الكاتب: د. أحمد رفيق عوض
فيما ترى الولايات المتحدة و الاتحاد الاوروبي و اطراف عربية و كثير غيرهم ان اقامة دولة فلسطينية هي ضمانة لامن اسرائيل و استقرارها و انهاء للصراع الطويل و المرير ، الا ان اسرائيل بمختلف تياراتها الان ترى في هذه الدولة تهديدا خطيرا لامنها و مستقبلها ، فهذه الدولة – حسب نتنياهو – على الاقل ستكون قاعدة للارهاب و دفيئة لعدم الاستقرار .
هذا الفرق في الموقف بين اسرائيل و العالم كله تقريبا يعكس الى حد كبير مدى التطرف في المجتمع الاسرائيلي و انفصاله عن الواقع و اختياره اسوأ السيناريوهات ، لان عدم اقامة هذه الدولة سيؤدي الى استمرار دائرة العنف و عدم الاستقرار ، و يبدو ان اسرائيل الحالية تفضل الارض على التسوية و تفضل الاحتلال على التطبيع ، فأسرائيل تريد الان تطبيعا مجانيا لا تدفع فيه او تقدم من اجله اي شيء . ماذا يعني هذا الامر ؟! .
يعني ان اسرائيل تعرف تماما ان لا ضغوط حقيقية تمارس عليها من اجل تسوية مع الشعب الفلسطيني ، فكل المواقف و الاراء هي مجرد تمنيات او نصائح او رفع عتب او مجرد الهاء او خداع او ذر للرماد في العيون .
يعني ان اسرائيل تعرف انها من القوة و التحكم و النفوذ بحيث تستطيع محاصرة او مواجهة كل دولة او هيئة دولية او اقليمية بأدوات علنية و سرية لاسكاتها او احتواء مواقفها .
و يعني ان اسرائيل تعرف انها لا تتصرف وحدها ، و ان الغرب الاستعماري كله يقف معها ولا يمكن لهذا الغرب ان يتركها او يسلمها او يخذلها .
و يعني ان اسرائيل تعرف حقا ان الشعب الفلسطيني يقف وحده الى حد كبير ، و انه ليس هناك من مجال استراتيجي يتكىء عليه و ليس هناك من جبهة قوية موحدة تسانده بالموقف و المال و القوة .
ان رفض اسرائيل اقامة دولة فلسطينية و قبول اسرائيل احتلالها لشعب فلسطيني يعد بالملايين و حرمانه من مستقبله و سيادته و كرامته ، انما تختار ضريبة ذلك بكل ما يحمل هذا الكلام من معنى ، و هذا يعني ضمن امور اخرى ان اسرائيل اختارت المواجهة الدائمة .
المشكلة في هذا المنطق انه يغفل مفاجات الزمن و تغيرات التاريخ ، و انه لا ينتبه الى ان هناك دورات للقوة و موجات للنفوذ و انتقالات للافكار و الاشخاص و المراكز ، فالعالم في حركة دائمة و دائبة ، و اصدقاء اليوم هم اعداء غد و ان ثروات اليوم ستجف و ان المدن المضاءة قد تتغير عليها الطرق و الاموال و صنع القرار .
لا يمكن لاسرائيل ان تبقى كما هي اليوم ، ولا يمكن لاصدقائها و حلفائها و المرتعبين منها ان يبقوا على حالهم ايضا ، و كذلك الشعب الفلسطيني لن يبق على حاله ، كما ان الجمهور الاسرائيلي لن يبق على حاله ايضا .
اقول ذلك لاصل الى نتيجة هي ان العالم ليس غبيا ولا ساذجا عندما ينصح اسرائيل و يحاول عقلنتها و ترشيدها بقبول اقامة دولة فلسطينية ربما تكون كفيلة لضمان الامن و الاستقرار و الهدوء ، لان هذه الفكرة قد تتحول اذا تم رفضها دائما الى مقترح مختلف تماما .
الدولة الفلسطينية المقترحة اليوم قد تكون ناقصة و هشة و فيها غموض هنا او هناك ، و لكنها تظل فكرة تلقى القبول او التاييد بأعتبارها التسوية الممكنة ، رغم الاستيطان و الرفض و الانكار لحقوق الشعب الفلسطيني ، و لكن هذه الفكرة رغم كا ما يعتورها من نقص قد تكون هي اقصى ما يمكن للعالم ان يقدم في ظل هذه الظروف الحالية ، و قد تكون غير ما يريده الشعب الفلسطيني بالتاكيد ، و لكن و رغم كل هذا يعني فأن الجمهور الاسرائيلي و نخبه و حكومته يرفضون حتى طرح الفكرة للنقاش ، هذا يعني ان اسرائيل تريد كتابة تاريخ اخر للمنطقة و اذا لم يبادر اصدقائها و حلفاؤها و من يعتقد انها معجزة الله على ارضه الى كبح جماحها ، فأن هناك ما تجب الخشية منه .
و بغض النظر عن ان هناك من يقول ان التلويح بأقامة الدولة الفلسطينية هو لمجرد شراء الوقت و ادارة الصراع ليس الا ، الا ان اسرائيل ترفض الكلام حتى في هذه الخدعة .. هذا يشير الى عمق التحول الذي اصاب الرؤية و الرأي الاسرائيلي في المزيد من العزلة و المزيد من العنف .