الكاتب: الصحفية سهير رجوب
يبدو صعباً فهم أهداف الماكينة الإعلامية الإسرائيلية وإدراك أبعادها دون فهم الأهداف القومية العامة، وما يتفرع عنها من أهداف خاصة، وعلاقة أهداف الإعلام الإسرائيلي بأهداف القومية الإسرائيلية وبات من الواضح بشكلٍ جليّ أن الإعلام يخضع تماماً وبشكلٍ مباشر لأجهزة الأمن الإسرائيلية، فهو لا يزال إعلاماً ذا مدلولات أمنية يقع بين العمل الإعلامي وتلك الأهداف.
ولكي نعرف أكثر كيف يوظف الاحتلال ماكينته الإعلامية في صالح أمنه واستقراره المهزوز، لا بدّ من معرفة أولاً أنَّ الحركة الصهيونية بمنظماتها العالمية منذ تأسيسها اهتمت بالإعلام؛ من أجل الترويج للصهيونية والهجرة إلى فلسطين، حيث عمل قادة الحركة الصهيونية على كافة المستويات التي تمكنهم من القيام بوظيفة الدولة، وكان الإعلام أحد أهم هذه المستويات، ولا بدّ أيضاً من معرفة أن 'الإشاعات" سلاح إسرائيلي قديم– جديد، تم استغلاله وما زال لاصطياد الفرص وتحقيق أهدافه التي تتلخص بإشاعة الذعر والخوف مثلما حصل إبان النكبة، لتفتيت وحدة المجتمع، كما حصل إبان انتفاضة الحجارة (1987)، وتشويه صورة قيادات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وزعزعة ثقة المواطن بها حتى لحظتنا هذه.
وبإجماع الباحثين والمؤلفين والكُتاب باتت الماكينة الإعلامية الإسرائيلية من الميادين المرتكزة على بث الاشاعات والحرب النفسية القائمة على الترغيب والإثارة، وغسل الأدمغة، والتلاعب والاستمالة بالعواطف، وبث الفتن لصالح دولة الاحتلال بما يحفظ أمنها واستقرارها من خلال خطط وبرامج دعائية عبر هذه الماكينة التي تعتبر من وجهة نظرهم عامل استقرار لأمنه واستمرار احتلاله، بحيث تقوم هذه الماكينة على مخطط دعائي يشمل الأهداف والأدوات والمراحل، والمنطق الفكري والبراهين والحجج، وخلق نوع من الجدل حوله.
من المعروف أن الإعلام يلعب دوراً كبيراً في انتشار الإشاعات، ويقوم بإعادة تشكيل علاقات الناس مع بعضهم البعض، ويعتبر الإعلام مؤثراً في المجتمع سواء بالسلب أو بالإيجاب، ولكن كون نحن الشعب الفلسطيني خاضع لسيطرة الاحتلال منذ 75 عام، فكانت الإشاعات التي تُطلق من قبل الاحتلال تأثيرات سلبية تعكس على القضية الفلسطينية، ولها تأثيراتها على الأبعاد النفسية والاجتماعية، حيث يستخدم الاحتلال الإسرائيلي وسائله الإعلامية في بث الإشاعات للنيـل مـن نفسية الفرد الفلسطيني، وعقله ومعنوياته، ليبقى جسداً فارغاً من مضمونه النفسي، يحيطه القلـق والخوف، والاكتئاب، والحزن، والرعب من كل جانب، فيبحث عن مكـانٍ ليجـد فيـه الأمـن والاستقرار النفسي، فلم يجد أمامه سوى الفرار من وطنه إلى وطنٍ آخر، وهذا ما تـسعى دولة الاحتلال إلى تحقيقه".
إن انعدام الأخبار وندرتها ليس بكاف لترويج الشائعة، وإنما هناك عوامل وشروط أخرى لابد من وجودها لتهيئ ظروف خلق الشائعة وترويجها، وقد نجح الاحتلال وتفوق في تطبيقها علينا، من ضمنها وأهمها توافر هذان العاملان (الأهمية والغموض)، والمقصود هنا؛ أهمية الموضوع بالنسبة للأفراد المعنيين وغموض الأدلة الخاصة بموضوع الشائعة، وغالباً أيضاً ما نجد الشائعة تحتوي على جزء صغير من الأخبار أو الحقائق وهذا ما تكرر كثيراً خلال عقودٍ مضت حتى هذا اليوم، ولكن عند ترويجها تُحاط بأجزاء خيالية بحيث يصعب فصل الحقيقة عن الخيال، أو يصعب التعرف على الحقيقة من الخيال.
