الكاتب: مروان أميل طوباسي
في وسط ما يجري من تصعيد لجرائم الإبادة بحق شعبنا في كل مكان بفلسطين ، كان اخرها مجزرة مخيم نور شمس قبل ايام واستمرار ذلك في قطاع غزة.
واستمرار نتنياهو وشركاءه السياسيين في تطوير رؤية عنصرية تستخف بقيمة حياة شعبنا الفلسطيني تشير لوجود خيط مباشر بين الاعتداءات على حوارة في شباط ٢٠٢٣ وبين الكارثة الإنسانية الحالية داخل غزة ، التي وصفها احد الكتاب الإسرائيليون بقوله "ان الذين اعتادوا على إمكانية حرق بلدة فلسطينية انتقاماً لقتل إسرائيليين اثنين يرون إمكانية تدمير كل القطاع انتقاماً للسابع من أكتوبر أمراً مفروغاً منه ".
وامام هذا الواقع الإستعماري العنصري فقد جاء الفيتو الامريكي بهذا الوقت من وجهة نظري بشكل طبيعي غير مفاجئ سندا لسياسات الولايات المتحدة باداراتها المتعاقبة في معاداة حقوق شعبنا الفلسطيني ومنع تنفيذ حقه في تقرير المصير ، واستكمالا لسياسات شراكتها السياسية والعسكرية وقيمها العنصرية مع اسرائيل ، كان اخرها إقرار حزمة المساعدات بقانون الأمن القومي لكل من اسرائيل و أوكرانيا التي ستؤدي الى مزيداً من توسع الصراع والحروب بالمنطقتين.
ان الحروب والنزاعات العسكرية ليست مسرحيات كم يعتقد البعض ، رغم ان هذا الاعتقاد هو حق لأصحابه الذين ربما لا يدركون اهمية التحولات السياسية الإستراتيجية بالعالم ودور كل اطراف الاقليم . فقد غيرت عملية ٧ أكتوبر باعتبارها شكلاً من اشكال المقاومة المستحقة لشعبنا وفق القوانين والأعراف الدولية في قواعد مواجهة استمرار الأحتلال والحصار والحقت به الهزيمة بفعل تطور لحظتها المفاجئ والارادةد على القتال ، رغم بعض الملاحظات التي سيكشف عنها التاريخ والأسئلة التي سيجيب عليها لاحقا بما يتعلق بضرورة التكامل بين المقاومة وتجنيب شعبنا الضحايا الكبيرة والمؤلمة باعتباره حاضنة الكفاح الوطني.
ان ما يحدث من مقاومة واشتباكات على امتداد الحدود الشمالية هو حراك ما يطلق عليه باطراف محور المقاومة ، يستهدف تحقيق نتائج سياسية وتغير معادلات وأوضاع قائمة وتكبيد الأحتلال اكبر قدر من الخسائر في مسار تحقيق مصالح دول وأطراف بأطار معادلات توازن الردع في الحالة الجارية التي علينا معرفة مسارها واستفادة كل دولة وطرف منها ، وبالتالي تحديد رؤيتنا الفلسطينية وفق مصالحنا الوطنية اولاً واخيراً وبما يتبع من اتخاذ قرارات تعتمد برامج وأدوات تستند الى ضرورة وحدة الكل الفلسطيني في اطار المنظمة وتفعيل دورها وأطرها والأقتراب من جماهير شعبنا بكل فئاته وحمايته لتحقيق التحرر الوطني والديمقراطي .
فما حدث بين إيران ودولة الأحتلال قبل ايام يندرج ضمن محاولات تغير تلك المعادلات بالمنطقة ، من جهة لإثبات القدرة في مواجهة نظام استعماري يتصرف فوق القانون وينتهك كل الأعراف الدولية وحقوق شعبنا ويمارس معادلة تفوق قوة الردع ، ومن جهة اخرى لمحاولة استثمار ذلك بتحقيق مصالح ايران الوطنية التي تراها هي من وجهة نظرهم كدولة ذات سيادة وفي معادلة العلاقة مع الولايات المتحدة وأوروبا وتحديدا في شأن الإتفاق حول الملف النووي التي ترغب في تحقيق مزيداً من المكاسب لها فيه .
