الكاتب: خالد جميل مسمار
العودة إلى الوطن:
قبل دخولي الوطن كنت كما ذكرت سابقا مسؤولاً للإعلام الفلسطيني في الأردن وعضواً في المجلس الثوري لحركة فتح.
بعد الإعلان عن اتفاق أوسلو تقرر عقد جلسة للمجلس الثوري في تونس وقبل عقد الجلسة بفترة وجيزة اتصل بي المرحوم عثمان أبو غربية للانضمام إلى التشكيلة الجديدة للتوجيه السياسي، بصفتي السابقة كموجه سياسي في جيش التحرير الفلسطيني وكان الأخ القائد الرمز أبو عمار كلف الأخ عثمان بمهام التوجيه السياسي تمهيدا للعودة إلى الوطن واختار رحمه الله خيرة كوادر حركة فتح في الأقاليم الخارجية، فاعتذرت عن المهمة إلى أن تم إقناعي بالذهاب إلى تونس للتحدث عن تجربتي السابقة في التوجيه السياسي، بعد أن طلب الأخ عثمان من الأخ الدكتور جمال محيسن والمرحومة هند الحسيني للتوسط بذلك وفعلا ذهبت إلى تونس وتمّ عقد دورة شاملة للأخوة المختارين لهذا الجهاز المهم تحدّث فيها عدد من أعضاء القيادة عن اتفاق المبادئ الذي تم في أوسلو منهم الأخ أبو علاء والأخ أبو مازن واختتم بلقاء مع الأخ القائد أبو عمار الذي طلب من الأخ أبو عبد الله (عثمان أبو غربية) أن يجهز قائمة بأسماء الدفعة الأولى للدخول إلى الوطن تنفيذا لاتفاق إعلان المبادئ.
قبل ذلك حضرت اجتماع دورة المجلس الثوري الذي ناقش اتفاق أوسلو واستمعت لشرح مستفيض من الأخ أبو مازن حول الاتفاق ثم طلب الأخ أبو عمار من قادة القوات متسائلا من القوة الجاهزة للدخول إلى الوطن طبعا كانت المفاجأة للجميع الذين كانوا يتساءلون: هل صحيح أننا سندخل ونعود إلى الوطن وهل تمّ الاتفاق على ذلك فعلاً. كنا غير مصدقين بان ذلك سيحدث بعد طول عناء وتشتت للقوات في كثير من دول الشتات العربي. هنا سأل الأخ أبو عمار المرحوم (أبو حميد مفرج) قائد القوات في اليمن وطلب منه أن يكون وقواته أول من يدخلون الوطن.
لكن الأخ أبو حميد وقواته الكبيرة تحتاج على الأقل إلى سفينتين لتنقلهم من اليمن وتجهيز ذلك يتطلب شهرا على الأقل، غضب الأخ أبو عمار وطلب عقد جلسة للمجلس العسكري الأعلى عقب انتهاء أعمال المجلس الثوري شاركت وحضرت تلك الجلسة بعد أن انقطعتُ عن الحضور بسبب تواجدي في عمان واكتفائي بموقعي الجديد كمسؤول للإعلام الفلسطيني في الاردن. كنت غير مصدق أننا سندخل الوطن بهذه السرعة، استمعت للأخ القائد العام في الجلسة وكيفية الدخول للوطن الذي سيكون عن طريق معبر رفح للقوات القادمة من اليمن ومصر والسودان. وعن طريق جسر دامية (جسر الملك حسين) للقوات القادمة من الأردن والعراق. أسهب المرحوم أبو حميد في تفاصيل احتياجاته لتجهيز القوات حتى تدخل الوطن من اليمن فسأل الأخ أبو عمار: من القوات الجاهزة حاليا تستطيع الدخول عاجلاً فكان الجواب من قائد قواتنا في السودان اللواء صائب العاجز، وهي قوات قريبة من مصر وعددها أقل بكثير من قواتنا في اليمن. عندها تيقنت أننا فعلا عائدون إلى الوطن.
قلت إن الأخ أبو عمار طلب من الأخ عثمان أبو غريبة تجهيز القائمة الأولى من المفوضين السياسيين للدخول إلى غزة، وفعلا قدم الأخ عثمان قائمته لكن الأخ أبو عمار تساءل لماذا لا يوجد اسم الحاج خالد! لم يكن يعرف الأخ أبو عمار أنني اعتذرت للأخ عثمان عن مشاركتي في التشكيلة الجديدة. وأصرّ الأخ أبو عمار أن اكون على رأس القائمة حسبما أخبرني الأخ عثمان فتوجهت إلى أمين سر المجلس الثوري المرحوم حمدان عاشور ونائبه عدنان سمارة باعتباري عضواً في هذا المجلس للتوسط عند الأخ أبو عمار، لإعطائي مهلة والدخول عن طريق الجسر وليس عن طريق معبر رفح حتى أجهز نفسي وأرتب أمور أسرتي، لكنه رحمه الله أصرّ على أن أكون ضمن الطاقم الذاهب معه في الطائرة من تونس إلى مصر، ثم إلى معبر رفح فانصعت إلى هذا الامر خاصة وأن الأخوين حمدان عاشور وعدنان سمارة طلبا منى الموافقة، لأن هذا الامر هو عودة إلى الوطن وليس إلى أي جهة أخرى، لم يكن لدي من الثياب أو المال الذي أتركه لأسرتي في عمان غير أن الصديق العراقي حمد الغزاوي أمدني ببعض الدشاديش التي تساعدني مؤقتاً. وكان الرفيق في الطائرة أيضا المرحوم سليمان جاموس (سليمان وفا)، الذي اصرّ الأخ أبو عمار على اصطحابه أيضاً لنكون نواة للتوجيه السياسي ونواة لوكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) ممثلة بالأخ سليمان رحمه الله.
