الكاتب: عيسى قراقع
اعتقلت سلطات الاحتلال صديقي خالد الصيفي يوم 19/1/2024 سكان مخيم الدهيشة، مدير مؤسسة ابداع، اعتقل في زمن غزة المذبوحة من الوريد الى الوريد، المهشمة جسدا وروحا وثقافة وتاريخا وذاكرة منذ اكثر من أربعة شهور من القصف والدمار والمجازر وطحن البشر في الرماد والنيران، رأيته عبر شاشة الفيديو وهم يقودونه مكبلا معصوب العينين يجرونه من البيت في ساعات الفجر الأولى، لينضم صديقي الدهيشي الى اكثر من 12 الف اسير فلسطيني يقبعون في سجون ومعسكرات الاحتلال بعد ان تصاعدت حملات الاعتقال الجماعية الواسعة وازدادت شراسة بعد الحرب على غزة، ولينضم صديقي الدهيشي الى المئات من سكان المخيم المعتقلين، حراس المخيم وحاراته وازقته، لا ينامون ولا يهدأون كلما جرى اجتياح المخيم، الموت امامهم والرصاص، في اياديهم الحجارة والشجاعة والإرادة ودعاء الأمهات.
اعتقل صديقي الدهيشي المريض يمرض خطير يسمى الروماتويد، يصيب العظام والمفاصل والاضلاع، تتوقف حركة الجسد، واذا لم يتناول الدواء يصبح كالخشبة، لا يستطيع فتح يديه او رفع ذراعيه او الوقوف، لينضم الى المئات من الاسرى المرضى، المعاقين والمصابين بأمراض مزمنة، والمشلولين والجرحى والمعذبين والمحطمة أجسادهم بسبب قلة العناية الصحية المتعمدة، والمنتظرين الموت في كل لحظة وانفجار القهر في الأجساد المنهكة.
ومن معسكر عصيون الى معسكر عوفر، ما أطول المسافة وما اشد حلكة الليل، حفلات الضرب المبرح، تكسير العظام، الدوس على الأجساد والدعس على الرؤوس، الاهانات والاذلال والشتم والركل والرفس، انت بين حيوانات متوحشة، تعرية الأجساد وتركها في البرد الشديد، الضربات من كل جهة، استمتاع الوحوش ورقصاتهم وبهجتهم بتدمير وتحطيم الأسير المقيد الى درجة القتل واشباع نزعات الشهوات الانتقامية المجرمة.
ومن سجن عوفر الى المحكمة العسكرية، صدر امر اعتقال اداري لمدة ثلاثة شهور، لينضم صديقي الدهيشي الى ما يقارب 4 الاف اسير محكومين إداريا في زمن مفتوح، بلا لائحة اتهام ولا محاكمات عادلة، الى متى؟ حملات الاعتقال الجماعية الواسعة ازدادت شراسة وعنفا بعد الحرب على غزة، اقتحام البيوت وتخريبها وسرقة أموالها، واعتقال الكبير والصغير، الطفل والرجل والمرأة والمريض وكبير السن، وحجز افراد العائلة رهائن، رعب مسلح في كل بيت، عصابات مستنفرة مسعورة وتزداد سعارا مادامت غزة تقاوم، مازالت الضفة المحتلة والقدس صامدة وواقفة، وما زال مخيم الدهيشة يثير الدهشة، وما زال مخيم جنين يقاتل بيد واحدة ويتنفس برئة واجدة ولكنه لا يختنق ولا يموت، وما زال المخيم يستفز تل ابيب ويثير في اوصالها الرعشة.