لقد حاول كل من ألبورت وبوستمان عالما النفس بعد دراسة "علم نفس الشائعات" أن يضعا قانوناً أساسياً للشائعة في شكل معادلة جبرية، ووصلا إلى أنه من الممكن وضع معادلة عن شدة الشائعة على النحو التالي:
شدة الشائعة = الأهمية * الغموض
حيث ظهرت دراسة "علم نفس الشائعات"، خصوصاً في أثناء الحرب العالمية الثانية، بعدما لاحظ عالما النفس ألبورت وبوستمان أهمية الشائعة، والشائعة المضادة، في التأثير في معنويات الناس وأفكارهم واتجاهاتهم ومشاعرهم وسلوكهم، فلاحظا أن الشائعات تنتشر أكثر في وقت الأزمات والظروف الضاغطة، أو المثيرة للقلق، كالحوادث والحروب، والمصائب على مختلف أنواعها الاقتصاديّة والعائليّة والاجتماعيّة، ولاحظا أيضاً أنها تنتشر أكثر حين يكون هناك تعتيماً إعلامياً أو غموضاً.
قام ألبورت وبوستمان بعمل الكثير من التجارب عام 1945، ثم كلّلا جهودهما العلمية بوضع كتاب "علم نفس الشائعة" (Psychology of Rumor) ، فوضعا في هذا الكتاب معادلة، على غرار الرياضيّات، مفادها أن انتشار الشائعة يساوى أهمية الموضوع المتصل بالشائعة مضروباً في مدى الغموض حوله:
إمكانيّة الشائعة = موضوع مهم (أو أشخاص مهمّون) X غموض حول الحدث (أو الموضوع أو الأشخاص)
لذلك تصبح الشائعة أكثر انتشاراً كلما كان الموضوع هاماً، من ناحية، وغامضاً من ناحية أخرى، وعلى العكس لو فقد الموضوع أهميته، أو كانت المعلومات حوله واضحة ومحددة أدّى إلى فشل الشائعة،
هذه المعادلة مفيدة جداً لصانعي الشائعات والشائعات المضادة، ومفيدة لمواجهة أثر تلك الشائعات، ويعتمد عليها خبراء الشائعات في العالم.
تجربة الشعب الفلسطيني مع الإشاعات على مدار السبعة عقود:
لا شك أن هناك علاقة تكاملية ما بين نشر الإشاعات وترويجها وقيام دولة الاحتلال، فما قبل قيام (إسرائيل) انشرت شائعة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" عام 1917، وشائعة إسرائيل العظمى عام 1947، وشائعة أن الفلسطينيين لم يهربوا من مذابح إبادة على غرار كفر قاسم ودير ياسين 1948، بل إنهم تركوا أرضهم بناء على أوامر الجيوش العربية التي كانت تنوي إبادة اليهود بعد خروج العرب حيث تكثر انتشار الإشاعات في أوقات الأزمات والحروب والصراع "وينشط مروجوها خلال توقع الخطر وهي أوقات الحروب والكوارث والفوضى، لأن الناس يتوقعون حدوث الشر خلال هذه الأوقات وهذا هو سبب انتشار الشائعة لأن الناس في هذا التوقيت حينما يسمعون أي معلومة يتناقلونها فيما بينهم دون التحقق من صحتها، وكذلك الإشاعات التي أُطلقت إبان الانتفاضة الأولى 1987، وانتفاضة عام 2000 وممارستها للحرب النفسية مع الشعب الفلسطيني على مدار سنوات في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى اليوم.
وتعد الثورة التكنولوجية لوسائل الاتصال وكفاءتها أحد أهم عوامل انتشار الإشاعة لما لها من تأثير قوي ومباشر على الرأي العام و المجتمع على حد سواء؛ الأمر الذي يدخلنا في أزماتٍ لا حصر لها وصعوبة في التعامل مع نتائجها واحتواء ضررها، وهذه الثورة التكنولوجية وما تبعها من إطلاق التطبيقات والتقنيات الجديدة ساهمت وبشكل كبير في انتشار الحرب النفسية عن طريق أسلوب بث ونشر الإشاعات، حيث أنَّ الحرب النفسية الالكترونية هي نشاط اتصالي تمارسه الدول المستعمرة وذات سلطة ضد الدول والجماهير المستضعفة باستخدام تكنولوجيا الاتصال الحديثة من بث فضائي وانترنت بخدماته المتنوعة بهدف التأثير وإثارة الخوف بالجمهور المستهدف.
وبالتأكيد أن لكل شائعة تُطلق هدفها، وهذا الهدف يكون له تأثير نحو الجمهور المستهدف، ويكون بالفعل مُطلق هذه الإشاعات قد حقق مراده ووجد تأثيره في الجمهور، وفي دراسة علمية توصل الباحث سامي الشربيني في دراسته التي أجراها عام 2020 حول العلاقة بين الشائعات الإلكترونية واستقرار الأمن الفكري للشباب وصل لنتيجة أن "الشباب يعاني من ضعف دافع الانتماء للوطن نتيجة التأثر بالإشاعات الإلكترونية، والتي تمثلت في عدم الشعور بالفخر بين لشباب عند الحديث عن إنجازات الوطن، ناهيك عن انتشار الفتنة بين أفراد المجتمع بسبب الأفكار المغلوطة ".
