الأربعاء: 02/10/2024 بتوقيت القدس الشريف

أكاذيب حقيقية.. جياب والقضية الفلسطينية

نشر بتاريخ: 22/01/2024 ( آخر تحديث: 22/01/2024 الساعة: 15:30 )

الكاتب: عواد الجعفري

هناك أكاذيب لفرط تكرارها أصبحت حقيقة لدى كثيرين، وقد حان الوقت لدحضها ودفنها مرة واحدة وإلى الأبد.

في هذا المقال، سأتناول واحدة من الأكاذيب التي ألصقت بالشعب الفلسطيني، وأضحت في مرتبة الحقيقة عند البعض رغم أنها لا تصمد أمام صخرة الحقائق والمنطق.

هذه الأكاذيب تزعم أن حديثا قيل قبل عقود، وما زال البعض يستخدمه حتى يومنا هذا. ينسب البعض قولا مزعوما إلى الجنرال الفيتنامي الراحل وبطل الاستقلال في بلاده، فون نغوين جياب، جاء على النحو التالي: "زار الجنرال جياب عاصمة عربية توجد فيها فصائل فلسطينية (ثورية) في السبعينيات".

وبعدما شاهد جياب، بحسب الزاعمين، "حياة البذخ والرفاهية التي يعيشها قادة تلك الفصائل والسيارات الألمانية الفارهة والسيجار الكوبي و البدل الايطالية الفاخرة والعطور الفرنسية"، قال" لن تنتصروا، فالثورة والثروة لا يلتقيان".

هذا الكلام محض أكاذيب؛ ليس ذلك فحسب، فهي مضحكة وغير متماسكة ويبدو واضحا أن مؤلفها لا يعرف شيئا عن القضية الفلسطينية.

الجنرال جياب لم يزر قواعد الثورة الفلسطينية لا في الأردن ولا في لبنان ولا في غيرهما، ولم يدل بأي تصريح من هذا القبيل لا من قريب ولا من بعيد. تريد دليلا سريعا؟ هذا النص المزعوم مكتوب باللغة العربية فقط، ولا يوجد في اللغتين الفيتنامية والإنجليزية.

المشكلة هي أن هذه الأكاذيب تكررت ممن يعتبرون أنفسهم "نخبة" العالم العربي، إعلاميا وفكريا. هل تتخيلون حجم المأساة في العالم العربي؟ نخبته تنقل الكلام على عواهنه، فما بالكم برواد "السوشال ميديا".

أين الحقيقة؟

حاولت الإجابة عن هذا السؤال في البداية بالبحث في الإنترنت. طبعا، المحتوى العربي ضعيف وركيك – كعادته- فلا توجد مادة واحدة متماسكة ذات مصادر يعتد بها تتحدث عن علاقة جياب بالعالم العربي إجمالا، ناهيك عن دحض التصريح المزعوم المنسوب إلى جياب.

وبالنسبة إلى البعض، إن لم تتوفر الحقائق في الصفحة الأولى من نتائج البحث في "غوغل" فإنها غير موجودة في الواقع أصلا، غير أن الحقيقة موجودة في مكان آخر.

والجنرال جياب، لمن لا يعرف، هو واحد من أبرز 10 شخصيات عسكرية في التاريخ بأسره، بحسب الجمعية الملكية البريطانية، أي أنه شخصية عالمية بالغة الأهمية ولكلامها ثقل كبير.

إن هذا النص مقال، لكن ستلاحظون أنه يتخذ هيئة التقرير في بعض مواضعه، لأن موضوعه اقتضى العودة إلى المصادر الموثوقة لجلب الإجابة القاطعة ودفن المزاعم كما أسلفنا.

وكانت القاعدة لدى كاتب هذه السطور هي اعتماد مصادر متعددة: دبلوماسية، وبحثية، ووثائق رسمية، وأرشيف وكالات الأنباء العالمية.

ولهذه الغاية، تحدث كاتب هذه السطور مع السفير الفلسطيني لدى فيتنام، سعدي الطميزي والضليع في شؤونها (بحسب وسائل محلية في هانوي مثل موقعbaodautu الإخباري الواسع الانتشار الذي قال إنه واحد من الأجانب القلائل الذين يمكنهم الحديث باللغة الفيتنامية بطلاقة تامة كلغته الأم، فضلا عن

أنه يعد خبيرا في شؤون فيتنام والمنطقة المحيطة بها).

بكل ثقة، قال الطميزي إن الجنرال جياب لم يقل هذا الكلام أبدا، إذ "لا يمكنه أن ينزل إلى هذا المستوى ولا يمكنه أن يدلي بمثل هذه التصريحات التي لا تنسجم ومبادئ الدبلوماسية".

ويؤكد الطميزي، الذي التقى جياب مرات عدة وترجم كتابه (5 عجائب لا مثيل لها في تاريخ الحروب) إلى العربية، أنه لو افترضنا جدلا أن الجنرال جياب كان مقتنعا بهذا الكلام فإنه لن يقوله أبدا، فالمعروف عنه أنه يحسب كلماته جيدا.

وبخلاف الأكاذيب التي نسبت إلى جياب، فإن هناك حقيقة قالها جياب ولا يعرفها كثيرون، بحسب السفير الفلسطيني، وهي اعتقاده بأن الثورة الفلسطينية ستكون في وضع أصعب من وضع ثورة فيتنام لثلاث أسباب:

أولا: لا يوجد لها عمق استراتيجي كما في حالة ثورة فيتنام.

ثانيا: طبوغرافية القتال في حالة الفلسطينيين أصعب من تلك التي قاتل فيها الفيتناميون.