كان وداعاً رسمياً في مطار قرطاج للأخ أبو عمار وكان على رأس المودعين رئيس الجمهورية "زين العابدين بن علي" وكبار رجال الدولة، وعند الإقلاع تفقد الأخ أبو عمار مرافقيه في الطائرة وانفرجت أساريره عندما رآني والمرحوم سليمان على متنها (مش كده كويس)، قالها والابتسامة العريضة تملأ وجهه.
بعد وصولنا مطار القاهرة واستقبال الأخ أبو عمار في المطار لينام ليلته في القاهرة ليتوجه بعدها إلى معبر رفح، طلب منا الاستمرار في التحرك من مطار القاهرة في أحد الباصات متوجهين إلى معبر رفح حيث تستغرق الرحلة طوال الليل لنصل المعبر في الصباح.
وفعلا دخلنا المعبر المصري واجتزناه إلى الجانب الإسرائيلي حيث بدأت إجراءات تسجيلنا وتصويرنا للحصول على هويات جديدة وأصبحت وجهاَ لوجه أمام عدوي ولأول مرة، بدأ بتسجيل اسمي وتصويري ثم طلب أسماء أسرتي، الزوجة والأطفال ومكان ولادتي لكي أتمكن من لم شمل أسرتي، وعقب انتهائه مدّ يده ليصافحني مرحبا بي... تلكأت قليلاً، كيف أصافح هذا العدو وانا أنظر في عينيه وابتسامته الصفراء تلسعني.. فجأة ودون سابق إنذار تكاثر الجنود والمجندات وفرضوا طوقا حولنا ومنعونا من التحرك!
ما الذي جرى؟؟!
علمنا عندها أن الأخ أبو عمار دخل المعبر بسيارته دون توقف متوجهاً إلى غزة وكان هذا حسبما علمتُ شرطَه للدخول إلى الوطن.
أعادنا الإسرائيليون إلى معبر رفح لكن المصريين رفضوا إدخالنا داخل المعبر وبقينا عند موقف الباص.. لا نحن في مصر ولا في فلسطين!
بقيت أنا وزملائي طاقم مكتب الرئيس وبحوزتهم أجهزتهم الخاصة بمكتب أبو عمار، مضى اليوم الأول وتلاه يوم آخر وكان يمر بين الفينة والأخرى ضابط الارتباط الفلسطيني بين الجهتين دونما فائدة، وعلمنا منه أن الأخ أبو عمار أدخل معه في سيارته عددا من الأخوة، أصرّ الاسرائيليون على دخولهم دخولاً رسميا وتسجيل أسمائهم كما فعلوا معنا. وبعد مضي أربعة أيام وربما أكثر سمح لنا المصريون بالدخول إلى معبر رفح بعد توسط اللواء فخري شقورة الذي كان وقتها يشرف على دخول القوات القادمة من مصر والسودان واليمن إلى معبر رفح ومن ثم غزة.. ولأول مرة نتناول الطعام ونغتسل لكني فوجئت بالوضع المأساوي الذي تعيشه أسر المقاتلين القادمين من اليمن، ومكّومين داخل المعبر الذي يفتقد إلى أبسط وسائل الراحة بنسائهم وأطفالهم، ومما آلمني أن أرض المعبر تفيض بالماء وامرأة حامل في شهرها الأخير تخاف أن تضع وليدها في هذا المكان الملّوث.. وخارج المعبر بعض القوات في خيم بالية تنتظر الدخول في جو مأساوي كما أفادني اللواء فخري شقورة وطلب مني عند الوصول إلى غزة أخبار الأخ أبو عمار بحاجتهم إلى إبرة خاصة لمعالجة هؤلاء من شر وباء قاتل لا يملكون ثمنها!
سمح لنا بالدخول إلى غزة وأخبرنا ضابط الارتباط الفلسطيني في المعبر من الجانب الاخر الشهيد عبد المعطي السبعاوي بأن هناك سيارات أجرة خارج المعبر يمكنها أن تنقلكم إلى الوجهة التي تريدون إما غزة أو خان يونس أو مدينة رفح؟؟!
كنت وحيدا وكان سبقني طاقم الرئيس.. فركبت إحدى السيارات تلك متوجها إلى فندق فلسطين حيث يقيم الأخ أبو عمار والجميع.
استقبلني الأخوة هناك بالترحاب لكن لا وجود لمكان أنام فيه! أكرمني الأخ حسين حسين.. مصور الأخ أبو عمار وتخلّى عن السرير لي.. ونام هو على الأرض. نسيت أن اذكر أن الأيام الأربعة التي قضيتها عند موقف الباص مع طاقم الأخ أبو عمار كان بحوزتهم بعضا من البسكوت ناولني قسما منها الأخ اللواء حاليا جهاد الغول مرافق الأخ أبو عمار وكان هذا ما نقتات عليه طيلة تلك الفترة!
