الكاتب: د. صقر سليمان
ثمة تساؤلات عديدة عن أسباب التحول في الراي العام تجاه ما يحصل في قطاع غزة والقضية الفلسطينية بشكل عام وكذلك عن دور الجاليات الفلسطينية وما تمارسه او يمكن ان تمارسه من تأثير على توجهات الرأي العام في كثير من الدول لا سيما تلك التي تربطها علاقات وثيقة مع الكيان الصهيوني. من غير الممكن إنكار العلاقة بين الرأي العام والقرارات التي تتخذها الحكومة في أي دولة حيث تتجلى هذه العلاقة الوطيدة بين الرأي العام وعملية صنع القرار في الدول الديمقراطية أكثر من غيرها. بشكل عام نجد أن تأثير الرأي العام على صناع القرار حول قضية معينة يتأثر بمتغيرات لها علاقة بطبيعة هذه القضية ومدي أهميتها للرأي العام ومستوى تأثيرها على حياة الناس وأمنهم الوطني والمجتمعي وكذلك على السلم العالمي.
ساهمت العولمة وآليات اتخاذ القرار في الدولة الحديثة في جعل الرأي العام عنصر أساسي في إدارة الصراعات والتأثير على عملية صناعة القرار السياسي للحكومات. يمكن المجادلة بان وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي قد أحدثت ارتدادات واسعة لدى الرأي العام تجاه هذه الحرب التي تشن على الشعب الفلسطيني مما كان له تأثير على صناع القرار السياسي في كثير من الدول وعلى مواقفهم من هذه الحرب. فقد أحدثت المظاهرات والمسيرات والفعاليات التي قامت بها الشعوب الرافضة لعمليات القتل والاقتلاع والتهجير التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني تأثيرا ملموسا في دول مثل بريطانيا وفرنسا وكثير من الدول الأوروبية وحتى في الولايات المتحدة خرجت مسيرات بمئات الألوف مما كان له دور في تعديل مواقف هذه الحكومات وتراجعها عن تبني الروايا الصهيونية بالكامل.
في ظل هذا الواقع وأخذا بعين الاعتبار المتغيرات التي تؤثر على الرأي العام في الدول يبرز دور الجاليات الفلسطينية كمتغير مهم في التأثير على توجهات الرأي العام في الدول المستضيفة وخاصة الدول الغربية التي يشكل الرأي العام أحد أهم المؤثرات على صناعة القرار السياسي فيها. في النظم الديمقراطية يخضع القرار السياسي لمبدأ الضوابط والتوازنات بحيث يأتي هذا القرار معبرا قدر الإمكان عن مختلف تيارات الرأي العام. إن قدرة الجاليات الفلسطينية على التأثير في الرأي العام كانت وما زالت ممكنة من خلال شبكات المصالح وشبكة من الاتصالات المؤسساتية والشخصية. إن مثل هذه الشبكات والاتصالات تمثل منصة يمكن استغلالها في بناء جسور من العلاقات الثنائية القائمة على التأثر والتأثير حول القضايا ذات الاهتمام المشترك. إن القدرة على التواصل وفتح قنوات تعاون مع جماعات المصالح تعتبر ركيزة أساسية في تشكيل رأي عام داعم للقضية الفلسطينية في ظل التأثير الواضح لهذه الجماعات على بعض الفئات المجتمعية وكذلك قدرتها على تشكيل جماعات ضغط قوية لها صوتها وفعاليتها في تحديد خصائص القرار السياسي لا سيما في الدول ذات التأثير على القرار الدولي. إن هذا المستوى من العمل يكون من خلال تشكيل آليات ومجموعات ضغط تشمل جاليات اخرى سواء عربية أو إسلامية أو صديقة كما يتطلب تشكيل تحالفات مع قوى محلية مثل الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني. في الآونة الأخيرة برز العديد من أبناء الجاليات الفلسطينية في مناصب مؤثرة في الدول التي يعيشون فيها كأعضاء أحزاب وبرلمانيين ووزراء.......الخ. إن وجودهم في هذه المواقع القيادية يشكل فرصة يمكن الاستفادة منها في التأثير على عملية صنع القرار في هذه الدول لصالح دعم الرؤيا الفلسطينية لحل عادل للصراع الفلسطيني- الاسرائيلي.
