الكاتب: يونس العموري
هم فتية آمنوا بربهم منذ البدايات ، وهم فتية امنوا بالنصر فحققوه ، وتواروا عن الأنظار واعتلوا الربوة وتمترسوا بخندق الإيمان بالقدرة على إحداث ثورة وإعادة الاعتبار للوسخين بخيام اللجوء وللمقهورين وإثبات هوية المطرودين من كروم التين والزيتون، كانوا إن عقدوا العزم بالتسلل إلى أعماق أحلام البسطاء، والسير بمحاذاة فعل العشق للأرض السمراء، هم المؤمنون بعدالة قضية الانعتاق من قبضة التنين وان كان على أبوابه كل طغاة الليل يحرسونه من سطوع شمس الحقيقة، هم من تشردوا وسكنوا أطراف المدن وشكلوا بوتقة المخيم حيث لفظتهم مدائن الإنس والجان، وقفوا على ناصية أحلامهم وقاتلوا، وأدركوا معادلة اثبات الوجود وفلسفة حقيقتهم، كانوا ان جابوا وتجولوا خلسة وتسللوا الى ارض البرتقال وعقدوا العزم بتحدي نظرية الإدراك الخاضعة لحسابات المنطق في مواجهة العين للمخرز وتمرد الشاة على السكين، كانوا ثلة ممن شاهدوا الاذلال الكبير بواقع تغريبة ابن كنعان من سواحل حقيقته، والمنارة مضاءة لاسترشاد التائهين بتلاطم الأمواج العاتية… كان الثالوث المرعب وصمة على جبينهم ورثوه عن آباءهم، التشتت والتشرد وضياع المعنى الوجودي لكنعانيتهم التي اضحت مبعثرة مهددة بالانقراض، حكاية التوهان بالصحاري المكفهرة صارت واحدة من يوميات البحث عن معنى وجودهم كبشر خلقوا لممارسة الحياة ان استطاعوا الى ذلك سبيلا، وبعد أن كانوا أسياد المنطقة صاروا عبيد الليالي منبوذين بكل البراري، هم فتية آمنوا بأحقية الإنسان بكرامة النهار وبالحق بالمتعة تحت جنح الليل والقمر ساطعا، غير مختبئين أو خائفين من لبسة البزات العسكرية وان كانوا بالضاد ناطقين ..
تجمع عشاق الشمس والقمر معا، واطلقوا العنان لأحلامهم وكان القرار بإحالة الحلم الى حقيقة الهدف وبالتالي كان الإيمان بعدالة الحق، وبالقدرة على الانعتاق من عبودية القهر، وإطلاق الفعل نحو قبلة الأحرار، وعقدوا العزم بأن يكونوا رموزا للأحرار، وبالتالي كانت الكلمة المعبرة عن الإرادة الحرة من خلال بندقية الثائر المصمم على نيل حريته من عبودية البوادي والتشرد والمطاردة خلف لقمة العيش … بعد ان صارت كنيتهم لاجئين واسرى لا يقترب منهم احد، والجميلات عند آخر الليل تبتعد عنهم كأن الرجولة قد غادرتهم، وللحقيقة وجهان ولعل ابرز تلك الحقائق هي حقيقة وجودهم وهويتهم الشاهدة على مذبحتهم.
إذن كان القرار لهم هذه المرة والخيار اختيارهم، ونظريتهم بمعادلة الارقام خطوها هم.. وكانت كلمتهم لهم فقط دون غيرهم بالتالي كانت قبلتهم قبلة الاحرار حينما امتشقوا بنادق الثوار السمراء وخطوا بأقدامهم دروب سهول الأرض العطشى للأحمر القاني … وسطروا ملاحم الأقاصيص والحكايا … لم تكن أسماؤهم معروفة، ولا وجوههم ولا أصواتهم ولا كلماتهم … كانوا أشباحا، اخترقوا عتم الليالي الحالكة، يوم يهل الهلال الأول.
اتبعوا دروبا شائكة في البر والبحر والجبال، واختاروا المعركة وجها لوجه، مع عدوهم.. حتى وقعوا شهداء وأصبحوا الشهداء الأسرى أو الأسرى الشهداء والمطاردين والمطرودين واللاهثين خلف الحلم الحقيقة او حقيقة احلامهم التي اضحت اهداف الفعل والفعل المضاد للصورة وكان لهم ايقونة ثورة الاحرار وصاروا الثائرين الثوار وأطلقوا العنان للصرخة المدوية كشعار لصرخة المرحلة (الحرية او الموت..) وما بدلوا تبديلا . . .