أخبرت الأخ أبو عمار عن الوضع المأساوي التي تعيشه أسر المقاتلين القادمين من اليمن في المعبر المصري ووضع القوات المتبقية خارج المعبر ولم تدخل بعد، فأمر فوراً بشراء الإبر اللازمة، وطلب من "اللواء المجايدة" سرعه إرسال المال اللازم للواء فخري شقورة وغضب غضباً شديداً، كان ذلك واضحاً مع معالم وجهه رحمه الله لدرجة أنه كان يريد اقتحام المعبر بالقوات الموجودة في غزة!
نظرت حولي فوجدت أن مقر الرئيس هو فندق، تماماً كما كان مقر الرئيس في تونس فندق سلوى ولكن هذا الفندق في غزة واسمه فلسطين! أصابني إحساس متشائم خاصة وأني لم أجد الرغبة في تقبيل أرض الوطن عندما دخلته كما يفعل غيري ربما بسبب هذا الوضع المأساوي الذي قابلني على المعبر ويد الإسرائيلي الممدودة لمصافحتي..
في تلك الفترة عاد إلى أرض الوطن عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير آنذاك ياسر عبد ربه وكان الأخ أبو عمار يعقد جلسات حكومته التي تمّ تشكيلها في تونس داخل الفندق في غزة أو على إحدى شرفات الفندق! إلى أن انتقل في فترة لاحقة إلى المنتدى حيث مقر تلفزيون فلسطين الذي تمّ انشاؤه على عجل ولكن لم يكن يغطي إلا بعض اجزاء من غزة القريبة من المنتدى في تلك الأثناء.
كانت الجماهير دائماً تحتشد خارج الفندق مرحبة بالرئيس ومن معه وكان العائد الذي يعيش أهله في غزة يحتفلون بقدومه احتفالا كبيراً. وفي أحد الأيام قال لي أحد مرافقي الأخ أبو عمار أن من بين الجماهير المحتشدة من يبحثون عني ذهبت إلى البوابة المكتظة بالجماهير، وإذ به الدكتور رشاد مسمار ابن عمي المرحوم الشيخ رامز مسمار يصرخ وينادي كيف تسكن في فندق وبيتنا موجود؟ ماذا تقول الناس عنا؟ هيا بنا إلى البيت. لكنني بصعوبة أقنعته رحمه الله أن الفندق مقر القائد وعمله وسأزوركم في وقت قريب.
وفوجئت عند زيارتي له بإفراد غرفة خاصة بي في بيته-رحمه الله- مكثت ليلتي وأخبرته أنني يجب أن أتواجد في مقر القائد في هذه الأيام الحرجة فوافق على مضض علماً أنني بصعوبة أقنعته ألا يحتفل بي كما فعل أهل كثير من الأخوة العائدين.
كنا نجلس أنا وسيلمان وفا في المنتدى، محاولين أن نجد مكاناً للتوجيه السياسي ولوكالة الأنباء الفلسطينية (وفا). علمت عندها أن الأخ مازن عز الدين قد سبقني إلى غزة وحصل على موقع في السرايا ولكن إمكانياته ضعيفة. حاولت أن أحضر المفوضين السياسيين الجدد الذي تمّ اختيارهم من مختلف الأقاليم وطلبت من الأخ أبو عمار أن نجد لهم مسكناً ومقراً فلم أتمكن، لذلك أرسلت للأخ عثمان أبو غريبة المكلف بالتوجيه السياسي كمفوّض سياسي عام، وأنا نائبه الأول. عدم إرسال أي مفوض سياسي في الوقت الراهن وضرورة حضوره هو شخصياً لأنني بعد شهر من وجودي في غزة لم أستطع أن احصل على مكان أو مقرّ منفصل للتوجيه السياسي. واستأذنت الأخ أبو عمار أن أزور أسرتي في عمان بعد انقطاع دام أكثر من شهرين لأوفر لهم احتياجاتهم وكان الأخ عثمان قد وصل غزة.
قبل مغادرتي غزة إلى عمان حصل أن منع الاسرائيليون عمال غزة من التوجه إلى أعمالهم، فتوجهت جماهير العمال الغاضبة إلى معبر إيرز وقاموا بإحراق الباصات الإسرائيلية الموجودة هناك، فاتّهم الناطق العسكري الإسرائيلي الأخ أبو عمار أنه وراء ذلك، وللرد عليه قرر الأخ أبو عمار تسميتي ناطقاً رسمياً باسم القوات للرد على الناطق الإسرائيلي وقد تمّ ذلك بالفعل، رغم أنه لا يوجد في اتفاق المبادئ هذا المنصب. وبذلك أصبح عملي مزدوجاً: نائب المفوض السياسي العام والناطق الرسمي باسم القوات.
