الكاتب: د. جمال زحالقة
بعد مضي أقل من 36 ساعة من إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن في السابع من مارس/آذار الحالي، عن مشروع إقامة ميناء عائم مؤقت على شاطئ شمال غزة، لاستقبال شحنات الإغاثة الإنسانية، أصدرت قيادة المنطقة الوسطى للجيش الأمريكي (المسؤولة عن الشرق الأوسط) بيانا جاء فيه، أنّ كبرى سفن الدعم اللوجيستي الأمريكية، «فرانك أس. بيسون جونيور»، انطلقت من قاعدة القوى البحرية والجوية في ولاية فرجينيا، وعلى متنها طواقم فنيين ومهندسين وكميات كبيرة من المعدات والتجهيزات لإقامة الرصيف الذي أمر الرئيس بايدن بإنشائه.
ورحبت قيادات الدولة الصهيونية بالخطوة الأمريكية، مع التلميح بأنّها أصلا فكرة إسرائيلية. ومن شدّة حماسه سارع وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، إلى ركوب باخرة حربية مبحرة قبالة شاطئ غزة مصرّحا بأنه جاء للاطلاع عن كثب على سير المشروع (الذي لم يبدأ أصلا)، مضيفا أن إقامة الرصيف سوف «تسرّع من تقويض سلطة حماس»، وموضحا بأنّه سيجري توزيع المعونات مباشرة إلى السكّان بمرافقة أمنية إسرائيلية في كل المراحل. وتسابق المسؤولون والمحللون الإسرائيليون في طرح أفكار ومقترحات حول كيفية استغلال الرصيف الجديد لصالح مشاريع الاحتلال واستثماره لتمديد وتوسيع وتعميق الحرب العدوانية على غزة.
الدولة الصهيونية تشن حرب إبادة ودمار شامل ولم تبق في غزة شيئا من ضروريات العيش بحده الأدنى، أكان طعاما، شرابا، وقودا، مساكن، مدارس، مستشفيات، أدوية، جامعات، شوارع، صرفا صحيا، تنقّل، وغيرها. وهكذا أصبح أهالي قطاع غزة بأمس الحاجة إلى المساعدات الإنسانية، ولكل ما يلزم حياة البشر، ولا يمكن بالطبع رفض معونة تساعد الناس على مواصلة الحياة، وتحمّل المعاناة، ولكن وفي الوقت نفسه وجب الحذر مما يصدر عن الولايات المتحدة وإسرائيل، والتدقيق بما تقومان به لإفشال مآربهما المكشوفة ومؤامراتهما المستترة ضد الشعب الفلسطيني. ولعل المعادلة الأنسب في هذه الحال هي التعاون إلى أبعد حد، مع كل ما من شأنه توفير الإغاثة الإنسانية والتصدّي بكل حزم لمحاولات تحقيق أهداف الحرب الإجرامية، القريبة منها والبعيدة.
الأهداف الأمريكية
حين يطرح الرئيس الأمريكي، جو بايدن، مشروعا للمساعدات الإنسانية في غزة، فهو لا يأتي بأيد نظيفة، فقد ساهمت إدارته بشكل فعّال في حرب غزّة وكانت شريكة مباشرة في خلق الكارثة الإنسانية، التي تدّعي أنها تريد التخفيف من هولها. وجاءت مبادرة الرئيس الأمريكي بعد أن دخلت الحرب شهرها السادس، والمشروع الجديد بحاجة لشهرين كاملين للانتهاء من إعداده والشروع باستقبال سفن المعونات من خلاله. وبرز خلال الحرب، كم هو سريع في تزويد جيش الاحتلال بقذائف القتل والدمار، وكم هو بطيء في توفير المعونة الإنسانية للضحايا.
لا أحد عنده ذرة من الموضوعية يظن أن دوافع بايدن وإدارته هي إنسانية محضة، فالمسألة أولا وقبل أي شيء مصلحة داخلية وخارجية، ولو أراد فعلا إنقاذ أهالي غزة من محنتهم، لقام بالضغط على إسرائيل لوقف حربها الإجرامية ولفتح المعابر لمرور المساعدات الإنسانية. لدى الإدارة الأمريكية أدوات فعّالة وجدية لكبس إسرائيل وجعلها توقف عدوانها. ولو جمّدت الولايات المتحدة دعمها العسكري بالعتاد والذخائر والمعدات والأسلحة لاضطرت إسرائيل إلى وقف الحرب، أو على الأقل فتح المعابر البرية لدخول مواد الإغاثة، وهذا أنجع بكثير من إنشاء الميناء المؤقّت.
