الكاتب:
حازم القواسمي
من العادة أن يعلن الناس عن وفاة شخص ما مرة واحدة وكذلك يتم دفن ذلك الشخص الميت مرة واحدة، وليس من العادة أن يعلنوا عن وفاته عدة مرات أو يقوموا بدفنه أكثر من مرة. وإذا طبّقنا ذلك على اتفاق أوسلو الذي قامت منظمة التحرير بتوقيعه مع الإسرائيليين في سبتمبر 1993 لإنشاء السلطة الفلسطينية، فقد أعلن المثقفون الفلسطينيون وحتى كثير من السياسيين الفلسطينيين عن وفاة اتفاق أوسلوعدة مرات في السنوات الأخيرة، وأعلنوا مراراً وتكراراً أنّ إسرائيل قد دفنته من طرف واحد من خلال عدم الالتزام بتطبيق بنود الاتفاق من طرفها وأهمها اقتحامات جيش الاحتلال المتكررة لمناطق" أ " والاغتيالات والاعتقالات ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية. نظرياً، كان من المفروض أن ينتهي اتفاق أوسلو عام 1999، إلا أن إسرائيل أبقته على الطاولة لصالحها وها نحن بعد ثلاثين عاما وما زال الاتفاق الوحيد الذي يحكم علاقة السلطة الفلسطينية بإسرائيل على كافة النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية والشؤون المدنية هو اتفاق أوسلو اللعين. إلا أن إسرائيل تطبّق ما يحلو لها من هذا الاتفاق لأنها الطرف الأقوى وتستطيع أن تفرض فهمها للاتفاق أو ما تبقى من الاتفاق كما يحلو لها بطريقتها العنجهية المعهودة، وللأسف ما زالت السلطة الفلسطينية تقوم بتنفيذ كافة التزاماتها في جميع بنود اتفاق أوسلو كما نص عليه الاتفاق في مراحله المختلفة.
على سبيل المثال، إنّ أقوى بند من بنود الاتفاق هو ما يتعلق بالأجهزة الأمنية الفلسطينية وطريقة عملها واتصالاتها وتواصلها وحركتها بين المدن وعدم السماح لتواجدها وعملها في مناطق "ج" وكذلك الأسلحة المسموح للأجهزة الأمنية حملها وطريقة تعاملها مع الجيش الإسرائيلي عندما يقتحم المدن والقرى الفلسطينية وكذلك طريقة تعاملها مع اليهود المستوطنين الذين قد يضلوا ويدخلوا مناطق " أ ". إن العقيدة الأمنية التي بنيت عليها الأجهزة الأمنية الفلسطينية هي عقيدة أوسلو، فكيف نقول أن أوسلو قد انتهى والأمن يتحكم بكل مناحي الحياة الفلسطينية. بالنسبة للحكومة الإسرائيلية، أي لعب بالتزامات السلطة الفلسطينية بخصوص التنسيق الأمني وعمل الأجهزة الأمنية الفلسطينية هو لعب بالنار وبمصير السلطة الفلسطينية مما قد يؤدي إلى انهيارها الفوري. فلا تكترث الحكومة الإسرائيلية باطلاق الشعارات حول وقف التنسيق الأمني وبيع الوهم للشعب الفلسطيني ولبعض فصائله وللمجلس المركزي والمجلس الوطني لمنظمة التحرير. أما إذا اعتقدت السلطة الفلسطينية أنها قد تأخذ خطوة واحدة جدية باتجاه الوقف الفعلي للتنسيق الأمني مع الحكومة الإسرائيلية، فلن يمضي ذلك اليوم على خير بالنسبة لقيادات السلطة الفلسطينية ورئيسها وربما يكون آخر يوم في عمر السلطة الفلسطينية.