في عمان زرت القائد الراحل الأخ صخر أبو نزار (يحيى حبش)، وكان من المستنكفين بالدخول إلى الوطن وأقنعته ألا أحد حول الرئيس أبو عمار يعتمد عليه من القيادة الفلسطينية وأنه من واجبه أن يساند قائدنا ورمزنا الذي دخل الوطن، لنكون إلى جانبه مهما كان رأينا في اتفاق المبادئ الذي تم في أوسلو. وفعلا تجاوب المرحوم أبو نزار مع مناشدتي له ومناشدة آخرين غيري. في هذه الأثناء تمكن الأخ عثمان أبو غريبة من استئجار مبنى لهيئة التوجيه السياسي والوطني، وهكذا صار اسمها في الوطن، وعند عودتي من إجازتي في الأردن بدأنا مشوارنا الأساسي وإحضار المفوضين السياسيين إلى الوطن وتشكيل الهيئة من عدد من الكوادر المتمرسة في العمل السياسي والتنظيمي. وكان همّ الأخ أبو عمار هو جيل الأشبال والزهرات وطلب منا بناء المعسكرات الصيفية لهذا الجيل وخاصة في غزة حيث تواجدنا أولا. وعندما بدأت مرحلة إعادة الانتشار في باقي محافظات الضفة الغربية كلفني القائد الرمز أبو عمار بالذهاب فورا إلى هناك وتشكيل التوجيه السياسي في تلك المحافظات، ساعدني في ذلك وجود كادرين من كوادر التوجيه هما الشاعر والكاتب شهاب محمد والشاعر، والكاتب ربحي المرقطن، وكانا قد عملا معي في غزة هما والدكتور حسن أحمد في تشكيل إعلام الهيئة في القطاع.
كان العمل مضنياً والإمكانيات شحيحة، ولكنني استطعت بدعم من الأخ عثمان وتشجيع من الأخ القائد أبو عمار واهتمامه أن ننشئ مفوضيات للتوجيه السياسي في كل المحافظات في الضفة وأصرّ الأخ أبو عمار أن نستكمل عملنا الذي بدأناه في غزة بإنشاء المعسكرات الصيفية في أنحاء الضفة للأشبال والزهرات، الذي كان الأخ أبو عمار يعوّل على هذا الجيل ويهتم به اهتماماً بالغاً رافعاً شعار: سيأتي اليوم الذي يرفع فيه شبل فلسطيني أو زهرة فلسطينية علم فلسطين فوق أسوار القدس ومآذن القدس وكنائس القدس: "إنهم يرونه بعيدا ونراه قريباً وإنا الصادقون".
كم كان عظيما أن يلتحق الأشبال والزهرات في المعسكرات الصيفية، عقب انتهاء دراستهم وكان القرار الرئاسي أن أكون مشرفاً عاماً على هذه المعسكرات في مختلف محافظات الضفة، وكان الاحتلال يراقب عملنا عن كثب خاصة وأن الأشبال والزهرات أصروا على لبس الكاكي تأسياً بالمقاتل والفدائي الفلسطيني الذي كانوا يسمعون عنه، وأرادوا أن يقلّدوه ويتعلموا على السلاح الذي كان يقاوم به المحتلين وهو الكلاشنكوف.
اعتمدنا في هذه المعسكرات على المحاضرات المختلفة خاصة تاريخ القضية الفلسطينية وتاريخ الثورة الفلسطينية وقياداتها. هذا التاريخ الذي كان مغيباً عن جيل شعبنا بعد الاحتلال. هذه الأمور كلها أثارت حفيظة الاحتلال وشنّت حملة عالمية ضدنا مدعية أننا ندرّب الأطفال على السلاح، وطالب رئيس الكنيست في ذلك الوقت (رفلين) إغلاق هذه المعسكرات، وأرسل رئيس وزراء الكيان نتنياهو مذكرة إلى هيئة الأمم المتحدة متهماً إيانا وكثيراً من القادة السياسيين والإعلاميين في السلطة الوطنية بأننا (لا ساميون).
أثناء عملنا في غزة والضفة أنشانا أيضاً إعلاماً من خلال مجلتين الأولى "الساحل" وكانت تصدر في غزة قبل دخولنا الوطن، والثانية "وطني"، وهي استمرار للمجلة التي كانت تصدر في الخارج، وجريدة أسبوعية ثم يومية كانت تصدر في أريحا. وعقب عودة كادر مجلة " فلسطين الثورة" من قبرص إلى الوطن استطاع التوجيه السياسي أن يستفيد من خبرتهم الإعلامية وأنشأنا جريدة أسبوعية باسم " فلسطين اليوم"، ورئيس تحريرها الإعلامي القدير حسن البطل وكان مدير التحرير فيها الإعلامي القدير عبد الله عواد، الذي عمل في عدد من الصحف الفلسطينية التي كانت تصدر في الوطن قبل دخولنا وكنت المشرف عليها.
توسعنا في إنشاء المعسكرات الصيفية بأن استطعنا أن نضيف لها معسكرا شتويا في أريحا، كنا نستفيد من وجود قيادات الثورة بيننا ليقدموا شرحا مستفيضا عن القضية الفلسطينية والثورات الفلسطينية المتعاقبة وتاريخ نضال شعبنا المستمر منذ أكثر من مائة عام، أخصّ من هذه القيادة الراحل هاني الحسن الذي كان قد سبقنا في قيادة التوجيه السياسي أثناء وجودنا خارج الوطن.
دعوني أرجع بكم قليلاً إلى غزة لأذكر لكم هذه الحادثة...
ففي بداية وصولنا إلى غزة وفي شهر رمضان المبارك كنت أواظب يومياً على الصلاة في مسجد " الكنز"، خاصة صلاة الفجر وهو مسجد قريب من شقة الضيافة التي أسكن فيها بصحبة المناضل غسان كمال أحد العاملين في سكرتارية الرئيس أبو عمار والمناضل نبيل أبو ردينة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح حالياً، واللواء غازي مهّنا السكرتير العسكري للقائد العام، والمعلوم أن جميع المساجد في القطاع كانت تحت السيطرة الكاملة للإخوان المسلمين أي "حماس".
