الكاتب:
د. شادي الكفارنة
هدمتِ الحرب بيوت الناس فوق رؤوسهم وماتوا في أماكن تواجدهم، ونزحوا قسرًا من مناطقهِم، وهُجروا من أماكن سكنهم، منهم من هُجّر إلى بعض الأقرباء والأصدقاء، ومنهم مَنْ نزح إلى مراكز إيواء (المدارس) وهي غير مجهزة للإيواء البشري، ولا تصلح لذلك الاسم، بل تصلح أن نسميها غابة الجحيم التي تحوي أنواعًا متعددة الأشكال والألوان من المخلوقات، ويسودها قانون الغاب الذي شعرنا بأنه حاضر معنا يحكمنا، إذ إنّ الضعيف يُهان، والقوي يبطش، فإما أن تتنازل على حساب حقوقك، ويؤكل لحمك دون رحمة، أو تكون وحشًا ضالًا تتحدى وتواجه وتظلم، أو أن تكون ضمن خيار آخر خيار يُحكم عليك فيه بالخروج من إيواء الجحيم (المدارس) لتكون على حافة الطريق بلا مأوى، أو خيام عشوائية تتبعثر في الساحات.
إيواء الجحيم! لِمَ؟!
لأنّه إيواء الفوضى التي عشناها في مكان صغير يحوي أعدادًا كبيرة، تسهل فيه الصراعات بين الناس، ومحاولات فرض القوة واستخدام أساليب العنف والتنمر والتمرد والتنكر للآخرين؛ لينجو الشخص مع زمرته فقط، وتتغلب المصلحة للعائلة أو للمنطقة الجغرافية أحيانًا ونكون تحت شعار "فلتحيا زمرتنا ويموت الجميع".
لأنه إيواء الذل في رص الطوابير مرة منظمة وغير منظمة على إدارة المدرسة لاستلام حاجاتهم من معلبات تنكية لا تسمن ولا تغني من جوع - علبة سردين أو لحمة - وغيرها.
لأنه إيواء الفقر والاحتياج الذي يدفع بعض الناس من صناعة شيء ليبيعه مثل: (بليلة، فشار، فسدق) وغيرها ليوفر بعض المال، أو حتى يبيع من بعض مواد التموين الذي يستلمها من إدارة الإيواء ليوفر مواد تموينية أخرى يكون بحاجتها، بالإضافة إلى شح الدقيق(الطحين) الذي أجبر الناس أن يأكلوا حبوبًا لا تصلح لشيء.
لأنه إيواء الصعوبة في صنع الطعام البسيط، تبدأ الصعوبة من العينين ودموعها من دخان نار طهي الطعام يوميًا في أروقة وممرات المدرسة المكتظة بالنازحين وخارجها على رصيف الطرقات، كما صعوبة في التنفس من هذا الدخان المستمر ليل نهار، كما صعوبة المشي في ممرات المدرسة وساحتها وكل فراغ فيها بسبب امتلائها بالخيام الملتصقة ببعضها والصغيرة الضيقة، ومداخلها مثل فتحات حُفر أوكار الضباع من يسكنها يحتاج إلى طبيب معالج من كثر الدخول و الخروج، ناهيك عن ألم الرأس والظهر المنحنيين إلى الأرض أثناء المشي من كثرة أحبال غسيل الملابس الممتدة من فصل لممر، ومن حائط لشباك كشبكة العنكبوت، حيث لا تستطيع المشي من كمية المياه على الأرض المخلوطة بالرمل والطين والممزوجة أحيانًا بمياه الصرف الصحي في الساحات أو على مدخل المدرسة، لتجد كل مَعلم المدرسة أخيرًا قد تغير وأصبح مجموعة من الشوادر والملابس والخيام.
لأنه إيواء انتهاك الخصوصيات من طوابير الحمامات سواء في المدارس أو في بعض المساجد القريبة، ومن يستطيع تأجيل قضاء حاجته ينتظر الليل خلسةً في بعض المناطق المزوية خارج المدرسة.