ثالثا: القوى الغربية حسمت موقفها بإدامة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، لذلك فالفلسطينيون لا يقاتلون إسرائيل وحدها.

وبدأ التواصل بين الثورة الفيتنامية والثورة الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي، وكان من أبرز الزائرين الفلسطينيين إلى هانوي في تلك الحقبة، الشهيد خليل الوزير أبو جهاد، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ورافقه في إحدى الزيارات نبيل أبو ردينة، المتحدث الحالي باسم الرئاسة الفلسطينية، طبقا للطميزي.

المؤرخ الفلسطيني محمد أبو حميد قال لكاتب هذه السطور إن التصريح المنسوب لجياب لم يرد أبدا في أي مصدر يعتد به، وقال إنه سمع به لدى الذين يتخذون موقفا مناهضا لمنظمة التحرير.

ولدحض هذه الترهات، يتذكر أبو حميد بعضا من نص رسالة الجنرال جياب التي نشرتها وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية "وفا" للتعزية في استشهاد القائد خليل الوزير أبو جهاد عام 1988، وجاء فيها: "فقد العالم قائدا بارزا ومميزا وجريئا وثائرا عالميا. أمضى هذا الرجل حياته في النضال".

ولقد كانت كلمات الجنرال جياب تظهر تأثره الحقيقي برحيل أبو جهاد عن عالمنا عبر الاغتيال وحزنه عليه، وفقا للمؤرخ الفلسطيني الذي عاصر تلك اللحظات.

وكلام البرقية الفيتنامية تدل على موقف داعم للثورة الفلسطينية، فلو كان منتقدا لها لما أرسلها أصلا، والكلام هنا للمؤرخ.

وبحسب السفير الطميزي، فقد قصد جياب أيضا مقر السفارة الفلسطينية في هانوي وقتها مقدما واجب العزاء في رحيل أبو جهاد.

الدول التي زارها الجنرال جياب

إن الوثائق التي اطلع عليها كاتب هذه السطور تظهر أن جياب زار دولتين عربيتين فقط هما الجزائر وليبيا.

مثلا، يقول موقع وزارة الخارجية الفيتنامية في حديثه عن تاريخ العلاقة مع ليبيا إن الجنرال جياب زارها مرتين الأولى في عام 1978، والثانية في 1985.

أما الجزائر فقد زارها الجنرال الفيتنامي 3 مرات في الأعوام 1976 و1979 و1987، وكانت للزيارة الأولى أهمية كبرى لكونها جاءت بعد انتصار الفيتناميين على الولايات المتحدة، ووثقت وكالات الأنباء العالمية الزيارة بالصوت والصورة، وكان الجنرال الفيتنامي حينها نائبا لرئيس مجلس الوزراء في بلاده، واستقبله حينها الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، كما يظهر فيديو وكالة "رويترز" للأنباء.

وبما لا يدع مجالا للشك، لم تكن هناك لا مقرات لقيادة منظمة التحرير ولا معسكرات في ليبيا ولا في الجزائر في الفترة التي زارها جياب، لا بل كانت هناك حالة من القطيعة بين الزعيم الليبي حينها معمر القذافي والفلسطينيين.

راجع مؤلف هذه السطور أرشيف وكالات الأنباء العالمية: "رويترز"، ووكالة الأنباء الفرنسية، ووكالة "أسوشيتد برس"، ولم يجد أي معلومة أو صورة أو مقاطع فيديو تشير إلى أن جياب كان في الأردن أو لبنان أو حتى تونس.

أما بخصوص "البذخ "المزعوم، فهو أمر يثير السخرية، طبقا للمؤرخ أبو حميد، الذي يتذكر عن تلك الحقبة "المعلبات" التي كانت توزع على جنود وقادة منتشرين في جبال جنوب لبنان، وتساءل مستنكرا: أين هو البذخ؟، وروى أن المقاتلين لم يكونوا جوعى، غير أنه لم يكن هناك "بذخ"، كما يزعم الزاعمون.

وكان أول وفد فيتنامي زار معسكرات الثورة الفلسطينية في لبنان عام 1981، كما يقول السفير الطميزي، وبالطبع لم يكن الجنرال جياب ضمن أعضاء الوفد.

ومن أجل مزيد من التثبت، اتجه كاتب السطور إلى مصدر غير فلسطيني وغير عربي لكنه معني بسيرة الجنرال جياب.

وكانت إجابة البروفيسور كريستوفر غوشا، المؤرخ الأميركي الكندي المتخصص في تاريخ الحرب الباردة في آسيا وحروب فيتنام بشأن المزاعم المنسوبة إلى جياب قاطعة.

وقال الأستاذ في جامعة كيبيك الكندية، لكاتب هذه السطور عبر البريد الإلكتروني، إنه لم يسمع قط أن الجنرال الفيتنامي الشهير قال كلاما مثل هذا.

ويبدو أن الغرض من تكرار هذه الأكاذيب مثل التي دحضناها في المقال، إدانة الفلسطينيين بأي وسيلة كانت.

إن هذه الأكاذيب تبدو مثالا نموذجيا على سردية مناهضة للفلسطينيين ترددها الدعاية الإسرائيلية منذ ردح من الزمن، تقول إن منظمة التحرير "فاسدة" وحركة حماس "إرهابية"، وفي المحصلة: الفلسطينيون كلهم سيئون.

إن هذا المقال دعوة لكل منا لكي ندقق ونتحرى المزاعم والأكاذيب التي تتدفق علينا من كل حدب وصوب ولا نصدّقها، تمهيدا لنسفها من أساسها.