عقب صلاة فجر أحد أيام رمضان المبارك تقدم أحدهم ليعطي موعظة دينية كما هو معمول به في كثير من المساجد، كنت في كامل لباسي العسكري وواضح أنني من "العائدين" كما كانوا يسموننا، وإذ بالموعظة في غالبيتها تتحدث عن (القادمين الجدد) الذين يمثلّون جيش لحد... وتعبير القادمين الجدد هو تعبير احتلالي لليهود الذين يلتحقون بدولة الكيان الغاصب، وجيش لحد هو جيش العملاء اللبنانيين التابعين لجيش الاحتلال. رغم أن عيني بعينه إلا أن (الواعظ) استمر في موعظته الخرقاء، قلت في نفسي ربما هي كلمة عابرة، لكنني في اليوم التالي واجهت نفس الشخص ونفس الكلام التحريضي ضد (العائدين)، مما يعني استحلال دمنا باعتبارنا خونة! كان هذا التحريض المبكّر قبل أي إشكال أو تصادم مع حماس، الذي كان الأخ أبو عمار يحرص على تمتين العلاقة مع قياداتها وخاصة الشهيد الشيخ أحمد ياسين والشهيد عبد العزيز الرنتيسي رحمهم الله جميعاً.
إلى أن جاء يوم كان التحريض قد بلغ ما بلغ، فخرجت جماهير حماس تهتف ضد العائدين وتقدمت نحو السرايا مقر القيادة الفلسطينية وتهجمت على القوات الموجودة داخلها وهدمت السور الشائك الذي كان يحيط بها، وكانت التعليمات عدم التعرض لهم بالرغم من بعض الإصابات التي طالت عدداً من الضباط المقاتلين الذين قاتلوا دفاعا عن الثورة، ودفاعا عن القضية الفلسطينية في مختلف الساحات ودفاعا عن الشعب الفلسطيني لدرجة أن أحد الضباط الذين حملوا بعض الجرحى إلى مستشفى الشفاء تعرض للضرب من أحدهم، بسبب هذه التعبئة الحاقدة، وقال لنا والدموع تملأ عينيه لم أكن أتوقع أن أضرب من أحد افراد شعبي الذي كنت وما زلت مستعدا للشهادة من أجله والدفاع عنه.
استمرت التظاهرات الحمساوية تجوب الشوارع في غزة والغريب أنها توجهت إلى مبنى سينما السامر، وهي سينما مغلقة منذ زمن وبدأوا بتكسير كل شيء داخلها وحمل كل ما يستطيعون حمله من أبواب وشبابيك وكراسي وغيرها باعتبارها " غنيمة"!
استمر الوضع على هذه الحال ثلاثة أيام والقائد الرمز أبو عمار يرفض أن يحرك القوات، ليس لقمع المتظاهرين ولكن لإيقاف هذا الدمار خوفاً من أن يقال الثورة تأكل شعبها، لكنه اقتنع في اليوم الثالث أن تنزل قوات محمولة إلى الشوارع دون التعرض للمتظاهرين.
تدخّل أصحاب الضمائر الحية في شعبنا وخاصة أهلنا في المحتل من فلسطين 1948، لكن التعبئة الحاقدة استمرت والعمليات الانتحارية تواصلت من أجل إفشال أوسلو لدرجة أن رئيس وزراء إسرائيل في تلك الفترة أوقف عملية انتشار القوات التي كان من المقرر أن تبدأ لتسلّم مهامها في محافظات الضفة الغربية معلنا أن لا مواعيد مقدسة. واستمر هذا الحقد إلى أن قامت حماس في العام 2007 م بانقلابها الشهير واستولت على الحكم في غزة وداست العلم الفلسطيني وصور القائد الشهيد الرمز أبو عمار، وقتلت ما قتلت من شعبنا الفلسطيني وأفراد الأمن الوطني الذين لا ذنب لهم من قريب أو بعيد في مأساة لم تعهدها القضية الفلسطينية، حتى أن الكثيرين أطلقوا عليها نكبة جديدة للفلسطينيين بعد نكبة العام 1948، التي تسببت بها العصابات الصهيونية ضد جماهير شعبنا الفلسطيني.
· أول حوار مع حماس في عمان:
في بداية التسعينات وعندما كنت مسؤولا للإعلام الفلسطيني في الأردن، اتصل بي المرحوم غسان كمال (أبو فراس) سكرتير الرئيس الرمز أبو عمار، قائلا بأن الرئيس يريد أن يكلّمك وكنت يومها في البيت، قال الأخ أبو عمار رحمه الله، أريدك أن تتصل بالمهندس ليث شبيلات لمساعدتك في وقف الدم الذي يسيل في غزة حيث أن أتباع حماس في الجامعة الإسلامية يستعملون السيوف والجنازير ضد شباب فتح في الجامعة، والمعروف أن الجامعة الإسلامية وجامعة الأزهر متلاصقتان، وكان الأخ أبو عمار قد أعطى جزءا من أرض الأزهر للإخوان كي ينشئوا جامعتهم الإسلامية.
يبدو أن الأخ أبو عمار كان يعتقد أن المهندس ليث شبيلات على صلة وثيقة بالإخوان المسلمين في عمان، وفعلا اتصلت بالمهندس ليث شبيلات فأخبرني أنه على عكس ما يعتقد أبو عمار حيث أنهم لن يقبلوه محكّما، ماذا أفعل؟ اتصلت بصديقي الشيخ عبد المنعم أبو زنط وزميلي في مدينة البعوث الإسلامية التي تتبع جامعة الأزهر الشريف في القاهرة حيث كنت أسكن وإياه في نفس العمارة وفوجئت من كلامه أن علاقته بقيادة الإخوان في عمان وقيادة حماس في الأردن تشوبها بعض الشوائب!!
