الكاتب: رامي مهداوي
صديقي ( ن خ) الناشط الشبابي المثقف ابن غزة، قبل ما يقارب عشرين عام تعرفنا على بعضنا البعض عندما كُنا نخطو خطواتنا المهنية الأولى في مؤسسات المجتمع المدني، أضع أمام أعينكم مشاهد لا يشاهدها ولا يعرفها الكثيرين، مشاهد سجلها عقل ( ن خ) ليرويها لنا بلسانه:
مشهد 1 :-
امراة تلتحف خيمة ايواء بإحدى مراكز الإيواء، سمعت همس اثنين من الشباب يخبر أحدهم الآخر بأن هناك شاحنات من المساعدات وصلت لمخازن التوزيع لإحدى المؤسسات الرسمية. هرعت السيدة مشياً على الأقدام لمسافات بعيدة لعلها تأخد غيضاً من فيض ويكفي حاجتها لا أكثر لتُطعم أطفالها من جوع الحرب الذي يعيشونه.
وصلت للمكان بعد عناء تحت أجواء إطلاق النار والاشتباكات بين عناصر شرطية وبين مسلحين وعناصر مدنية جاؤوا بالمئات طمعاً في سرقة الشاحنات .. وهو ما حدث بالفعل! استطاعت السيدة أن تقتني لنفسها ولأولادها بأعجوبة سلة غذائية من بين عشرات الآلاف من السلات الغذائية.
وبينما كانت تجلس على حافة الطريق لعلها تجد من يساعدها على ايصالها لخيمتها، للأسف، جاء من يباغتها بطعنة على وجهها بآلة حادة ويسرق منها سلتها الغذائية !! وامرأة أخرى للاسف بنفس المكان لاقت حتفها دهساً تحت عجلات إحدى سيارات لصوص الحرب الذين باغتوا الشاحنات ليسرقوها وينقلوا بها ما يحصلون عليه ذهاباً وإياباً.
مشهد 2 :-
بينما كنت أسير قبل عدة أيام في احدى شوارع منطقة النزوح التي اعيش فيها وكعادتي التي إستحدثتها خلال الحرب فقط بأن أتعرف على أسعار كل السلع والمنتجات أو ما توفر منها بسبب الحرب. الأسعار بطبيعتها غالية جدا وباهظة الثمن مقارنة بالوضع الطبيعي؛ بمجرد أن تم إغلاق معبر كرم ابو سالم التجاري تضاعفت الأسعار أكثر وأكثر.
استفزني الأمر جدا؛ وبينما اكمل طريقي وجدت بعضا من رجال الأمن أو ما يعرفون أنفسهم بلجان الحماية الشعبية؛ ينظمون الباعة بالشوارع وحركة وجود السيارات والعربيات. تقدمت لأحدهم وهو ملثم الوجه؛ سألته بكل بشاشة: يعطيكم الف عافية على جهدكم؛ شو بتعملوا قاعدين؟ اجابني أيضا بنفس بشاشتي: بنظم الشارع البياعين حتى ما يعطلوا حركة السير.
عدت عليه بسؤال آخر: طيب شو دوركم وموقفكم بالنسبة للباعة والتجار اللي رافعين الاسعار ومحتكرين كل السلع بمخازنهم وعلى مرمى ومسمع كبار المتنفذين بالمنطقة. هذه المرة لم يبادرني ببشاشته السابقة؛ بل بنظرة غضب شديدة مع رفع سلاحه لأعلى؛ وقال لي حرفيا: تتدخلش هذا مش شغلك!!
مشهد 3 :-
قال بيقولك الناس بالحرب عايشة تكافل اجتماعي والناس لبعضها ... بيحكيلي عشرات الأصحاب عن مواقف صارت معهم وأنا شخصيا صار نفس الموقف معي. بتكون ماشي بالشارع؛ بحثا عن رمق يسد جوعك وجوع اسرتك؛ لتجد مخازن معبأة بالسلات الغذائية ويتهافت عليها الناس بالمئات؛ حاملين معهم بطاقات هويتهم الشخصية يبحثون عن اسمائهم ويستلمون من المكان نصيبهم من الطرود .
سألنا أحدهم .. بل معظمهم إن صح القول؛ عن كيفية حصولهم عليها او كيفية التسجيل فيها ؛ ليخبرنا الجميع بنفس العبارة وكأنهم خريجي نفس مدرسة الاجابات الفلسفية: وصلنا مسج وما بنعرف مين سجلنا !!
مشهد 4 :-
شو احكي لاحكي عن الحرب وأوجاعها .. أكثر شي وجعني بالحرب كله لما وصلني خبر استهداف شقتي وتدميرها. حينها شعرت إنني ميت؛ وأن لا جدوى من الأمل بشيء. وصلني الخبر وصورة البيت من أحد الأصدقاء؛ وصرت أخفي الأمر عن أسرتي يوما بعد يوم كي لا اشاركهم الموت معي .
بعد اسابيع لم تعد نظراتي اَو تصرفاتي تسعفني؛ فأخبرتهم بحقيقة الأمر عن بيتنا ومملكة احلامنا. الذي جمع ذكريات اسرتي وطفولة أبنائي .. بيتنا الذي احتضنت كل تفاصيله واروقته كل شيء جميل لنا، ومكتبتي التي انشأتها كما الطفل الرضيع الذي تراه يكبر امامك. حصاد من الكتب والمعرفة جمعتها على مدار خمسة عشر عاما.. تناثرت مع غبار الدمار وتبعثرت بكل الحي وكان كل ورقة من كل كتاب ترتدي كفنها بنفسها!! هذا اقسى ما عشته بالحرب .. اقسى بكثير من نزوحي وتشردي؛ اصعب بكثير من وجع الوحدة والعزلة.
مشهد البداية:
لقد بدأت رحلة نزوحي بعد الأسبوع الأول من الحرب لمحافظة دير البلح؛ ورغم ان الحرب كانت ببدايتها إلا أن رحلة نزوحي كمن تنتزع روحه من جسده. كنت وأنا أعتلي فوق الجيب أنظر خلفي لكل متر نتخطاه.. لا أعرف لماذا هل هو تمسك وحنين بمكاني .. أم انه احساس وخوف بعدم العودة. انه الخوف من المجهول يا صديقي، هويتنا الآن باتت مفقودة ولا مكان بها في وسط كل شيء حولنا!!