فتلك العملية العسكرية والتي أعترف جيش الأحتلال انها اصابات موقعين هامين شكلت تطور هام بالصراع ، فقد أظهرت إيران قدراتها الصاروخية التي اعترضتها طائرات وصواريخ الناتو ودول إقليمية اخرى ، ولم تَجُر الولايات المتحدة الى الصراع المباشر . وهي بالتاكيد قد حصلت لربما ضمن توافقات غير مباشرة على عدد من التنازلات الأمريكية ، وشكلت تاكيدا ان احد أوجه الصراع بمنطقة الشرق الاوسط هو ساحة بين الطرفين ، الذي سيتطور به موقع إيران بشكل هام لتغير معادلة توازن الردع ، رغم ان إنهاء صراعنا مع الأحتلال بما يحقق ثوابتنا الوطنية هو الاساس لاي شكل من الاستقرار بالمنطقة وللمعادلات الجديدة .
تطور قد يساهم بتحريك بعض الأحجار في رقعة شطرنج المنطقة التي اصابها الركود بنتيجة غياب المشروع العربي في ظل وجود مشاريع اخرى ، كما وعجز النظام الرسمي العربي من حماية شعبنا ووقف حرب الإبادة الجارية لدرجة عدم القدرة على فرض ادخال المساعدات عبر رفح ومواجهة الموقف الاسرائيلي في منعها .
وبرغم ان الحروب تشكل جحيما على الشعوب ، لكن احيانا تكون احدى الخيارات في مسار التاريخ وإلا سيبقى التاريخ السياسي يُراوح مكانه في معاندة طبيعة مُتغيرات الأشياء . فلا شيئ يبقى على حاله في اطار شكل الحركة المستمرة له ذاتيا ونسبيا في العلاقة مع المحيط المجاور والسياسات الاخرى . وهنا تكمن محاولة الإستفادة من تلك الحركة المستمرة من تغيرات كمية ستؤدي حتما لتغير نوعي في شكل تلك العلاقات والمعادلات التي قد تفضي الى البحث عن مسار سياسي لحل قضايا الصراع .
فبالرغم من ما نختلف عليه مع رؤية النظام الايراني في قضايا عدة بمنطقتنا تتعلق برؤيتهم القومية واطماعهم والتدخل في شوؤن عدد من الدول واقامة بؤر وكالات فيها . الا ان إيران لا يمكن رؤيتها وفق هذا الجانب ومن هذه الزاوية فقط او من خلال نظامها القائم وفق رؤيتها الدينية وحكم الملالي فيها ، لكن من خلال زوايا اخرى تتعلق بدورها الإقليمي المتنامي ومتغيرات علاقاتها مع عدد من الدول العربية في اطار المصالحة التي تمت بجهود صينية من جانب ، واستمرار قضايا خلافاتها مع اسرائيل ، كما وتطور مكانتها الدولية في اطار مجموعة "البريكس" وعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا والصين في المواجهة المفترضة لسياسات الهيمنة الأمريكية الداعم الأساس للأحتلال ، وما اصبحت تشكله من دور كلاعب اقليمي له قدرات عسكرية وحتى على مستوى العلاقات الدولية كدولة لشعب أصيل له جذوره التاريخية والثقافية على مدار عصور ، في نقيض مع ما يُسمى بالشعب اليهودي المُبتكر منذ بدايات الأستيطان الإستعماري لفلسطين . ولهذا لا يجوز استبدال مكانة دولة الأحتلال الاسرائيلي بمكانة إيران كعدو للشعوب العربية والفلسطينيين وفق ما يحاول الغرب واسرائيل اشاعته في عقول شعوبنا العربية .
بالوقت الحاضر وضمن هذه المتغيرات يبدو ان الولايات المتحدة غير معنية الآن بهذا التصعيد الذي يدفع به نتنياهو بشكل يومي ، بسبب ان لديها العديد من الأولويات الاخرى اليوم والمتمثلة في أوضاع أوروبا الشرقية وخاصة بما له علاقة بحربها بالوكالة باوكرانيا وخوفها الشديد من خيارات الهزيمة امام روسيا ، الأمر الذي قد يغير وجه أوروبا ، اضافة الى بؤر التوتر في تايوان وبحر الصين ، واهمية أوضاعها الداخلية المرتبطة بالانتخابات الرئاسية القادمة من جانب ، ومن جانب اخر فان اتساع رقعة التصعيد بالمنطقة قد يحول دون تمكن الولايات المتحدة من تنفيذ رؤيتها حول مشروع الشرق الاوسط الجديد ، الا اذا أقتضى تنفيذه اشعال حروب المنطقة وانتظار ما يترتب من نتائج لاحقة وفق سياسات نتنياهو والصقور الأمريكان ، ولهذا السيناريو حديث اخر .