فنصحني بالاتصال بالشيخ برجس الحديد (أبو نضال) شيخ الإصلاح البارز في الأردن، وبالفعل بلغت الشيخ برجس تحيات الأخ أبو عمار وأخبرته نيتنا وقف الدم الذي يسيل في غزة، تشجع الرجل وقال أبشر سأتصل بك بعد الاتصال بقيادة الإخوان في عمان، وكنت أخبرته أن الأخ أبو عمار قرر تشكيل وفد من حركة فتح برئاسة الأخ أبو أسامة محمد وعضويتي والأخ غازي الحسيني، وثلاثتنا كنا أعضاء في المجلس الثوري لحركة فتح المقيمين في عمان.
وطلب منيّ المرحوم الشيخ عبد المنعم أبو زنط أن أخبر الشيخ برجس الحديد برغبته أن يكون موجودا ضمن الوفد الإخواني للمشاركة في إصلاح ذات البين.
وبالفعل اتصل بي الشيخ أبو نضال وأخبرني أنه سيكون في الموعد المحدد الذي اتفق فيه مع الإخوان في مقرهم الكائن قرب المستشفى الإسلامي وأنه سيحضر معه اثنين أيضا، أحدهما كان وزيرا سابقا في الحكومة الأردنية وهو من آل الحديد والثاني رجل إصلاح وعسكري سابق من آل الغبين، علمت أنه شارك في معركة الكرامة الخالدة في العام 1968م.
تفاءلت خيراً.. والتقينا في الموعد المحدد نحن كوفد فتح ووفد الشيخ برجس لكن لم نجد أحدا في استقبالنا، فتوجهت لمكتب المرحوم الشيخ عبد المنعم أبو زنط، واتضح لنا أنه لا يعلم شيئا ولم يخبروه ليكون ضمن وفدهم.
اتضح بعد قليل أنهم كانوا مجتمعين في غرفة مغلقة دون مشاركة الشيخ أبو زنط.
بعد السلام.. توجهنا إلى غرفة من غرف المبنى وإذا بفريقهم يتعدى عدده الخمسة عشر فردا وعلى رأسهم المرشد العام للإخوان في الأردن المرحوم الشيخ عبد الرحمن خليفة، بالإضافة إلى الناطق الرسمي باسم حماس المقيم في الأردن المهندس إبراهيم غوشة، وعدد من قيادات الإخوان منهم المرحوم زياد أبو غنيمة وآخرين من حماس وانضم إليهم الشيخ أبو زنط ولكن على مضض منهم كما لاحظت! حيث لم يعطوه أية فرصة لمداخلة منه في هذا المجال.
تحدث الشيخ برجس حديث الوطني الغيور وحديث الأخوة كذلك الشيخ الغبين الذي أبدى ضرورة التلاحم والوحدة في مواجهة عدو يتربص بنا جميعا.
من جانبنا.. تحدث الأخ أبو أسامة محمد بكلام أخوي هادئ وعرف بوفدنا، وهنا التفت اليّ المرحوم عبد الرحمن خليفة متسائلا ماذا يكون لي جميل مسمار وكان أحد كبار موظفي المساحة في الأردن وخدم في عدة وزارات ومسح جميع أراضي الأردن وفلسطين وحتى الحدود اللبنانية..
تفاءلت خيرا بمعرفته بوالدي.. وقلت في نفسي هذا مدخل حسن لإنهاء المشكلة.. ولكني فوجئت أثناء النقاش بانحيازه الكامل إلى جانب حماس ويبدو أن تفاؤلي لم يكن في موضعه!
تحدث المهندس إبراهيم غوشة ولكنه للأسف كان يصبّ الزيت على النار، وارتفع صوته وشكك في وفدنا أننا بلا صلاحيات وهاجم الأخ أبو عمار وكأن بينهما ثأر! فاضطررت لرفع صوتي أيضا وأننا هنا ليس من ضعف ونستطيع ردّ الصاع صاعين!
تدخل الشيخ برجس والشيخ الغبين لتهدئة الوضع واتفقنا على إصدار بيان مشترك لإنهاء سفك الدم في غزة.
بعد أيام أقيم حفل عشاء في مقر الإخوان المسلمين كعربون صلح وصداقة حضره العديد من الشخصيات الاعتبارية والحزبية في الاردن.
وأرسلتُ تفاصيل ما جرى في تقرير إلى قائدنا الرمز الراحل أبو عمار، حيث أثنى على مجهوداتنا كوفد فتحاوي مكون من ثلاثة أفراد مقابل وفد إخواني كبير، بعد أن وصلته أنباء مغلوطة عن اجتماعنا كان قد عنّفنا بسببها قبل أن يعرف التفاصيل!
علمتُ فيما بعد أن اللقاءات استمرت بين فتح وحماس في الأردن من خلال الأخ عباس زكي من طرفنا وعضو قيادة حماس في الأردن محمد نزال.
وما زلنا حتى الآن ومنذ التسعينات "مكانك راوح" بعد الانقلاب الدموي الذي قامت به حماس في غزة في العام 2007!