وبالإضافة للموضوع الأمني، هناك عدة شواهد أخرى على أن اتفاق أوسلو ما زال حيّا حتى لو اعتبرنا أنه ينازع من فترة. فهناك قضايا كثيرة ما زالت تعمل حسب اتفاق أوسلو. منها العلاقات الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل والتي يحكمها بروتوكول باريس الاقتصادي الذي وقع عام 1994 ويحكم سياسات الاستيراد والتصدير الفلسطينية وضوابط الصناعة والاستثمار الخارجي في فلسطين، وتجارة السلع والخدمات بين الأراضي الفلسطينية وإسرائيل. وكذلك اصدار الهويات وجوازات السفر الفلسطينية لا يمكن أن تتم بدون موافقة الإسرائيليين، ودخول السياح لفلسطين وسفر الفلسطينيين كذلك بالإضافة لأمور كثيرة أخرى في الزراعة والمواصلات والمقاولات والغذاء والماء والدواء والبيئة. نحن حتى اليوم لا يمكن أن نأخذ قرار بسيط بتحديد المكان الذي نكب فيه نفاياتنا بدون موافقة إسرائيلية، وهذا التزام علينا موجود في اتفاق أوسلو. ونحن لا نستطيع أن نبني حتى حضانة للأطفال في منطقة "ج" إلا بموافقة إسرائيلية.
لذلك، من الواضح أن اتفاق أوسلو ما زال هو الاتفاق الذي يحكم علاقتنا بإسرائيل والعالم حتى لو أن إسرائيل تطبق منه فقط ما يحلو لها لصالحها وتضرب مصالح الشعب الفلسطيني بعرض الحائط. فإسرائيل تتعامل مع السلطة الفلسطينية على أنها الطرف الأضعف الذي ليس له حول ولا قوة ويقبل بكل ما تمليه عليه الحكومة الإسرائيلية بدون أي تمرد أو تردد. ولا شكّ أن اتفاق أوسلو أكل عليه الزمن وشرب، ولا بدّ من رميه في مزبلة التاريخ ودفنه مرة واحدة وإلى الأبد. فلا يمكن تحسينه أو تجميله أو تعديله بأي طريقة من الطرق. إذن، ماذا يحلّ محله؟ وهل يجب أن نفكّر باتفاق أوسلو جديد أم أنها نهاية الاتفاقات المرحلية المؤقتة مع إسرائيل لأن المؤقت مع الإسرائيليين يصبح دائماً وحان الوقت للذهاب إلى الحل النهائي بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس على حدود الرابع من حزيران 1967.
إنّ عدم ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني لا يبشّر بخير، ولا يمكن أن نتفاءل مع استمرار وجود الانقسام وغياب الوحدة الوطنية الفلسطينية. لذلك، ليس مستبعداً أن تذهب السلطة الفلسطينية إلى أوسلو جديد سواء برغبتها أو رغماً عنها. بمعنى أن السلطة الفلسطينية قد تجد نفسها أمام عرض اتفاق جديد ليس من السهل عليها أن ترفضه خاصة إذا جاء العرض من الولايات المتحدة وبدعم سخي من السعودية والامارات ينقذها من الوضع المترنح الذي تعيشه في الضفة الغربية ويمد ولايتها على قطاع غزة ويمهد لقيام دولة فلسطينية مستقلة. فقد عارضت الولايات المتحدة انضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة كعضو دائم، وبررت استخدامها الفيتو إلى ضرورة إحالة موضوع إقامة الدولة إلى المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين وعدم فرض ذلك الأمر بالقوة على الطرفين من المجتمع الدولي. وبالرغم من أن ذلك يبدو رومانسياً، إلا أن الفلسطينيين يعرفون من تجربتهم السابقة ماذا يعني إحالة أي أمر من الأمور إلى طاولة المفاوضات مع الاسرائيليين. يعرفون أن ذلك سيأخذ ثلاثين سنة أخرى. وبالرغم من كل ذلك، لا يبدو في الأفق أن هناك حلّا قد يقفز فوق الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن أو أن هناك أي إمكانية لاقامة الدولة الفلسطينية بدون التفاهم مع الأمريكان والإسرائيليين إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار لغة السلاح والمقاومة والتي هي ليست من استراتيجية السلطة الوطنية الفلسطينية. صحيح أن الرئيس أبو مازن غضب غضباً جديداً من استخدام الفيتو الأمريكي ضد الفلسطينيين، وأنه هدّد امس بإعادة النظر في العلاقة مع واشنطن، إلا أنّ الأمريكان لا يبدو أنهم يأخذون تهديد الرئيس الفلسطيني على محمل الجد خاصة وأنه قد سبق وهدد بالنظر بتلك العلاقة عدة مرات ولم ينتج عن ذلك شيء.