لقد لجأت الإدارة الأمريكية لخيار الرصيف العائم لأنها لا تريد أن تضغط على إسرائيل، وتكتفي بدور تقديم العون الإنساني لضحايا القصف الإسرائيلي بالقذائف الأمريكية. ويطرح بايدن مشروعه للتخفيف من الانتقادات على الساحة الدولية وحتى العربية، على المساندة الأمريكية غير المشروطة للعدوان الإسرائيلي، ويهدف كذلك إلى مساعدة إسرائيل في التهرب من المسؤولية عن كوارث غزة. وتريد الإدارة الأمريكية مخاطبة الشعب الفلسطيني للتأكيد أن المستهدف حركة حماس وليس هو، وهي تسعى كذلك للاستفادة من التمويل الخليجي لمشروع الميناء، للبدء في رسم معالم «اليوم التالي» للحرب من خلال بناء قواعد تعاون إسرائيلي -أمريكي – عربي يرتبط بطرف مدني فلسطيني في غزة لم تعرف هويته بعد، ويجري البحث عنه. ولكن مقصد بايدن الأهم من طرح مشروع الرصيف العائم، هو امتصاص الغضب الداخلي في أوساط واسعة من الناخبين الأمريكيين، الذي من الممكن أن يكلّفه خسارة انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ويجمع المراقبون والمختصون بشأن الانتخابات الرئاسية الأمريكية على أن حجب الصوت العربي في الولايات المتأرجحة، قد يؤدي إلى خسارة جو بايدن، وهذا كابوس مرعب له ولحزبه. ويبدو أن الرئيس الأمريكي ومساعديه يستهترون بالناخبين العرب في الولايات المتحدة، ويعتقدون أن تقديم المساعدات الإنسانية الأمريكية عبر شواطئ غزة يمكن أن يغشي الأعين والقلوب عن القذائف الأمريكية الفتّاكة المتساقطة من سمائها. حسابات بايدن مغلوطة، ومن المتوقع أن ترتفع أكثر الأصوات المطالبة بوقف الحرب ومجازرها اليومية. بايدن يبحث عن مخرج من مأزقه، فجاء بمشروع رصيف الإغاثة العائم، ويجب مواصلة الضغط عليه وحشره في الزاوية، علّه يضطر الى فعل ما لوقف المجزرة. هذا ممكن، إذا تزامن الكبس العربي الداخلي في الولايات الأمريكية مع ضغط عربي خارجي، من الدول العربية، المطالبة بالخروج من حالة «المغلوب على أمره.»
المآرب الإسرائيلية
سارع المسؤولون في الدولة الصهيونية، كعادتهم، إلى البحث عن كيفية الاستفادة من مشروع ميناء غزة العائم لصالح دولتهم وجيشها وحربها. ونشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية تقارير عن مباحثات مكثّفة مع الولايات المتحدة بخصوص تفاصيل المشروع، وقد جرى الاتفاق على أجزاء كثيرة منها وما زال الباقي «قيد البحث». وأوّل وأكثر ما هم إسرائيل هو السيطرة الأمنية والرقابة المباشرة في مراحل شحن وتفريغ وتوزيع الطرود الغذائية كافة. وفق الاتفاق مع واشنطن، تتوسع السيطرة الأمنية الإسرائيلية من فلسطين التاريخية برمتها لتصل إلى قبرص، ويقوم جهاز المخابرات العامة «الشاباك» بإعداد التجهيزات اللازمة لتفتيش الشحنات المعدة للنقل، بسفن المياه الضحلة إلى مرفأ غزة المؤقت، بحيث تقوم البحرية الإسرائيلية بمرافقتها منعا لتحميلها بـ»المهربات «على الطريق. وتتابع القوات الإسرائيلية عن عملية التفريغ والشحن البري والتوزيع على الناس.
وتخطط إسرائيل لتوظيف الميناء العائم لمآربها، لتأخذ منه في مجالات معيّنة ولتأخذ به باتجاهات متعددة، ويمكن تلخيص الأهداف الإسرائيلية من الميناء بما يلي:
أولا: يُحظر على حركة حماس وعلى منظمة غوث اللاجئين «الأونروا» توزيع طرود الإغاثة، ويجري استبدالهما بمنظمة أخرى، لم تعرف هويتها بعد. وهذا يساعد إسرائيل في التخلص من كليهما.
ثانيا: بناء وعي بأن هناك أطرافا أخرى تقدم الإغاثة للمحتاجين، وليس حركة حماس، وتعتقد إسرائيل، كما قال غالانت، بأن هذا يسرّع تقويض حكمها.
ثالثا: تخفيف الضغط الدولي على إسرائيل بشأن المساعدات الإنسانية، وتحميل الولايات جزءا من المسؤولية بهذا المضمار، وكما قال مصدر «رفيع المستوى»، والقصد نتنياهو «ليرَ الأمريكيون، الذين ينتقدون إسرائيل، بأنفسهم كم هي معقدة هذه العملية».
رابعا: إنشاء بديل لمعبر رفح الذي سيغلق حتما عند اجتياح رفح. وبالمجمل ترى إسرائيل أن الميناء الأمريكي العائم يسهّل عليها مواصلة الحرب، لأنه يعفيها من الانتقادات ويمنحها المزيد من الوقت للمضي في حرب الإبادة.
خامسا: الميناء الجديد يفتح بابا للتهجير إلى قبرص ومنها إلى بلاد أخرى.
سادسا: استغلال المعونات الإنسانية لتعميق السيطرة الأمنية، عبر توفير الغلاف الأمني وإقناع الولايات المتحدة بأن وصول المساعدات منوط بالقضاء على حركة حماس. وهناك من يرى فيه مدخلا من البوابة الأمريكية لاحتلال غزة لأمد طويل.
إلى الآن، لا يبرز تناقض جدّي بين المقاصد الأمريكية والمآرب الإسرائيلية، والولايات المتحدة ماضية في مشروعها بتنسيق كامل مع إسرائيل، وتتجاهل المؤسسات والقيادات الفلسطينية، وهي تعتقد بأنها قادرة على فرض الأمر الواقع باستغلال قدراتها اللوجستية والتمويل العربي والاحتلال الإسرائيلي. هنا يبرز مرة أخرى مدى الدمار اللاحق بالشعب الفلسطيني جرّاء غياب عنوان وطني موحّد ومتفق عليه، يسد الطريق على عناوين بديلة يجري الإعداد لها. الحالة الفلسطينية تستصرخ القيادات للتوافق على تشكيل حكومة فعّالة ومقبولة لها مرجعية سياسية وطنية موحدة وشاملة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. هذا العنوان الفلسطيني الموحّد سيكون قادرا على فرض نفسه على الجميع، ولن تستطيع الولايات المتحدة أو غيرها تجاوزه أو الالتفاف عليه.