أعود إلى محافظات الضفة التي تمّ تسميتها بالمحافظات الشمالية وتسمية القطاع بالمحافظات الجنوبية، فالمحتل الصهيوني لم تعجبه أعمالنا في هيئة التوجيه السياسي والوطني خاصة وأن عملنا لم يقتصر على القوات، بل أيضا تواصل في المدارس والجامعات وبين جماهيرنا الفلسطينية. أخذت قيادات "اسرائيل" بالتحريض ضد التوجيه السياسي وضد القيادة الفلسطينية والإعلام الفلسطيني وللأسف نجحت في تحجيم عملنا في التوجيه السياسي بعد أن احتلت مدن الضفة وخاصة رام الله، مقر القيادة الفلسطينية وحاصرت مقر الرئيس أبو عمار في المقاطعة وذلك في العام 2002م، وكانت قبلها قصفت مقر القائد الشهيد أبو علي مصطفى أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى" التي قدمت قوات الأمن الوطني عدداً من كوادرها شهداء برصاص قوات الاحتلال، والتي اندلعت عقب اقتحام المجرم شارون ساحات المسجد الاقصى وقصفت مقر هيئة الإذاعة والتلفزيون في البيرة ومنطقة الإرسال في رام الله لإسكات الصوت الفلسطيني الحر.
وفي أول دخول للقوات الاسرائيلية إلى رام الله بقصد إعادة احتلالها، كنت أسكن في مبنى يشرف على مخيم الأمعري، وكان هدف القوات المحتلة محاولة السيطرة على المخيمات فهي تعرف أن مخيمات اللاجئين هي دائماً مصدر إزعاج لهذه القوات.. وإذ بدباباتهم تتجّه نحو الساحة الترابية التي تواجه العمارة التي أسكنها وكان واضحاً أن هذا المبنى هو هدفها، وفعلا رأيت الدبابات وهي تزحف ببطء شديد كالتماسيح التي تقترب من فريستها رويداً رويداً خوفاً من انتباه فريستها التي إما أن تهرب وإما أن تقتل هذا التمساح. بدأت القوات الغازية تدخل العمارة بكل حذر والرعب يملأ وجوه جنودها وأخذت تفجر أبواب الشقق الفارغة. فتحتُ باب شقتي قبل أن ينسفوه وأنا داخلها وحيداً، فوجئوا بي وبلمح البصر صوبوا أسلحتهم في وجهي وحمدت الله أنهم لم يطلقوا الرصاص بالرغم من الرعب الذي بدا على وجوهم من هول المفاجأة غير المتوقعة من قبلهم.
دخلوا بيتي الذي كنت قد جهّزته وفرشته لإحضار أسرتي من عمان، وعاثوا به فساداً وقلبوا كل شيء. وأسلحتهم موجهة إلى صدري وأنا الأعزل من السلاح. اكتشفوا ملابسي العسكرية وعرفوا سيارتي الرسمية بسبب رقمها الأحمر وبحثوا عن سلاحي الذي أصروا أنه بحوزتي، لكنهم لم يجدوه وصادروا ملابسي العسكرية وكل كتبي وأوراقي بعد أن أجبتهم أن سلاحي هو هذا القلم الذي أكتب فيه.
طلبوا مني الخروج من الشقة، هنا اعتقدت أنهم سيعتقلونني أردت أن أغير ملابسي استعداداً لذلك لكنهم رفضوا خاصة وانهم في نفس اليوم كانوا قد اعتقلوا زميلي في القوات وفي المجلس الثوري اللواء عبد الحي عبد الواحد في إحدى دباباتهم. طلبوا مني التحرك ببطء وأسلحتهم موجهة إليّ! خرجت من الشقة وإذ بالجنود المحتلين يملؤون درج السلم في هذه العمارة شاكين أسلحتهم وعيونهم تبحلق في هذا الأعزل من السلاح لكن عيونهم كان يملأها الرعب.
وصلت باب العمارة طلب قائدهم مني التوقف دون حراك إلا بتعليماته، فوجئت بحوالي سبع دبابات تقف أمام العمارة ورشاشاتها كلها مصوبة نحوي! والجيران يراقبون ما يجري. هنا أحسست براحة لم أشعر بها منذ ان احتلوا منزلي، بل انتعشت وقلت في نفسي ما هذا الجنون؟! كل هذه الأسلحة والدبابات موجهة ضد فرد واحد أعزل من السلاح؟! ما أعظم الفلسطيني يرهب عدوه وهو فرد لا يلوي على شيء.. نعم أحسست بسكينة لذيذة وأنا أنظر شامخاً إلى هذه الدبابات الرهيبة وكأنها وجنودها وأسلحتها الثقيلة لعب من ورق مقوّى أو زجاج هشّ! متذّكراً قول الله سبحانه وتعالى "فأنزل الله سكينته عليه" التي نزلت في سيدنا أبى بكر الصديق عندما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهما في غار ثور: "يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى أسفل قدمه لرآنا". فقال الرسول الكريم "يا أبا بكر ما بالك في اثنين الله ثالثهما".
ولكن هذا لا يعني بل من المستحيل أن أُقارن نفسي بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن بالسكينة التي اجتاحتني في هذا الموقف.