وفي ظل الرغبة الأمريكية للتخلص من نتنياهو واستبداله بمن يُسهل تنفيذ مشروعهم المذكور الذي يضمن استمرار هيمنة الولايات المتحدة على مفاصل انظمة دول المنطقة وموارد منطقتنا اقتصاديا وعسكريا وسياسيا . فان نتنياهو وآخرين من قادة الأحتلال يخططون لكيفية تصعيد الأحتكاك مع إيران ولبنان لِجر الولايات المتحدة والناتو الى حرب واسعة بالمنطقة دون إثارة دورة من الضربات الانتقامية التي يمكن أن تتصاعد نحو صراع أوسع ، نظرا لرؤيتهم الخاصة حول الشرق الاوسط الذي يتوجب بقاء اسرائيل فيه صاحبة القول الفصل .
وترفض طهران جميع النداءات الدولية لوقف ردودها وتغير معادلات الردع ، قائلة إن مثل هذه الجهود يجب أن توجه بدلاً من ذلك إلى إسرائيل التي تمارس كدولة احتلال عنجهية قوة اليد الطولى دون حساب وعقاب .
لكن نتنياهو لن يمضي قدما في العمل العسكري دون الدعم الضمني من الولايات المتحدة، والذي يزعمون أنه يضمن الحزم الإسرائيلي في اجتياح رفح ، لكن مع بعض التباينات الشكلية المتعلقة بوجود العدد الكبير من شعبنا فيها .
ونتيجة لذلك ولتركيز الجهود نحو رفح ، فقد وافق نتنياهو على "رد حكيم" في أصفهان يتجنب إثارة حرب إقليمية واسعة يشارك فيها حلفاء إيران في لبنان وسوريا والعراق واليمن، الذين لديهم علاقات عضوية مع ايران وقد تحدوا تاريخياً التفوق العسكري الإسرائيلي .
كما ولمحاولة انقاذ وضعه غير المستقر وسط ضغوط داخلية متزايدة للرد ودعوات إلى اجتياح رفح وذلك في معاندة المجتمع الدولي كي يضمن استمرار مستقبله السياسي .
ذلك بالرغم من ما يواجهه من ضغوطا متضاربة من حكومته والائتلاف الذي يبقيه في السلطة ، الامر الذي يؤدي إلى تفاقم معضلة نتنياهو السياسية التي يساهم باثارتها حراك أهالي الأسرى الإسرائيليين وامتدادات الخلاف الناشئ سابقا حول الانقلاب القضائي واستقالات قادة كبار من الجيش وعدم القدرة في تحقيق الاهداف المعلنه في غزة ، رغم انها اصبحت مكانا غير قابل للعيش بفعل التدمير و بتضحيات جسام من شعبنا ، كما ومن سقوط قتلى وجرحى في صفوف جيش الأحتلال لم يعرفون مثيلا له منذ ١٩٤٨، وإطلاق التحذيرات المتلخصة في ان نتنياهو يقود إسرائيل إلى الخراب حتى تنهار حكومته ، في وقت تعصف ازمة حقيقة باسرائيل قد ترتقي الى شكل وجودي اذا استمرت الاحوال على ما عليها الان من حيث فشل نظريتهم حول اليوم التالي في غزة وغياب البدائل والانهيارات الإقتصادية والعزلة الدولية المتصاعدة بشكل غير مسبوق اضافة للتحديات الاخرى التي أشرت لها .
على هذه الخلفية من الضغوط المحلية والدولية، يبحر نتنياهو في مشهد معقد، باحثاً عن القرار الأمثل للحفاظ على السلطة وتجنب المزالق التي تصاعدت منذ ٧ أكتوبر ، والتي زادتها الضربة الإيرانية من جهة وضع نتنياهو المحفوف بالمخاطر .
