كبيرا نحو تنفيذ برامجها. ويمكن للتعاون وانشاء منصات مشتركة يتم تطويرها بالشراكة بين المجتمع المدني والشركات والسلطات الحكومية، ان يوفر إمكانية الوصول العام والمجاني لأي شخص لتتبع المشتريات العامة وتدقيق إنفاق الأموال العامة وتوفير ملايين الدولارات للميزانية. ويمكن ان تتيح المنصة للمواطنين تقديم الملاحظات والإبلاغ عن الانتهاكات في عمليات الشراء ووضع الأساس لمشاركة المواطنين في أدوار المراقبة مما يسلط الضوء على إمكانات المراقبة المدنية.

علاوة على ذلك، فان تعاون المنظمات غير الحكومية وغيرها من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني لإيجاد حلول لقضايا إعادة البناء والإصلاحات يمكن ان يساهم في جهود إعادة البناء في فلسطين.علاوة على ذلك فان تنظيم منظمات المجتمع المدني لنفسها بالفعل لتلبية احتياجات المواطنين اثناء الحرب، على سبيل المثال رداً على الغزو الإسرائيلي لغزة، شاهدنا في جنوب قطاع غزة كيف نجح مشروع إنشاء مركز جمع بين المنظمات غير الحكومية والشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم والمسؤولين المحليين والناشطين معاً لتسهيل خدمات الصحة والتواصل والايواء. حيث قام المشروع بتطوير منصة تواصل اجتماعي تسمح للمواطنين الذين أجبروا على الفرار من منازلهم في غزة بالبقاء على اتصال مع العائلة والأصدقاء، وإيجاد غذاء ومأوى لهم كما يقدم أيضًا المساعدات الإنسانية لأولئك الذين بقوا في مناطق القتال أو النازحين.

كما يمكن لجهود المنظمات الاهلية وشركائهم من المجتمع المدني انشاء تحالف مدني دولي يدعو إلى المساءلة القانونية ودعم توفير التمويل لإعادة بناء غزة وجنين ونابلس وطولكرم وبقية مدن فلسطين بعد الحرب والعمل على الالتقاء مع مسؤولين حكوميين أجانب وتنظيم احتجاجات في بروكسل وواشنطن وعواصم العالم الأخرى لهذا الغرض. كما يمكن للمنظمات الاهلية مراقبة الانتهاكات ضد المواطنين من قبل القوات الإسرائيلية ومراقبة انتهاكات الحرب المستمرة خلال الصراع الحالي في فلسطين بالإضافة الى تنظيم متطوعين لتوثيق جرائم الحرب وغيرها من الفظائع المرتكبة من أجل محاسبة مرتكبيها ويمكن ذلك من خلال انشاء منصة الكترونية لجعل الرقابة المدنية متاحة لمشاركة الناس العاديين.

الطريق إلى الأمام

إن تعزيز هذه التوجهات من خلال دعم المجتمع المدني هي إحدى الطرق لضمان أن فلسطين لن "تخسر السلام" عندما تفوز بالحرب. وبوسع المجتمع المدني أن يساعد في إشراك القطاع الخاص في تمويل عملية إعادة إعمار فلسطين من خلال زيادة ثقة المستثمرين في تخصيص أموالهم بشكل عادل وفعال. علاوة على ذلك، فإن من شأنها أن تمنح المواطنين الفلسطينيين الثقة في مؤسساتهم الحكومية والتشريعية والقضائية، مما يزيد من المشاركة المدنية لسنوات عديدة قادمة. ولضمان اشراك المنظمات الاهلية المحلية والدولية في عملية إعادة إعمار غزة بعد الحرب يأتي من خلال ضمان المساءلة والشفافية والعدالة، ولتحقيق ذلك ينبغي التركيز على ما يلي:

(1) استخدام الشبكات الموجودة من المتطوعين والناشطين الموجودين داخل المجتمع المدني في فلسطين(غزة والضفة والقدس). فعلى الرغم من فرار العديد من النشطاء من أماكن سكناهم، إلا أنهم لا يزالون موجودين في البلاد، وحتى أولئك الذين فروا لا بد من اشراكهم ويمكن لذلك ان يسد العجز في ضعف الحكومة الوطنية على مواجهة التحديات، ويجب على الحكومة أن تسمح للناشطين والخبراء في أخذ زمام المبادرة حتى في مراقبة نشاط الحكومة. وبالتالي تسخر منظمات المجتمع المدني قدرتها على حشد شبكتها الواسعة من المؤيدين والمتطوعين وبناء خدمات الإخلاء وتوفير الرعاية الطبية بعد ان تتضررت وتدمرت البنية التحتية، كما حدث في حالة قصف المستشفيات ومستشفيات الولادة وحاضنات الأطفال ومراكز الايواء في غزة. وبمساعدة المجتمع الدولي يمكن توجيه القدرة الملهمة لمنظمات المجتمع المدني على تنظيم أعضائها نحو أنشطة الرقابة والرصد من خلال إشراك خبرات المواطنين في جهود مكافحة الانتهاكات.

(2) توظيف المجتمع المدني في أنشطة المراقبة والتنظيم واتخاذ القرار. حيث يتمتع العديد من الناشطين المشاركين في منظمات المجتمع المدني بخبرة متخصصة، كما هو الحال في التشريعات والقضايا القانونية، ويفهمون السياسة على مستوى أعمق من أي بيروقراطي حكومي نموذجي. إن الخبرة الإقليمية التي اكتسبها العديد من خبراء منظمات المجتمع المدني تسمح لهم برصد الثغرات أو الأخطاء التي قد تفشل فيها أي منظمة حكومية. ومن خلال هذه المعرفة يستطيع المجتمع المدني في فلسطين إنتاج البحوث والتحليلات التي تدعم عملية صنع القرار القائمة على الأدلة من قبل المشرعين والسلطات. وهذا يمكّن منظمات المجتمع المدني من العمل كشريك مهم للحكومة المحلية والوطنية في فلسطين.

(3) الاستفادة من الروح المرتبطة بمنظمات المجتمع المدني، حيث تظهر استطلاعات الرأي العام أن الفلسطينيين يثقون بمنظمات المجتمع المدني مثل المنظمات التطوعية وغير الحكومية أكثر من ثقتهم بالمؤسسات الحكومية وبالموظفين العموميين. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن المجتمع المدني يعتبر منفصلاً عن الحكومة، مما يقلل من خطر تصنيفه على أنه هيئة حكومية فاسدة أخرى. ولذلك، لذا فإن خلق دور مهم للمجتمع المدني في عملية إعادة الإعمار من شأنه أن يمكن الفلسطينيين من أخذ زمام المبادرة في إعادة بناء بلادهم وبناء الهيئات المؤسسية التي تحظى بثقة الجمهور.