قلت أوقفني القائد العسكري الإسرائيلي، وقال لا تتحرك إلا بعد أن أطلب منك ذلك، انظر إلى يسارك هل هذه السيارة سيارتك أجبت بالإيجاب، عندها علمت أنهم يريدون فتح السيارة قال تقدم الآن وافتح السيارة حدّثتني نفسي أنه ربما وضعوا فيها شيئاً ما، وكان مفتاح السيارة والريموت كنترول في جيبي فضغطت على زر الريموت فانفتحت السيارة دون أن يحس المحتلون بذلك فاطمأن قلبي، وتقدمت نحوها وكل أسلحتهم مصوبة تجاهي وفتحتها بيدي ثم طلب مني الابتعاد وأخذوا يبحثون ويفتشون داخل السيارة معتقدين بوجود سلاح فيها أو أنها مفخخة وبذلك تنكست أسلحتهم وطلبوا مني العودة إلى المنزل، عندها تيقنت أنهم لا يريدون اعتقالي لكنهم أبقوا على احتلالهم للعمارة كلها خاصة سطح العمارة التي ركزوا فوقها أسلحتهم الرشاشة الثقيلة المصوبة تجاه مخيم الأمعري.
وفي أحد صباحات ذلك الاحتلال استيقظنا على أصوات الناس، وهي تزف نبأ انسحابهم من المنطقة وخلوّ الشوارع من القدم الهمجية.. أخد الناس يتفقدون بعضهم البعض ويحاولون ترميم وتنظيف ما خلفّه الجنود الصهاينة الذين فجروا الكثير من أبواب الشقق الغائب ساكنوها وعاثوا فيها خراباً وفساداً، حتى أن بعض جنودهم كانوا يتغوطون، بكل وقاحة وقذارة، على أرضياتها دون استعمالهم دورات المياه! أو يتركون صنابير المياه مفتوحة لتغرق سجاد الشقق أو الموكيت حتى يفسد ويضطر صاحب الشقة إلى تغييره. وفي هذه الأثناء فوجئت بالمرحوم خالي أبو زياد (كمال مسعود أبو زينة) وزوجته رحمهما الله قادمين من رام الله التحتا ومعهما ما لذّ وطاب من طعام ساخن افتقدته طيلة احتلالهم لشقتي والعمارة التي أسكنها.. وكانت لفتة طيبة من خالي العزيز وزوجته رغم تقدمهما في السنّ، فهكذا هو شعبنا الفلسطيني وقد لمست ذلك أيضاُ من جيراني في العمارة، فتحي الحوراني رحمه الله وأسرته الكريمة وأيضاً من أشقائه الذين استضافوني في منزلهم القريب من منزلي كوني كنت وحيداً في شقتي المحتلة مواساة وحماية لي خاصة ناصر الحوراني وأسرته.
ذهبت لأتفقد مكاتبنا في هيئة التوجيه السياسي والوطني في أم الشرايط التي كانت محتلة من قبل جنود الاحتلال طيلة وجودهم في رام الله والبيرة، لأجد أنهم سرقوا محتويتها من أجهزة كمبيوتر وكاميرات ودمروا كل شيء فيها.. أما مكتبي فكان في الطابق العلوي وهو مشرف على ما حوله لذلك كان مركزاً لمدفع رشاش ثقيل مصوب باتجاه العمارات المقابلة والغريب أنهم، كما شاهدت، أفرغوا رصاص حقدهم على صورة القائد الرمز أبو عمار المعلقة فوق مكتبي، ورصاصتين منهم في عينيه! وفيما بعد رأى العالم كله ما جرى في العام 2007م، عندما قامت حماس بانقلابها في غزة واقتحمت (جحافلها) مقرّ الشهيد أبو عمار وداست أقدامهم الهمجية صورته وحطمتها! أليست مقارنة ساخرة ومأساوية؟! خاصة أنهم أنزلوا العلم الفلسطيني وداسوه بأقدامهم أمام كاميرات العالم! هذا العلم الذي استشهد الكثيرون من شباب وفتية غزة على وجه خاص وهم يرفعونه على أعمدة الكهرباء وفي تحدٍّ لجنود الاحتلال الصهيوني!
عادت قوات الاحتلال مرة أخرى واستباحت كل مدن الضفة الغربية وجرت اشتباكات واسعة في مخيم جنين الذي أطلق عليه الرئيس الراحل أبو عمار "جنين غراد"، على غرار "ستالين غراد" التي قاومت الجيش الألماني زمن هتلر، وتمّ حصار مقر أبو عمار في المقاطعة في رام الله ثم تدمير كل مبنى من مباني المقاطعة واحدا تلو الآخر والعالم يتفرّج! تذكرت عندها حصارنا في بيروت وحصار عاصمة عربية من قبل قوات شارون نفسه الذي يحاصر أبو عمار في المقاطعة، والعالم يتفرج! وبقي أبو عمار صامداً في عرينه معلناً: شهيداً شهيداً شهيداً. إلى أن تمكنّوا منه عن طريق السمّ.
قبل ذلك وقبل استشهاده قرر أبو عمار فرزي للعمل في المجلس الوطني الفلسطيني، كوني عضوا فيه وانتقلت للعمل في عمان لدى أحد قادة حركة فتح المؤسسين عضو اللجنة المركزية ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني الأخ أبو الأديب (سليم الزعنون)، الذي رحبّ بي وسلمني مهام كبيرة كمسؤولية ملف برلمانات الدول الإسلامية في اتحاد مجالس الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، التي تضم مجالس أكثر من خمسين دولة بالإضافة إلى رئاستي للجنة السياسية في المجلس الوطني الفلسطيني.