بلا شك شكل فلسطينيو الشتات عبر العقود الماضية مخزونا استراتيجيا لرفد الحركة الوطنية الفلسطينية ومواجهة المشاريع التصفوية التي تستهدف الانقضاض على فلسطين ارضا وشعبا وهوية ولكن تبقى قدرة الجاليات الفلسطينية المنتشرة في معظم دول المعمورة مرتبطة بشكل كبير بواقع هذه الجاليات ومدى تماسكها واندماجها في المجتمعات المضيفة وهذا يقودنا لإلقاء الضوء على عدد من المحددات التي تؤثر على قدرة الجاليات الفلسطينية في الشتات للعمل بشكل أكثر فعالية وحشد الدعم والمناصرة للقضية الأم ومن أهم هذه المحددات:
المحدد الأول: المأسسة وهي تعبر عن قدرة المنظمات على تطبيق مبادئ الحوكمة مما يمكنها من التفاعل الفعال مع بيئاتها المختلفة وبالتالي القدرة على الاستفادة مما تطرحه هذه البيئات من فرص يمكن الاستفادة منها. في هذا الشأن يمكن ملاحظة أن الجاليات الفلسطينية تعاني بشكل عام من ضعف في قدراتها المؤسسية ناتج عن ضعف آليات الحوكمة والمشاركة. هناك مؤتمرات وانتخابات ولكنها في الغالب ما تكون شكلية ولا تقود بالضرورة الى تغيير حقيقي فمن المهم اشراك أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين في هذه العملية. المشاركة في اتخاذ القرار تقود الى العمل على انجاحه والالتزام به. بلا شك ان تبني آليات المأسسة والمشاركة يقلص الفجوات في حال وجودها بين الاجسام الرسمية للجاليات وبين مجتمعات الشتات.
المحدد الثاني: العلاقة بين السفارات والجاليات، فبالرغم من إدراك أهمية تكاملية العلاقة بين السفارات والجاليات الا أن هذه العلاقة في كثير من الأحيان تفتقر الى الانسجام والتجانس وقد تصل إلى درجة النفور والتنافس على النفوذ وهذا ينعكس سلبا على الأداء العام وعلى المشاركة في الفعاليات سواء التي تقيمها السفارات او منظمات الجاليات.
المحدد الثالث: الاستراتيجية، العمل وفق خطة هو أكثر إنتاجية ويترك أثر بعكس العمل العشوائي غير المخطط. فلسطينيا، يشكل غياب الإستراتيجية والخطط نقطة ضعف في عمل الجاليات يضاف إلى ذلك غياب السياسات الحكومية التي تستهدف تعزيز العلاقة مع الشتات الفلسطيني، ومما يزيد من صعوبة واقع الجاليات هو تصدير أزمات الداخل إلى الشتات والتأثر المباشر بما يجرى داخل فلسطين سواء من انقسامات سياسية او ممارسات للفصائل مما يعيق دور الجاليات بالخارج ويضعف فرص عملها كفريق واحد متجانس.
أخيرا ومن أجل الارتقاء بأداء الجاليات الفلسطينية وتحسين مستويات تنظيمها بما يعزز قدرتها على خدمة أبناء هذه الجاليات والقضية الأم فلا بد من مأسسة هذه الجاليات على اسس تستند الى الكفاءة والمشاركة الفاعلة، كذلك من المهم تصويب العلاقة بين السفارات والجاليات على اسس صحيحة تستند الى وضوح المهام وتكامل الأدوار. لضمان وحدة الشتات الفلسطيني من الضروري النأي به عن التجاذبات السياسية داخل الوطن وتبني سياسات حقيقية وفاعلة لتعزيز العلاقة مع الجاليات الفلسطينية وتفعيل دورها في مواجهة مخططات تصفية القضية الفلسطينية وإعادة حشد التضامن الدولي حتى يستعيد زخمه من جديد. من المهم التأكيد على ان هذه السياسات نادرا ما تنجح إذا لم يشارك في صياغتها جميع الأطراف ذات العلاقة بما في ذلك منظمات الجاليات.
*دكتوراة في الإدارة العامة والسياسات