الكاتب:
يونس العموري
وفي ظل الإبادة ، وفي ظل محو المدن بارض النخيل والبحر ، والقتل المجاني ، ومحرقة العصر ، وفي ظل الصمود الأسطوري رغما وارغاما ، وفي ظل لغة المدافع والاحاديث السياسية الخجولة، وفي ظل الحقد على ابن كنعان ، والعربي العدناني وابن البتول وكل تاريخ الاساطير المحكية ، تصمت ام المدائن ويعبرها الجند المدججين بالحقد الاعمى على الحجر قبل البشر ، والانتقام سيد الموقف لبسالة ابتسامة تحت الركام في غزة المقهورة ، والقدس تدفع الثمن والاثمان منذ البدايات حيث القتل هناك والحصاد هنا في ازقتها ، حيث انهم بأزقتها العتيقة يرتعون بوقاحة المتزنر بسلاح بن غفير القادم من بلاد ما بين النهرين ، والاسوار تنام باكرا ويهجرها عشاقها ومجانيها ، وتختبئ خلف القلاع على أصوات الانين لعذابات المقهورين بكل مدائن التيه والتوهان وتلك المسماة بارض الرباط حتى الرمق الأخير لحياة من لا حياة لهم في كنف معادلة وجع القتل والاحتراق. وهي التي لم تغير لغتها يوما منذ العهد القديم، ولم تقبل ان تتلقح بغير لقاح ابجديات يابوسة وان كانت العبرية تحاول ان تجد لها مكمنا ومكانا.
مرة اخرى يكون حديثنا عن القدس وللقدس وحول القدس ولن نمل قرع جدران الخزان، ووسط كل هذا الضجيج لا حياة لمن تنادي اذا ما ناديت حيا، حيث اننا نجد انفسنا مجددا امام فرض حقيقة القدس، وما هية القدس في المعادلة الانسانية عموما. فمن جديد نكتشف ان للقدس حسابات اخرى غير حسابات باقي المدائن، فالقدس تاريخيا تحررنا من هزائمنا ومن انكساراتنا فيما نحن نسعى الى تحريرها، وهي توحدنا فيما نجهد من اجل توحيدها، وهي تفتح لنضالنا الافاق الواسعة فيما نحاول ان نكسر من حولها القيود، ذلك ان القدس تجمع الامة بكل مكوناتها، كما الانسانية بكل حضاراتها وثقافاتها واديانها، بل في القدس تنكشف العدوانية الفعلية لكارهي الانسان بشكله الأدمي وللفعل الصهيوني بكل ابعاده لا على اهل القدس وحدهم، ولا ابناء الامة كلها، بل على الكون بأسره. معادلة القدس تفرض نفسها وحضورها في ظل غياب الضمير الانساني الحر المتحرر من كل اشكال الضغط وحسابات المصالح الإقليمية والدولية وتلك المتعلقة بحسابات الأنظمة والدول وحسابات البزنس للشركات عابرة القارات ومتعددة الجنسيات التي أصبح لها كلام الفصل بحسبة صناعة القرارات السياسية للدول وللأنظمة.. القدس بكل مرة تفرض نفسها وتفرض حضور قضاياها والصراع متأجج بكل اشكاله لطالما ان منطق الضاد يفرض نفسه ولن يكون الكلام الا كلاما عربيا متناقض وعبرانية الكلام واساطير حكايا تلموديه....
القدس لا شك انها تعيش اليوم واحدة من مسلسلاتها الهادفة الى تأويلها وتأويل وقائعها وتُفتح معاركها ببشرها وحجرها وتهجير انسانها في محاولة لتفريغها من محتوياتها وتزييف حقائقها... وهي التي تسهم بإثارتنا واثارة كل حساسيات وحسابات التاريخ واستحضاره... وما من استكانة فلسطينية والقدس نازفة ليل نهار...
القدس هي التي تفرض الحرب وقد تفرض برد السلام وقد تكون بوابة العبور للشقاق والخلاف حينما يكون التفريط بثوابتها سيد اللحظة، ومن المؤكد انها حجر الزاوية الأساسي في التصالح وتوحيد الصفوف وانجاز العمل الوحدوي لكل اطياف اللون الفلسطيني والعربي على مختلف وتنوع المشارب الفكرية والأيدلوجية عندما يصبح التشبث بالحقوق الراسخة ثابتة ثبوت تلالها....
