الكاتب:
داود كتّاب
عن العربي الجديد
يتوجه الناخبون في إسرائيل والقدس، الثلاثاء 27 فبراير/ شباط، للمشاركة في انتخابات بلدية كان قد جرى تأجيلها مرّتين، حيث كان المقرّر أن تنتظم في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ولكن "طوفان الأقصى" جرفها، بسبب انشغال الإسرائيليين، بمن فيهم كثيرون من جنود الاحتياط، في حرب الإبادة في غزّة.
وكان الجمهور المقدسي آنذاك مُنخرطاً في نقاشٍ معمّق بشأن المشاركة أو الامتناع، بعد أن قرّرت شخصياتٌ فلسطينية عديدة، غالبيّتها من مناطق الـ 1948 من حاملي الجنسية الإسرائيلية، ومقيمون في القدس منذ عقود، قرار المشاركة.
ورغم المحاولات السابقة، إلا أن تفهما لدى بعض الجهات، قبل أحداث 7 أكتوبر، بشأن أهمية المشاركة في الانتخابات، بعد أن شكّل محامون ومربّون وأطباء من ذوي الاحترام الشعبي قائمة حملت في رئاستها موظفة مقدسية تعمل في وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية، أكّدت، في لقاءات مغلقة وعلنية، مدى التمييز الذي كانت تراه بشكل دائم في الوزارة. وقد طرحت أن دوافعها عربية أصيلة، وأنها تنوي الدخول في بلدية القدس لتصحيح الظلم الكبير الذي يواجهه سكّان المدينة الفلسطينيون.
لم يكن النقاش سهلاً آنذاك، حيث كان موقف مؤيدّي المقاطعة أن ضم القدس الشرقية لإسرائيل وإلغاء أمانة القدس، التي كانت تعمل ما بين عام 1948 ويونيو/ حزيران 1967، لا يزال يعتبر شرعنه قرار إسرائيلي أحادي الجانب عارضته غالبية الدول. فيما كان المؤيدون يقولون إن اتفاقية أوسلو أخرجت، بقرار فلسطيني، القدس الشرقية من المفاوضات، الأمر الذي تتمسّك به إسرائيل بعزل القدس عن باقي الأراضي المحتلة، ومنع أي تواصلٍ ذي مغزى مع القيادة الفلسطينية في رام الله.
عزّزت الحرب على غزّة كفّة معارضي المشاركة في الانتخابات البلدية، حيث زاد الاهتمام العالمي بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ما يعني، كما يقول مقاطعو الانتخابات، أن أيّ مشاركة فعّالة في انتخابات مدينة موحّدة سيُضعف، في حال قيام دولة فلسطينية مستقلة، المطالبة بأن تكون القدس الشرقية المحتلة عاصمةً، أو حتى تحت أي نوع من السيادة الفلسطينية.
وكان الموقف المعارض للمشاركة يقدّم سيناريوهاتٍ عديدةً لما هو مطلوب بديلاً للمشاركة في الانتخابات البلدية، حيث ليس من المنطق أن يدفع أهل القدس ثمن المقاطعة، في وقتٍ يعاني فيه المقدسيون من كونهم أيتاماً سياسيين، لا قيادة لهم فعّالة تضع برامج حقيقية للدفاع عن مصالحهم ودعم صمودهم.