وعلى الجبهة الدولية، فبينما تتفق الولايات المتحدة مع إسرائيل على أن إيران تشكل تهديداً كبيراً لمصالحها وهيمنتها في الشرق الأوسط، فهناك اختلاف في النهج الذي يتعين اتباعه . وتتلخص الإستراتيجية الأمريكية المفضلة في إدارة التحدي الإيراني "بدقة" من خلال العقوبات والعمليات الاستخباراتية وربما إثارة الاضطرابات الداخلية في إيران بدلاً من الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة.
ويعكس هذا النهج الدقيق استراتيجية أوسع نطاقاً لقياس ردود إيران المحتملة بعناية بينما ينتظر المجتمع الدولي الخطوة التالية لطهران في أعقاب الرد الإسرائيلي في أصفهان .
ولحين ذلك فانه من الواضح بان نتنياهو في محاولة لأستدامة هذا الوضع الأمني سيسعى الى دخول المرحلة الثالثة من عدوان حرب الإبادة في غزة والمتمثل باستهداف رفح وفق تكتيكات عسكرية جديدة قد ترتبط باعادة الحديث عن صفقة جديدة مع المقاومة قد تقلل من وجهة نظره حجم الاعتراض الدولي على ذلك او ان يبيع هذا الأجراء الجديد من اشكال الحرب والسياسة للولايات المتحدة لتجاوز الخلافات الظاهرية وتحييد مصر التي تريد إلغاء كامل للعملية العسكرية على رفح ، بينما أمريكا تريد تقنينها وبرمجتها وربط ذلك بإيجاد حلٍ لموضوع المدنيين.
كما ومن وجهة نظره فان الوصول الى صفقة لا تلبي طموحه قد يخفف من ردود المقاومة اللبنانية العسكرية على شمال فلسطين التي اطلقت حتى اللحظة ٤٠٠٠ صاروخ واوقعت العديد من القتلى واجبرت المستوطنين بشمال فلسطين على النزوح كما في غلاف غزة .
السؤال الآن كيف ستتأثر السياسة الدولية والإقليمية بهذه المتغيرات وكيف ستنعكس علينا نحن الشعب الفلسطيني وعلى قضيتنا الوطنية ؟
اليوم فلسطين اصبحت في كل مدينة وشارع وجامعة حول العالم تحديدا في امريكا معقل الغرب الإستعماري ، هذا الامر الكبير وإلهام الذي تمثله القوى التقدمية بما فيها من قوى يهودية وحركة الطلبة المتصاعدة لأول مرة منذ حرب فيتنام ، قد دفع الرئيس بايدن بتشويه سمعة المتظاهرين في حرم الجامعات في جميع أنحاء البلاد المعارضين للمذبحة الإسرائيلية للفلسطينيين في غزة ووصفهم بأنهم "معاديون للسامية". لكنها اصبحت كرة من الثلج تتدحرج وتتسع بكل اصقاع الارض ترتبط ايضا مع الازمات الاجتماعية الإقتصادية الناتجة عن فشل الحلول الراسمالية البشعة لقضايا المجتمعات كما ومظاهر العنصرية فيها ضد الاقليات والملونين والمهاجرين .
هذه مرحلة يتوجب التواصل معها بكافة جوانبها من طرفنا وتقديم ما يلزم لاستمرارها لأحداث التحولات المطلوبة ومدى تاثيرها على مكونات الرأي العام العالمي والإعلام بالغرب .
كما ان استمرار التعاطي مع سراب افكار أدارة الصراع الأمريكية يجب ان يتوقف طالما لم تغير تلك الإدارة او القادمة من جوهر سياساتها . هناك قوى قاعدة كما هنالك دول وتجمعات سياسية واقتصادية جديدة يتوجب دراسة التموضع حولها من جانبنا وكذلك توسيع دوائر العلاقات مع الشعوب واحزابها من اجل تطوير شبكات دولية مناهضة الحروب وأشكال الإستعمار والتمييز العنصري نحو مزيداً من تحقيق عزلة اسرائيل والولايات المتحدة ومن خلفهم الفكر الصهيوني من جهة ، والارتقاء بدور اداؤنا الداخلي بما ينسجم مع ما ذكره في شأن دور منظمة التحرير ، وتوسيع دائرة اتخاذ القرار ليشمل كافة الفئات على قاعدة شركاء في النضال شركاء بالقرار ، ليتفق ذلك مع تراث شعبنا الديمقراطي لحين التمكن من وقف العدوان الأبادي واجراء الانتخابات وفق قاعدة وحدة الارض والشعب والقضية .