هي معيار الثوابت والتمسك بها، وهي مقياس التشبث بقومية العرب ان كان للعروبة من فاعلية بهذا الصدد، وهي التي تملك مفاتيح الولوج الى كل ضفاف الانسانية ومستوياتها فلكل شعوب المعمورة مكامن بها وبصمة من بصمات حضارتهم. والصراع عليها وفيها صراعا ليس بالجديد ولنا ان نقول انه صراع يأخذ الطابع البشري الحضاري، حيث الصراع الدائر رحاه الأن في ثناياها انما هو الصراع الفعلي ما بين اقطاب معادلة الخير والشر وهو انعكاس لطبائع الأمور منذ الأزل ففقيرها يصارع اباطرة الظلام الساكنين على هوامشها ومن يدعون زورا وبهتانا انهم اسيادها والقدس لا تعترف بسادة او امراء فيها حيث انها من تصنع السادة والأمراء ان هم عشقوها وتمرغوا بترابها وعايشوا أقاصيصها وحكاياتها وجالوا بأزقتها وتنشقوا عبق أبخرتها، واعتلوا اسوارها وانشدوا اهازيج اغانيها ورتلوا مزاميرها وفككوا النقوش الموسومة على جدرانها...
ولابد من الادراك هنا ان فلسطين بدون القدس معادلة مبتورة وغير مقروءة او مفهومة المعالم ولا يمكن ان تستوي رموزها وحسبتها... ولابد من الادراك ايضا انه ومن خلال القدس وفعل القدس تتغير معالم العوالم... فاذا كانت غزة محاصرة وعداد القتلى في ثناياها لا يتوقف ، فالقدس تعيش اعتى اشكال الحصار وان كان كسر الحصار ووقف اطلاق النار في غزة فعلا ضميريا بامتياز فلابد من الادراك ان كسر الحصار عن القدس فعلا نضاليا وكفاحيا اساسه العمل بشكل متواصل وبكافة السبل والإمكانيات المتاحة والممكنة وان تظل خياراتنا مفتوحة ولنا الحق دائما بذلك.
من المهم العلم والكل يعلم ان القدس معيار صدق القادة وكذبهم ومقياس الفعل النضالي او الإرتكان لمخططات حكومات تل ابيب المتعاقبة... وبالتالي لابد ان تعتبر قضاياها هي محور الفعل الأساسي لكافة الأطر الوطنية والرسمية في النشاط السلطوي للسلطة الفلسطينية، الا ان الحقيقة وللأسف قد تكون مغايرة بعض الشيء، فكثيرة هي خطابات الاستجداء التي تجد طريقها على طاولة هذا المسؤول او ذلك المتنفذ دون جدوى، ومعطيات الواقع الراهن تؤكد الكثير من القصص والروايات ....
فقير القدس لا يملك الا ان يقوم بمخاطبة سادتنا في محاولة منه ان يتعلق بقشة الغريق... وتكون الردود معلومة ومعروفة بل انه يتوقعها... وانياب التخريب تباشر في ممارسة افعالها وتضيع القضية والمسألة التي تنتظر القرار السديد من حضرة سيد الباب العالي وتذهب ادراج الرياح كافة الطلبات المقدمة لمد يد العون.. وكل ذلك ناجم عن عدم وجود خطة استراتيجية فعلية لمواجهة السياسات الاحتلالية في القدس التي اعتمدت وتعتمد اسلوب التشتيت وبعثرة القضايا على اكثر من صعيد ومستوى لإرباك الجانب الوطني في القدس وفي ظل ضياع منهجية العمل الوطني والتعاطي مع القضايا بشكل انفرادي وفردي وشخصي ومن ليس له بواكي ستضيع طلباته وبالتالي سيكون الضياع الفعلي للقدس.
لابد من انقلاب بمفاهيم التعامل مع القدس ولفظ قوانين اوسلو التي تعتبر بحكم الفهم الدولي والمنطق العملي قد انتهت صلاحياتها واصبحت غير ملزمة لأي من اطرافها وحيث ان الجانب الفلسطيني الرسمي ما زال يراهن على امكانية احداث اختراق دراماتيكي في الفعل السياسي التسووي.... وفعل الاختراق لن يحدث لطالما ان الرهان يعتمد اولا واخيرا على مسار العمل التفاوضي ليس أكثر...
واذا كان للقدس من مكان في ظل متغيرات العوالم العربية وما تشهده من فعل انقلابي فلابد من تحديد القدس في خطاب من ينتفضون الان بكل ازقة العواصم المرتعشة والمهتزة في ظل هتافات ميادين التحرير في تلك المدائن... حيث ان للقدس حضورا لابد من فرضه في ازقة تلك المدائن وهي التي لم تنظق كلمتها حتى اللحظة تجاه ام المدائن العتيقة...
وإذا أردنا للقدس ان تظل عربية ناطقة بلسان قحطاني عدناني فلابد من مراجعة الذات لأولي الأمر في عوالم العرب للكيفية التي يتم التعامل مع قضايا القدس..