صديقي الدهيشي:
اخذوك في زمن غزة، الإبادة الجماعية غير المسبوقة في التاريخ الحديث، واحاول ان لا ادخل هذا المشهد المتكرر الذي يتعرض له المعتقلون، مبطوحين عراة على الأرض، ضرب وتعذيب وتنكيل وتكسير، اعدام العشرات من الاسرى، اقتيادهم الى معسكرات مجهولة في غزة، يعودون قتلى او معاقين ومهانين، اسمع شهادات كثيرة عن سلب الاسرى كافة حقوقهم الأساسية، فكيف انت الآن، لا كتاب ولا دواء ولا فرشات ولا بطاطين ولا ملابس ولا شفرات حلاقة ولا راديو ولا تلفاز ولا صحيفة، طعام سيء ومعاملة مهينة، معزول ككل الاسرى عن العالم، لا رسائل ولا صليب احمر ولا زيارات، كيف انت الآن؟ في هذا البرد الشديد وفي تلك الأجواء المخيفة والمرعبة، لكنك الدهيشي القوي الذي يحمل هذا الاسم المكهرب، الدهيشي الذي ولد قسرا على غير إرادة، حبله السري لا يزال مربوطا في مكان الولادة.
صديقي الدهيشي:
الاحتلال الصهيوني حول العالم الى مشهد عنيف، وهذا العالم يتأمرك، وغزة تصيح وتنادي ولا تسمع غير خيبة الصدى، وحدنا في الموت، وحدنا تحت المنازل المدمرة، وحدنا الجثث المتحركة من مكان الى مكان، لا ملجأ ولا غذاء ولا دواء ولا وقود، السماء انطبقت على الأرض فوقنا، ننام في القبور، نموت احياء، نأكل الاعلاف والاعشاب ،لا حليب، نرضع أطفالنا بالماء، حتى نكاد نشك ان القوانين الدولية والاتفاقيات والقرارات التي تحاول حماية المدنيين في النزاعات المسلحة هي صناعة صهيونية لتضليل العالم، ولبناء مقاعد في تلك الهيئات للعجزة والضعفاء، الفلسطيني هو الضحية التي صادقت على ابادتها كل عواصم العالم، ولم ارَ يا صديقي توحد تلك الوحوش كما توحدت على جسد الفلسطيني.
صديقي الدهيشي:
جبهة أخرى تشنها حكومة الاحتلال في الضفة الغربية والقدس، خذ عناوين الاخبار، لا يزال حاجز الكونتينر مغلق، عزل المدن والقرى عن بعضها، مداهمات يومية واعتقالات وقتل واعدامات، استيطان وتهجير واعتداءات المستوطنين الذين سلحهم ابن غفير بكل أنواع الأسلحة، المواجهات في الضفة المحتلة لا زالت تدور حول غزة رغم ان جسدها يمزقه الرصاص يوميا، فلا تحزن، لانك لا تخاف من وقت السجن ولا من ساعة الموت، انت الدهيشي الذي يمثل صلابة الحلم الخارقة، لا ترتخي يدك الموجوعة فعلى هذه الأرض المجبولة بالجريمة ما يستحق التضحية، مخيم طولكرم يقول لك: لا تأذن للحزن والاسى ان ينال منك، ومخيم النازحين في رفح يقول لك: لن نرحل، نحن هنا، فلسطينيون حتى الموت ولا نملك خيار آخر، ليس لنا موقع اخير، انه ينبثق من كل ارواحنا، نبحث عن الحياة وعن الموت على ارضنا فقط.
صديقي الدهيشي:
اخرج من الزنزانة، فأنت على موعد مع لقاء الأربعاء الثقافي، أيها المحب للقهوة والسجائر ولعبة كرة السلة، أيها المربي للموسيقيين والفنانين وفرق الدبكة، اخرج من الزنزانة، لترى كيف عود الكينيا الذي يرفع الخيمة تحول الى شجرة، ولترى كيف ان حبة التمر في التراب كبرت وصارت نخلة، ولترى نقاشاتك المندفعة عن علم الفلك والنجوم والنظرية النسبية ومجموعتك الشمسية المتخيلة، الان قد صنعت زمنا آخر في فلسطين قلبت الحسابات والنظريات والمعادلة، اسقطت الأقنعة والمعايير المزدوجة، ولا أحد يا صديقي بعد الآن يستطيع ان يفكك الوطن والجسد والصوت، ولا احد يستطيع ان لا يصغي الى الاشتباك والالتحام بين غزة والقدس وسائر عواصم العالم، المسافة بين مخيم جنين ومخيم خانيونس على مسمع دقات القلب.