لأنه إيواء ما قبل الاكتشافات الحديثة للكهرباء المقطوعة، وعدم توفير الماء إلا دقائق معدودة كل يوم أو أيام وربما يزيد عن ذلك، ويضطر النازحون من المشي مسافات بعيدة تصل الكيلومترات بحثًا عن الماء، أو البديل المتوفر من ماء البحر لغسيل الملابس وأواني الطبخ السوداء المحروقة من كثرة النار واستخدامها أكثر من عائلة.
لأنه إيواء الأوبئة والأمراض المنتشرة - الجرب والحصبة والطفح الجلدي والكبد الوبائي والجدري- وظهور الحشرات والقمل وغيرها.
لأنه إيواء الموت الرخيص حيث يموت الواحد منا فيُدفن في المقبرة بحفرة لا تتجاوز السينتمترات تحت سطح الأرض دون مراسم للدفن أو عدد مشيعين أو فتح بيت عزاء، وإن صار بيت عزاء يجلس عدد قليل من الناس على بنوك المدرسة كطلبة المدرسة، ولا تتجاوز مدة التعزية ساعة وربما أقل أو دون عزاء.
لأنه إيواء حزن الأب العاجز عن توفير قوت يومه لأبنائه، والأم الحامل العاجز من وضع جنينها، أو التي ولدت ويصعب عليها إرضاع وليدها، حتى الطفل محروم من أدنى حقوقه المشروعة من اللعب والمأكل والمشرب والملبس دون توفير أدنى مقومات دفء الحياة وفصل الشتاء لهم.
لأنه إيواء المرأة المحرومة من حقوقها كأنثى، حيث تُنتهك خصوصيتها كامرأة وتُهان ولا تشعر بإنسانيتها.
لأنه إيواء القهر والضجر تنام على صراخ الأطفال وصراخ الأمهات في إسكاتهم، وتستيقظ على صراخهم جوعًا وبردًا ومرضًا، وعلى أنين الشيوخ والمكلومين والثكالى والمقطوعين.
لأنه إيواء شبكات الاتصال المقطوعة، التي جعلتنا معزولين عن العالم الخارجي والداخلي، إذ إننا أصبحنا لا نعرف حتى مصير الأهل أو الجيران أو الأصدقاء أو التواصل معهم، فمن يموت لا تعرف خبره إلا بعد أيام وأيام.
لأنه إيواء أرجعنا إلى قرون سابقة، لنجد المواصلات اليوم على عربات الحمير والبغال بدلًا من السيارات التي تعطشت للبترول والغاز.
لأنه إيواء صوت الانفجارات المستمرة على مدار الساعة التي تتحرك بسببها كل أرجاء المدرسة من قوة الانفجارات، فتحرمك النوم وتسرق منك الراحة، كذلك صوت الطائرات التي تزن في عقولنا وتوقفها عن ممارسة أي شيء.
إنّ باب المعاناة في إيواء الجحيم مفتوح على غاربه، كلما يحاول الناس إغلاقه وسده اشتدت المعاناة وتفاقمت الأزمة حتى أصبح الواحد منا فارغًا من كل شيء، وجوه شاخت وشاحت دون موعدها، عيون ذبلتْ يملؤها الحزن وتغرقها الدموع، أشكالنا صارت من أهل قرون عابرة غابرة من الأزمان، اكتئاب نفسي أصابنا في مدرسة الجحيم من الضغط الذي نعيشه والتوترات والاضطرابات النفسية، والخوف وهواجس فقدان الأمل والإحباط المستمر واليأس الدائم والبؤس الذي يسكننا، وحلم إنهاء الحرب والعودة إلى ديارنا حتى وإن كانت ركامًا من أحجار صغيرة مستوية بالأرض.
أخيرًا...
هذا وصفٌ عشناه وما زلنا نعيشه، وليس تعميمًا على كل مراكز الإيواء بل ما شهدناه ولاحظناه بالمعايشة، وكنا جزءاً من هذه الحالة، وإنّ معاناة الحرب أكبر من حجم مراكز الإيواء وتحتاج المزيد من الإمكانات التي يمكن أن توفر بعض الشيء للنازحين، ونُقدر كل من ساهم وساعد في تقديم العون للناس بكل الإمكانات المتوفرة، وتحمل كل هذه المعاناة، وصبّرنا على حالة الفوضى التي لم نعشها من قبل.
رحم الله من مات ومن بقي على قيد الحياة لجولة أخرى من الموت.