ولكن الكل في مواقع القيادة مستمرٌّ في الغناء للقدس من دون أي عمل يذكر. وفي حين تستمرّ ما تسمّى المرجعيات التي تضع اسم القدس في أوراق عملها كثيرة، فإي حين لسان حال مقدسيين عديدين بسيط: أين المسؤول الذي يوفّر حلولا للأزواج الشباب في وقتٍ أصبح ثمن شراء الشقة يتجاوز 600 ألف دولار، وفي وقتٍ من الصعب إيجاد شقّة للإيجار. وينظر المقدسيون إلى وضعهم بألم، حيث يدفعون بانتظام ضرائب متعدّدة، وأهمها الأرنونا، من أجل ضمان إقامتهم في القدس، في وقتٍ يستمرّ مجلس بلدية ما تُسمّى القدس الموحدة بعضوية 31 عضواً يهودياً، من دون أي فلسطيني، العمل ضد مصلحة سكّان المدينة الفلسطينيين، رغم أن سكّان القدس العرب يقتربون من 40% من سكّان "القدس الموحّدة"، أي أنه لو شاركوا في الانتخابات لكان للمقدسيين العرب الفلسطينيين أكبر مجموعة أعضاء، ما قد يوفّر لهم رئاسة البلدية أو موقع نائب رئيسها؟
أصبح موضوع الخدمات مقلقاً للغاية مع وجود الجدار وغياب أي جهة تتابع ما يجري خلفه من بناء عشوائي قد يعرّض الناس للخطر، وغياب أي متابعة حقيقية للبنية التحتية وجمع القمامة وتوفير الخدمات الأساسية من صحّية وغيرها، فقد تحوّل شارع رام الله القدس في كفر عقب، على سبيل المثال، إلى نهر من مياه الأمطار، بسبب غياب بنية تحتية لتصريف المياه؟
لا يطلب الأشخاص الذين ينوون المشاركة من القيادة الفلسطينية أخذ موقف مؤيد أو معارض، ولا يتوقعون منها هذا. ونتيجة لفتح النقاش بشأن الانتخابات، بدأ بعضهم في القدس يدرس صلاحيات مجلس البلدية، ويعرّج على كيفية تعامل المناضلين في دول تحت الاحتلال والاستعمار (مثلا الجزائر وجنوب أفريقيا) في موضوع انتخابات بلدية؟
جاء النقاش بشأن المشاركة متأخّراً، ومن المؤكّد أن الغالبية العظمى من السكّان والقياديين تنتظر إمكانية نجاح عضو أو عضوين من تغير أي شيء. رئيسة القائمة، المربية سندس الحوت، المرشّحة في قائمة عربية - يهودية مشتركة (أول ستة مرشّحين عرب) تسمّي نفسها "كل سكّانها"، مصرّة على المشاركة في الانتخابات، وتقول في برنامجها الانتخابي إن الهدف من المشاركة هو "أن هناك حاجة ماسّة الى صوت عربي في البلدية". كما تركّز على ضرورة وجود ممثل عربي لمنع هدم المنازل، ولتعزيز توسيع حقوق البناء، وتوفير خدمات لمن يسكن خلف الجدار. اللافت أن الحكومة الإسرائيلية قرّرت عدم وضع صناديق انتخاب في المناطق التابعة للبلدية خلف الجدار لأسبابٍ أمنية، في حين أن سكّان تلك المناطق هم الأكثر تضرّرا في الجانب الخدماتي من باقي سكّان القدس، حيث يقعون في مناطق لا يقدّم فيها أيُّ طرفٍ إسرائيلي أو فلسطيني الخدمات الضرورية لهم.
اللافت أن المحامي وليد أبو تايه، المعروف أكثر من المرشّحة سندس في المجتمع المقدسي، وهو أيضا حامل جنسية إسرائيلية، وكان قد فتح النقاش بقوة في السابق، قد قرّر التراجع عن المشاركة أو ترويج للانتخابات البلدية بعد أحداث غزّة والزيادة المفرطة في التنمّر والتمييز الذي يشهده كل فلسطيني في فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، رغم أن اسمه لا يزال مدرجاً في الموقع الثالث على القائمة نفسها.
بدأ النقاش حول الانتخابات البلدية، ولو متأخّراً، والآن ينتظر بعضهم ما إذا ستُسجَّل سابقة منذ عام 1967 بوصول عضو عربي أو أكثر إلى مجلس القدس البلدي الذي يضم القدس، الشرقية والغربية، "الموحّدة"، والذي جرى توحيده من طرف واحد إسرائيلي ومن دون استشارة سكان القدس الشرقية الفلسطينيين أو موافقتهم.
للموضوع بعد سياسي، ومغزى المشاركة مهمّ، ولكن السؤال المحيّر: كيف يمكن دمج هذا الموقف مع ما هو معروف في النضالات العالمية أن الانتخابات البلدية انتخابات خدمات، فيما للانتخابات العامة طابع سياسي، فقد أصبحنا نقدّر دور إخواننا في الداخل، نواب الكنيست العرب، في حين نرفض مشاركة حتى مواطنين إسرائيليين في القدس من المشاركة في انتخابات بلدية. يقول المهتمون بالمشاركة إن هدفهم خدماتي ولا يوجد لهم أي موقف سياسي سوى التأييد للموقف الرسمي الفلسطيني بضرورة أن تكون القدس عاصمة دولة فلسطين.
في نهاية المطاف، القدس بحاجة إلى شخصيات وطنية ذات مكانة تتحرّك بصورة جريئة، فإذا كان القرار الوطني عدم المشاركة الواسعة، فهناك ضرورة ماسّة لخطّة عملية تدعم الصمود.