الكاتب: نبيل عمرو
كثر الحديث "غير الموثق بأدلة رسمية" عن أن الدوحة بصدد الاعتذار عن مواصلة استضافة قيادة حماس، حيث قطر كانت وما تزال حتى الآن المكان الأكثر ملائمة لقيادة الحركة الإسلامية ليس كمجرد مأوىً وإنما للعمل السياسي بكل مستوياته ومهامه.
وهذا الحديث "غير الموثق رسمياً" جعل من كل زيارة يقوم بها قادة حماس إلى أي دولة، كما لو أنها بحث عن مكان بديل. وآخر مكان جرى الحديث عنه في هذا السياق هو تركيا، إثر الزيارة الأخيرة التي قام بها السيد إسماعيل هنية واجتماعه مع الرئيس رجب طيب أردوغان وأركان نظامه.
وقبل ذلك كان حديثاً في ذات الاتجاه قد تواتر أثناء زيارة هنية لطهران، واجتماعه مع المرشد علي خامنئي، وحين تكون إيران مرشحة للاستضافة بعد قطر فذلك يعني ترشيحاً تلقائياً للضاحية الجنوبية بلبنان، التي ما تزال حتى الآن عاصمة التحالف القتالي بين حماس وحزب الله.
وما دام لم يصدر تصريح رسمي عن أي جهة حول هذا الأمر، وما دامت حماس تنفي كل ما يقال حول انتهاء استضافة قطر والبحث عن مكان بديل فسوف يظل الحديث حول هذا الأمر مجرد تسريبات وتقديرات واحتمالات.
والأمر على هذه الشاكلة لا يستدعي العجلة في تحديد الأماكن البديلة إذ ما تزال حماس في غزة عسكرياً وسلطوياً وما تزال في الضفة وحتى القدس، شعبياً وتنظيمياً وما تزال مكاتبها تعمل في الأماكن المتواجدة فيها ولا منطقيةً لتغييرات جوهرية ما دامت الحرب لم تضع أوزارها بعد ولم تتبلور خلاصاتها النهائية.
ويرتبط بهذا الأمر ما يُبحث من تسويات يجري العمل عليها بقوة النار والديبلوماسية، بشأن الجبهة الشمالية، وتموضع حزب الله وصواريخه، هذه التسويات لم تنضج ويبدو أنها ليست في طريقٍ ممهد كي تنضج قريباً.
غير أن الأمر والحالة هذه لن يتوقف عند حكاية المكان بالنسبة لقيادة حماس، والمعني هنا من هم خارج قطاع غزة، لأن من هم في داخله تحت الأرض وفوقها لا مشكلة لديهم تدعوهم للتفتيش عن مكان بديل فقراراهم الأول والأخير البقاء حيث هم تحت شعارٍ رفعوه ومارسوه ويثبتون كل يوم صدقيته.. النصر أو الاستشهاد. ونسأل الله أن يكون النصر.
ولعل الذي يبدو أكثر تعقيداً من المكان أن الحركة ستدخل مرحلة الخيارات، التي تحدد ليس الأماكن وإنما الهوية والاتجاه.
ما حل بغزة من دم ودمار، أدّى إلى نشوء حالة تكاد تكون محسومة تجعل من عودة حماس إلى غزة، بالصيغة التي كانت عليها قبل الحرب، أمراً يكاد يكون مستحيلاً، بل إن ما ستواجهه حماس ومعها شركاؤها وحلفاؤها وداعموها المحليون والإقليميون، هو الأصعب بكثير مما واجهته في الحرب، لقد قاتلت بكفاءة معركة طويلة لا يعرف حتى الآن متى يأتي يومها الأخير وذلك سوف يضع حماس ومن معها أمام معضلة إقليمية ودولية تشترط تقديم ما يلزم لإعادة الحياة إلى القطاع المدمر بإنهاء حكم حماس وسلاحها. والحديث هنا عن عشرات المليارات من مختلف الجهات والعملات، إضافة إلى أن إسرائيل وأمريكا ستكونان المتحكم الأساسي في مسألة إدخال الأموال في إطار إعادة الإعمار.
الذي سيحسم أمر المكان هي الخلاصات التي ستنتجها الحرب، إلا أن ما قبل ذلك وما بعده هو حتمية الدخول إلى مرحلة الخيارات، فإن كان النصر بمواصفات حماس قد تحقق فلا أزمة على الإطلاق، فالمكان مضمون على أرض الوطن أصلاً وإن لم يتحقق بمواصفاتها فالمكان البديل سوف يفرض شروطه وقيوده، وفي حال الاضطرار إلى ذلك يكون الأمر أقرب إلى الإيواء منه إلى مواصلة النهج القديم في التعامل.
رجال حماس ممن هم على أرض المعركة العسكرية بقيادة الرجل "الظاهرة" يحيى السنوار، والذين هم في مناطق الحلفاء خارج الوطن يدركون التحدي ويدركون حجم الفرص الواقعية للنصر الذي ينشدونه ويدركون كذلك ما يترتب عليهم فعله بعد أن تضع الحرب أوزارها.
هنالك منطقة متاحة لحل أزمة المكان وهي غير جغرافية بل سياسية، وأعني بها منظمة التحرير التي مهما تآكل جسمها تظل صاحبة الميزة الأهم "الشرعية" المعترف بها إقليميا ودوليا فيما يشبه الإجماع.
المفتاح السحري لدخول حماس إلى بيتها كلمة واحدة لابد وأن تقولها "نلتزم" وهذه الكلمة التي لم تُقل على مدى أكثر من ستة عشر سنة كانت العامل الأكثر فاعلية في بقاء الانقسام.
"نلتزم" ليست مجرد كلمة تقال بل هي في واقع الأمر مفترق طرق حاسم بين الاتجاه القديم والاتجاه الجديد المقترح، فالقديم هو، "لا للتسويات ونعم للمقاومة، والجديد هو نعم للتسويات ولا للمقاومة". المقاومة المقصودة هنا المسلحة وجميع الأدبيات التي تتصل بها وتسمى أدبيات التحريض.
حماس حركة براغماتية قبل أن تكون دينية، فهي تعرف وبدقة ما الذي تنطوي عليه كلمة نلتزم بالاتفاقات التي أبرمتها منظمة التحرير مع إسرائيل ولو كان بإمكانها قولها والتقيد بشروطها لما ترددت سابقاً في ذلك ولكنها لو فعلت الآن تكون قد غيرت مضمونها واتجاهها بذات الكيفية التي تغير بها غيرها.
ولسوء الحظ أن ما كان مطلوباً الالتزام به زمن المفاوضات المرعية دولياً لم يعد قائماً الآن، فما هو قائم فعلاً هو شبح أوسلو المتلاشية والتي يرفض الخصم حتى مرونة عباس وسلطته ومنظمته.
الوضع الراهن في غزة والإقليم والأجندات المتعارضة والمتوافقة للقوى المنخرطة في اللعبة عسكرياً وسياسياً تجعل من أزمة المكان التي يجري الحديث بقوة عنها مسألة ثانوية أمام مسألة الخيارات التي يمكن وصفها بأن أحلاها مر.
حماس والإخوان المسلمون الذي لا يعدمون نفوذاً في أماكن عديدة لابد وأن يقرروا أخيراً، مع وضعهم في الاعتبار حقيقة أن إنكار وجود الأزمة ليس حلاً لها.