السابع من أكتوبر وحرب الشائعات النفسية
منذ بدء طوفان الأقصى دخل الشعب الفلسطينيّ مرحلة جديدة ودخل في منعطفِ جديد من تاريخ النضال الفلسطينيّ، وترافقت مع هذه الأحداث حرب إعلامية شعواء تستهدف النيل من نفسية المواطن الفلسطيني سواء في غزة هاشم أو الضفة الغربية والداخل الفلسطيني المحتل، وبدأت الشائعات والحرب النفسية الإعلامية تنهمر بغزارةٍ دون توقف، شملت جميعَ وسائلِ التواصل الاجتماعيّ، ومحاولة إهالة التراب على المشهد، وخلق حالة من البلبلة والفوضى، والتشكيك بكل شيء يتعلق بهذه المعركة.
ولابدّ من التأكيد أنه مع حجم الصدمة وحالة الرعب التي تعرض لها الكيان المهزوم نتيجة هذه العملية العسكرية نجد هناك تضاعف بشكل كبير للإشاعات والحرب النفسية التي تضخها الماكينة الإعلامية الإسرائيلية بشكل كبير جداً وتوظفها مع وجود مواقع التواصل الاجتماعي باستخدام معلومات مضللة وصور مزيفة لا صلة لها بالواقع ولا تمت للحقيقة بصلة وتبث الخوف والرعب والقلق وإطلاق التفسيرات والتحليلات الشخصية دون الاستناد للواقع أو حتى دون تريث لفهم أيّ شيء مما يدور، ما يؤدي لشلل تام للعقل والوعي.
ومن الجدير بالذكر أن مثل هذه الأكاذيب والشائعات تصيب وعي الإنسان في مقتل، بسبب تدافعهم ورائها وتصديقها وجهل كبير في خلفيات الأمور، ويبادرون في نشرها عبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وإرسالها لجميع من لديهم من الأهل والأصدقاء دون التأكد من مدى مصداقيتها ومصدرها، ليصبحوا دون قصد منهم إحدَى الأدوات المهمة التي تعوّل عليها إسرائيل.
وكثيراً ما لاحظنا أو نلحظ منذ بدء العملية أثناء تصفحنا لمواقع التواصل الاجتماعي أخباراً لا نعلم مصدرها تسيء لسمعة قياداتٍ فلسطينية، أو اغتيال شخصية مقاومة، أو أسباب غياب أبو عبيدة، أو محاصرة نفقِ هنا أو هناك، أو الترويج لصورٍ مهينة لأناسِ نازحين من هول القصف والدمار بغزة لتوظيفها في الحرب النفسية ونشر الشائعة لإجبار السكان في المناطق الأخرى على النزوح وبث الرعب والهزيمة، أو اقتحام مستشفى الشفاء أو الرنتيسي، ودخول مقر المجلس التشريعي، والأخبار المتعلقة بالحديث عن مفاوضات الهدنة الإنسانية وصفقات لتبادل الأسرى والتلاعب بالأعصاب وغيرها الكثير الكثير، ولم تقف الأمور عند هذا الحدّ بل وصل الأمر لمهاجمة العديد من النشطاء العرب من جنسيات مختلفة عبر التواصل الاجتماعي الفلسطينيين والتشكيك بقداسة القضية الفلسطينية، وممارسة الحرب النفسية على الفلسطينيين، وكذلك إنشاء حسابات وهمية لشخصيات فلسطينية معروفة بالوسط السياسي والاجتماعي وفبركة تصريحات منسوبة لهم، بغية التلاعب بالأعصاب وتحطيم صورة النصر الفلسطيني الذي تحقق في السابع من أكتوبر وكسر معنويات الشعب الفلسطيني.
لذلك لابدَّ من فهم أن كل هذه الشائعات والحرب النفسية التي تجري في إطار هذه المعركة تهدف لعدة أمور لعل أبرزها: نشر حالة من اليأس والإحباط في نفوس العرب والمسلمين، والقضاء على حالة التعاطف والتضامن والدعم المعنوي للفلسطينيين، إثارة الشكوك حول أسباب العملية، وتوقيتها، ومن يقف خلفها، بل والترويج بفكرة حتمية انتصار إسرائيل بالمعركة.
وهذه ليست المرة الأولى التي تخوض فيها “إسرائيل” حرب الكذب وترويج الشائعات عن خصمها بل هي استراتيجية مترسخة في عقيدتها وبنت دولتها الهشة عليها، فلولا وجود الإعلام وتفوقهم على نشر الشائعات والحرب النفسية لما استمر قيام دولة الاحتلال لـ 75 عاماً، ومن هذا المنطلق لزاماً علينا أن نكون أكثر وعياً وحذراً، ويتطلب عدم الانجرار وراء كل الأخبار المتلاحقة والمسارعة، فنحن في حالة عدم الاستقرار ونعيش زلزالاً عنيفاً في المنطقة بعد أحداث السابع من أكتوبر، وفلسطين هي أرض أحداثٍ مستمرة، ومعركة الثبات والصمود حاضرة، لإثبات هويتنا الفلسطينية الكنعانية ودحض رواية الاحتلال ومناهضة شائعاتهم بوعينا، والتريث يجب أن يكون هو سيد الموقف، فالشائعة هو أخطر أنواع الأسلحة الفتاكة على الإطلاق، دعها تقف عندك.