الثلاثاء: 19/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

تبديد الأوهام وتحطيم الأصنام

نشر بتاريخ: 08/02/2024 ( آخر تحديث: 15/02/2024 الساعة: 23:30 )

الكاتب: عواد الجعفري

بدأت القصة كالتالي: منصة عربية تنشر برقيات عاجلة بشأن الحرب على غزة نقلا عن موقع "أكسيوس" الإخباري الأميركي.

وبعد قليل، نقلت المنصة نفسها العواجل عينها عن موقع إخباري إسرائيلي واسع الانتشار، وما هي إلا لحظات حتى نشرت خبرا موسعا مصدره: وسائل إعلام إسرائيلية وأميركية تقول كذا وكذا، وهو ما يوحي بأن للخبر صدقية عالية.

في الحقيقة، لا توجد وسائل إعلام أميركية ولا إسرائيلية ولا ما يحزنون. كل ما في القصة أن هناك صحفيا إسرائيليا اسمه باراك رافيد يبيع المادة الصحفية لموقع "واللا" الإخباري الإسرائيلي، ثم يبيع المادة نفسها إلى موقع "أكسيوس" الأميركي.

طبعا هذا السيناريو يتكرر كثيرا.

كيف يمكن أن تثق بصحفي يبيع المادة إلى وسيلتين إعلاميتين مختلفين بصرف النظر عن أي تبريرات؟

المشكلة أن كثيرا من العرب يعتبرون هذا الصحفي مصدرا مهما.

إن الاعتقاد بأن الإعلام في الغرب يضع نصب عينيه أخلاقيات العمل الصحفي وهم يعشعش في عقول كثير من العرب، من سياسيين وإعلاميين وحتى الجمهور، وحان الوقت لكي يتبدد هذا الوهم، هذا إن لم يكن قد تبدد بالفعل بعد الكوارث التي ارتكبتها وسائل الإعلام الغربية خلال العدوان الحالي على غزة.

سيقول قائل إن الصحافة في الغرب أحسن بألف مرة من صحافة العرب، فهناك الحرية والعمل الصحفي المنظم والقدرة على التأثير. إن هذه النظرة صحيحة في بعض الجوانب، لكنها قاصرة ولا تقدم صورة شاملة.

لقد ثبت بالدليل القاطع والدراسات الأكاديمية أن وسائل إعلام غربية "تتشدق الحرية كثيرا" كانت منصة لعمليات تضليل ودعاية في قضايا تتصل بالفلسطينيين والعرب، وهي في ذلك بعيدة كل البعد عن أساسيات العمل الصحفي.

مثلا، في الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة الفقير والمحاصر، برز اسم "وول ستريت جورنال" مرارا في أخبار ثبت كذبها أو كانت بصورة ما جزءا من الحرب النفسية.

ففي الأول من ديسمبر الماضي نقلت الصحيفة أن إسرائيل وحماس اتفقتا على تمديد التهدئة، وبعد ساعات قليلة تجدد القتال. واضح مدى صدقية الصحيفة.

كانت الصحيفة جزءا من الحرب النفسية، سواء عرفت ذلك أم لم تعرف، فقالت في تقريرين إن هناك خلافات داخل حركة حماس. طبعا الصحيفة لم تقدم دليلا ملموسا على كلامها، والمنطق يقول كيف لصحيفة أن تعرف ماذا يجري داخل حماس في حين دولة الاحتلال وأجهزة استخباراتها لا تعرف شيئا.

ومن التاريخ، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أن طائرات التحالف في حرب الخليج انطلقت في مهمة لقتل الرئيس العراقي حينها صدام حسين، لكن سوء الأحوال الجوية حال دون إتمام المهمة. هل هذا خبر أم حرب نفسية؟ هل يكشف الأعداء عن خططهم بسهولة في الحروب؟

هذا عن الأوهام، فماذا عن الأصنام؟

انطلقت شبكة CNN الإخبارية الأميركية عام 1980، ولم تحقق أي انتشار دولي إلا في حرب الخليج الثانية عام 1991، حينما كانت تحتكر تقريبا تغطية الحرب تلفزيونيا، وبعدها صارت رديفة لكلمة الخبر ومعيارا للصدقية، بعبارة أخرى: صارت صنما لدى البعض.

واذكر أن قناة عربية ذات مرة نشرت تقريرا عن هيفاء وهبي، ولكي تدلل على أنها مشهورة، قالت إن CNN أشارت إليها. ما يصدق على المغنيات يصدق على السياسة، فالكثير من ممتهنيها يحبون أن يظهرون على شاشتها.

لكن مهلا، نحن الآن في 2024 ولسنا في 17 يناير 1991 (الذي عاصر تلك المرحلة وقرأ عنها يعرف أهمية ذلك اليوم)، وقد حدثت تطورات هائلة في بيئة الإعلام، أهمها صعود وسائل التواصل الاجتماعي وبروز سائل إعلامية دولية عديدة، بحيث لم تعد تلك الشبكة بالمهمة للغاية، لكن البعض لا يزال متمسكا بذلك الصنم، وهذا يثير سرور القائمين على الشبكة.

في الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة سقطت هذه الشبكة سقوطا مدويا، فتجاوزت القناة الانحياز لإسرائيل إلى الفبركة والموضوع أشبع نقاشا، لكني سأتطرق إلى قصة أخرى، فكبيرة المذيعين الدوليين في القناة استغربت بشدة عندما قال لها رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق، إيهود باراك، إن جيش الاحتلال هو الذي شيّد المخابئ أسفل مستشفى الشفاء. مجرد مثال فقط على ضحالة الشبكة.

بعد كل هذا، لماذا تنقل وسائل الإعلام العربية عن نظيرتها الغربية؟ الأسباب متعددة، يأتي على رأسها الكسل. نعم الكسل، فقد تخلت الصحافة العربية عن مهمة جمع الأخبار واستقصائها على نحو كبير، واكتفت بالترجمة عن وسائل الإعلام الغربية، كما أن قلة المال المتوفر تقلل من إمكانية الاستعانة بالصحفيين القادرين على جمع الأخبار والمعلومات.

وليس هذا فحسب ما يفسر القصة، فنسبة كبيرة من المسؤولين العرب يفضلون الحديث مع وسائل إعلام غربية. إنها جزء من ظاهرة أوسع اسمها "الافتتان بالرجل الأبيض"، فأي شيء غربي الطابع قد يبدو له بريق لا يتوفر لنظيره العربي.

ويحدث هذا الأمر على الرغم من أن وسائل الإعلام الغربية في كثير من الأحيان حرّفت كلام المسؤول وأوقعته في حرج بالغ، أو كما يقال بالعامية "فوتته في الحيط".

ما الحل إذن؟ يبدو أن ما تقدم بعيد عن الواقع؟ لا أقول إنه يجب مقاطعة وسائل الإعلام الغربية وعدم الاعتماد عليها، لكن أنت لست ببغاء أيها الصحفي، فلديك عقل تستطيع أن تقدر ما هو حقيقة وما هو دعاية رخيصة، والتدقيق بالغ الأهمية في التفاصيل، فأحيانا العنوان شيء والمتن شيء آخر، إلى جانب البحث عن مصادر أخرى.

وبالنسبة إلى المسؤول العربي، وخاصة الفلسطيني، لا يجب أن يقاطع هذه المنصات، فاستغلال أي فرصة للوصول إلى الجماهير في شتى بقاع الأرض مهم، لكن المهم أيضا الاتفاق قبل الظهور على الشاشة على تفاصيل مثل الوقت ومحاور النقاش وغيرها من التفاصيل وليس الاكتفاء بـ"نعم السريعة".