صاروا رموزا وأعلاما ومفخرة لقراهم ومدنهم ومخيماتهم يُشار لهم بالبنان… أما وجوههم وأصواتهم وكلماتهم فقد أضحت حكايات وشعارات وصورا… أطلوا في عز اكتمال البدر بتوقيت الاحزان وكان القول الفصل في سفر تاريخ المقاومة…. هكذا كانت البدايات … وهكذا كانت هي الادبيات والنظريات تخلقها وتصنعها إرادة الايمان بحتمية الانتصار والعودة الى الوطن والاوطان ليست مجرد البقعة الجغرافية بل للعودة الى هوية الإنسان واستعادة كرامة مفقودة بمدائن الإنس والجان …
كان عبورهم الى هذه البقاع بهدف قول كلمة يحفظها التاريخ.. وكان لمكوثهم ببطن الأرض الحبلى بشقائق النعمان كأرقام بهدف تعرية تاريخ اغتصاب فراشات زهر البرتقال، وبعودتهم جنوبا تدوينا لرواية تأرخ عشاق الحياة، فموتانا يحضرون عند كل ابتسامة طفل يمارس لهوه في حواري مدينة الأسوار ويأتون عند كل صبح مع قطرات الندى …
هذه الحكاية من أولها… وهذه قصة من عبروا يوما.. فقد حلموا بليلة بحضن الجبل المنتصب شموخا على شاطئ حيفا وبمعمودية بمياه شواطئ يافا، وكانوا ان سمعوا نداء حفيف اوراق اشجار الصنوبر، ونعيق اصوات غربان ليل غريبة عن المكان وطارئة بتاريخ الزمان، فمنهم من ركب البحر وناجى القمر وشهد الموج على ملحمة سطرتها أكفهم بعتمة ليل أضاءته انتصارات الحب المتشكل بين ضلوعهم على قسوة من عاثوا بالأرض فسادا، وكانت ان احتضنتهم أرضهم ورحبت بمن يأتون مهللين مكبرين مبتسمين فقد كانوا هنا حيث وقف المسيح يوما مناجيا رب عرش السموات والأرض ليشهدوا انبلاج حقيقة أشيائهم كما البتول مريم حينما أتاها عيسى المخلص نصير فقراء كل الأزمان …. جاؤوا ليرتلوا تعويذة جداتهم المعلقة بأفئدتهم منذ عرفوا ان ثمة وطنا مسيجا بالغار والياسمين وتنبت فيه ارواح الأنبياء المتجولة ما بين قدس الأقداس وناصرة البشارة، مأسورا بثنايا خرافات تاريخ قتلة الحلم، ومغتالي عصافير البراري كونها تشدو الصبح زقزقة عند أضرحة الشهداء ….
أتوا عابرين ملوحين بقبضات اياديهم، وساروا بدروب منابت الزعتر والميرامية وبكل خطوة بمسيرتهم تنهيدة وأمل بأن تتوالى خطوات العبور والتجوال … فهم الآن على أرض الله التي تسمى فلسطين … وكنعان حفر اسمها على صخور تأبى ان تلين … جاؤوا من كل المدائن … وحطوا ترحالهم ببراريها ومارسوا عشقهم لأول مرة تحت الشمس وقالوا كلمة من كلمات الرب بحضرتها وأمسكوا بشيء من حقيقتهم وعرفوا معنى ان تتوحد روحك بقلبك وبما تؤمن به إيمانا مطلقا فكانت بالتالي الحكاية …
من كل الأجناس كانوا عربا وعجما اتجهوا صوب شمس تلال الجليل، وعزفوا سيمفونية الخلود، حينما عبروا الأرض البكر اقشعرت أبدانهم وأدركوا سر ابتسامة الشهداء، فركعوا وصلوا ورتلوا من مزامير كنعان، وبكوا وضحكوا وخاضوا معركتهم وحملوا أماناتهم وترجلت ارواحهم نحو السماء، مارسوا عشقهم فعشقتهم الأرض الطيبة وابتلعتهم ببطنها، واعداء النهار جاؤوا بهم وفتشوا بثناياهم ورسموا شارات حقدهم على محياهم، وزرعوا لهم أرقاما فنبتت أشجار الزيتون وتألقت اخضرارا … وظلت شاهدة على من عبروا …
هي قصص وروايات لأزمان كان فيها اكتمال لمعنى ان تكون عاشقا مقاوما، تجوب الأرض وتستجدي فعل العبور، وتنتظر حتى تأتيك البشارة وتتهيأ ليوم الولوج عبر الدروب والمتعرجات لتصعد الجبل الشامخ هناك وتنحدر نحو السهل المخضب بدماء الأولين، لتستشعر تاريخهم وتعلم حينها معنى ان تصمد على أرض فلسطين ….
انتظروا كثيرا، وظلوا بلا أسماء، فمنهم من قضى، ومنهم من ينتظر لحظة إعلان حقائقهم، حتى جاءهم من كان كافرا بكل القيم والقامات والعلم والفعل والقول المطلق المنطلق من زغاريد الثوار وبالحق والأحقية وبصرخات من يقبعون بالعلب الاسمنتية، وأصبحت الجغرافية أضيق مما نتخيل وصارت قاحلة مكفهرة ربما تقبل القسمة على الفتات وملوك الإقطاعيات الجديدة المتربعين على عرش الأكذوبة، وأصبحنا على موائد اللئام يتامى وهؤلاء الفتية صاروا جزءاً من موروث الحكاية العبثية بفعلهم وفقا لوصف القيصر الجديد ذي التواصل والوصال …