الكاتب: نبيل عمرو
كان السلام المصري الإسرائيلي ناقصاً بفعل افتقاره للتطبيع الشعبي، وعارياً بفعل انعدام عمقه الإقليمي، وما ينطبق على مصر ينطبق على الأردن، مع اختلافات لا تمس جوهر المسارين، والمشترك الأكثر وضوحاً أن اتفاقاته صمدت طويلاً رغم العواصف التي هبت عليه ومن حوله.
وإذا ما وسعنا الدائرة حيث التمدد الدراماتيكي للعلاقات المستجدة بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، وفق مسار "ابراهام" الأمريكي، فإن هذا التمدد ظل عارياً عن المقومات الفعالة لتحقيق ما هو مرجو منه، وهو استبدال الصراع التاريخي بين العرب وإسرائيل، بوفاق واتفاق، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق ما دام في الشرق الأوسط قضية أساسية لم تحل وما دامت شعوب المنطقة غير مقتنعة بأن ما جرى منذ زيارة السادات لإسرائيل قبل عقود وما تلاها من تطورات، يجسد سلاماً حقيقيا ولا حتى مقدمات لسلام.
منذ بداية مسيرة العلاقات المستجدة مع إسرائيل وإلى يومنا هذا توقفت الحروب النظامية بين الجيوش لتندلع حروب أكثر شراسة كانت أبرز نتائجها، عزل مسألة السلام داخل نطاق الدول التي أبرمت اتفاقات مع إسرائيل، قابلها اشتعالات متصاعدة على الجبهة الأصلية، الضفة وغزة والقدس، وعلى الجبهة الشمالية سورية ولبنان والتواجد العسكري الإيراني على أرضها.
الدول التي أقامت علاقات مع إسرائيل فرضت عليها نواقص "السلام" نوعاً من حرب باردة مع الدولة العبرية، ذلك من خلال التزام المطبعين القدماء والجدد بثوابت الموقف العربي المقرر في القمم من القضية الفلسطينية والانخراط في الجهود الفلسطينية لملاحقة إسرائيل دولياً بغية إنهاء احتلالها، بما في ذلك الشكاوى المؤلمة لإسرائيل أمام المحاكم الدولية، وأمام الجمعية العامة ومجلس الأمن.
وما دامت إسرائيل اختارت وضع العربة أمام الحصان في أمر السلام مع العرب، تاركة الشأن الفلسطيني في وادٍ آخر بعيد، فقد تأكدت من أن السلام مع غير الفلسطينيين لا فوائد استراتيجية منه، وإذا كان لا بد من دليل دامغٍ على ذلك، فهو ما آلت إليه محاولة التطبيع مع السعودية التي تعطلت أمام الاستعصاء بشأن الحل الفلسطيني الذي تلتزم به السعودية مع باقي العرب، بنص وروح مبادرة السلام العربية وأساسها الحقوق الفلسطينية التي أصبحت محل إجماع دولي لا نقاش فيه.
حرب غزة التي لم تتوقع أطرافها المباشرة القريبة والبعيدة أن تصل إلى ما وصلت إليه زمنياً لتكون أطول حرب عربية إسرائيلية إقليمية متصلة، ولتكون خسائرها على كل الجبهات هي الأفدح دماراً ودماءً وانسداد آفاق، هذه الحرب كشفت ما كان مستوراً في زمن ما قبلها وما كشف الآن فأهمه وأكثره دلالة، هشاشة العلاقات السلمية بين مصر وإسرائيل، وأساسها الشكوك المتبادلة والمتنامية، والتي كان إخفاؤها بمثابة ضرورة اضطرارية يحتاجها الطرفان لإدارة الصراعات وأداء مهماتها، وخصوصاً في ما يتصل بالدائرة المشتركة بين الطرفين "غزة".
كانت إسرائيل مرتاحة للدور المصري في أمر التهدئة مع حماس، وكانت مصر فعالة في هذا المجال بفعل نجاحات ملموسة أكدت قدرتها على احتواء الموقف والتقليل من خسائره، ومثلما أساءت إسرائيل تقدير المدى الذي يمكن أن تصل إليه حربها على غزة بما حدث في السابع من أكتوبر وما تلاه من اشتعالات لا ترى نهاياتها، فقد أساءت تقدير تأثير الحرب ووصولها إلى التماس المباشر مع مصر وعليها داخلياً وإقليمياً ما وضع الدولة الإقليمية العظمى في حالة حرج خصوصاً حين احتلت إسرائيل معبر رفح، وطلبت من مصر التعاون في إدارته بما يعني تسليماً بالأمر الواقع.
رفضت مصر الطلب الإسرائيلي المسموم والملغوم، ما أثار حفيظة صناع القرار في إسرائيل وما دفعهم إلى التصعيد مع مصر، حد اتهامها بأنها من قام بتسليح غزة عبر الأنفاق وأنها وعلى مدى طويل، كانت تؤدي لعبة مزدوجة أساسها تحالف مع حماس! في سياق حاجة مصر إلى تهدئة داخلية مع الإخوان المسلمين، نشرت ذلك صحيفة معاريف ليس على هيئة استنتاج صحافي وإنما بما هو أقرب إلى الموقف الرسمي الحكومي.
إلى أين ستصل الأمور بين مصر وإسرائيل على ضوء تطورات الحرب على غزة وعنوانها الراهن رفح، هذا ما ستكشفه الأيام القادمة مع أن المقدمات المنطقية لما بعدها تشير إلى مزيد من التصعيد ربما والأمر بيد السيادة المصرية. فهل يتحوّل السلام البارد أصلاً إلى عكسه.