صديقي الدهيشي:
لا زال علم فلسطين يرفرف عاليا على رصيف المخيم، فوق السارية، وما زال أبناء ناجي العلي يقفون على خط المعركة والمواجهة، ولازال سكان المخيم يضعون أسماء قراهم المهجرة عناوينا لحوانيتهم ومحلاتهم وقاعاتهم، ومازالت الحارات تحمل أسماء تلك القرى المنكوبة، لازال اصدقاؤك يؤسسون لجمهورية الجمال والثورة والحرية، ولا تقلق على الفنانة الفلسطينية دلال أبو آمنة التي اعتقلوها لانها أحيت حفلات الزفة والدلعونا في شوارع وازقة المخيم، ولا تقلق على الهجوم والمؤامرة على وكالة غوث اللاجئين لشطبها واستبدالها كعنوان لحق اللاجئين المقدس في العودة الى بيوتهم وقراهم التي طردوا منها عام النكبة، فلن يذوب الفلسطيني في النسيان، وتأكد يا صديقي ان الحرب الدموية على غزة ستنتج الاف القنابل البشرية للأجيال الفلسطينية الغاضبة.
صديقي الدهيشي:
بيت لحم تفتقدك، مطر واجراس ورصاص، المغارة صامتة، المسيح ينزع مسامير الصلب عن اجسادنا ويحولها الى هوية وبشارة وحجارة، شهر رمضان قادم، الشعب الفلسطيني صائم، لن ننظم مسابقة القرى المهجرة ككل عام في هذا الشهر المبارك، الموت يلاحقنا ومواعيدنا مبعثرة، الخبز مغموس بالدم والفاجعة، وعشرات العائلات المبادة لن تجتمع على مائدة واحدة.
صديقي الدهيشي:
عثروا أخيرا على الطفلة هند رجب وعلى طاقم الإسعاف مقتولين بعد 12 يوما من النداء الصارخ وطلب النجدة، جثة طفلة هدية الى الأمم المتحدة ومؤسساتها الدولية، جثة هند هي اختطاف وطن وطفولة، ولا تقلق يا صديقي لان قوات الاحتلال تواصل هدم المنازل في قريتك الولجة، وتحاول زيتونة البدوي التاريخية ان تصمد وتتصدى وتحافظ على جلدة روحها ورقة وزيتا، وتتزين بدماء اجدادنا الطاهرة.
صديقي الدهيشي:
الجميع يسلم عليك، ولازلنا نتابع الكارثة الإنسانية والمحرقة في غزة، نتابع اسرانا المعذبين في معسكرات غوانتنامو و اوشفيتز الصهيونيين، نعيش في فراغ الشظايا والقنابل واقبية التحقيق، ويبدو اننا التزمنا بالحياة المنظمة وبالموت المنظم، وبعد كل مذبحة ومذبحة نترك في الفضاء وفي النفوس احلاما جديدة لقصائد جديدة، فلا احد يا صديقي يستطيع ان يدفن الحقوق مع أصحاب الحق مهما انهال عليها من الركام، ويبقى الامر المؤكد ان السجن والموت لا يستطيعان احتجاز قلب الوطن الذي ينتظر عودتك ساعة بساعة، وان كنا نتعايش مع اليومي المأساوي الذي يصعب التعايش معه، فمازلنا نبحث عن الحياة في الحرية، نستعيد قوانا الحية وننهض خطوة خطوة ونهتف للقدس وعكا والجليل وغزة.